تسويات تبغي الربح

لم نر زمنا في لبنان مثل هذا الزمن. لا في الدولة ولا في المجتمع.

ليسمح لنا المتفائلون ألا نجاريهم هذه المرة في تفاؤلهم. وليسمح لنا التسوويون ألا نطاوعهم في تنازلاتهم. إن لم تتحلوا بجرأة قول الحقيقة، فلا يأخذن على خاطركم إن قلناها. يكفي تنازلات تحت ستار الواقعية. ويكفي تسويات تبغي الربح. نعرف أن للظروف أحكامها، لكن للشعب أيضا أحكامه. منذ ثلاثين سنة وأنتم تراكمون الأخطاء من دون ندامة. تداوون الخطأ بخطيئة، والخطيئة بجريمة، والفشل بهزيمة. والذين يجيئون، يأتون ليكملوا لا لينقضوا. تتقاذفون التهم والتهم تلبسكم جميعا.

القادة الكبار يقدمون أحيانا على خيارات خلاف الرأي العام لإجراء إصلاحات ولإنقاذ الأمة. أما في لبنان، فالقادة المتوافرون في السوق المحلية، يخالفون الرأي العام للقيام بأعمال ضد الأمة والصالح الوطني. في الزعامة يخطئون، وفي المقاومة يضللون، وفي السلطة يفشلون، وفي السياسة يخيبون، وفي المواقف يتلعثمون.

يتفادون المواجهة إلى أن يضطروا إلى تسجيل موقف هو رفع عتب خشية أن يزايد عليهم حليف أكثر مما للرد على خصم. صارت التغاريد على "التويتر" بديل المجابهة والساحات ووقفات العز. يدلون بآراء ويشكون وينتقدون كأنهم منظرو مقاه، ولا سلطة بين أيديهم بها يحكمون ويعاقبون، يحاسبون ويصححون، ويعيدون العدالة إلى نصابها. هاجسهم إنقاذ شعبيتهم لا إنقاذ الشعب. والغرور، أنهم يظنون لبنان بدأ معهم، وكذلك النزاهة والمهابة والوطنية والحق وفن السياسة وعلم الاستراتيجيا. قبلهم كان العدم، كان ما قبل الخليقة.

شعبنا مقهور ويهاجر من القهر والقرف، وناقم على كل من قايض بإنجازاته وتضحياته وشهدائه. لكنه ينفس غضبه في الإحباط عوض أن يحرره في الثورة. والمرارة أنه يدعهم يكملون ومنه يهزأون وبه لا يكترثون. قتلوا حياته وأحلامه، عكروا صفاءه وفرحه، سرقوا قضيته ومقاومته، وخطفوا دولته ومستقبله. جعلوا لبنان للغرباء مقرا وللبنانيين ممرا. لا الأعراس ما زالت أعراسا، ولا الأفراح ما زالت أفراحا. وحدها المآتم حافظت على خصوصيتها، لكن الأموات ما عادوا يرجون القيامة.

لم نر زمنا مثل هذا الزمن. لا في الدولة ولا في المجتمع. لا في المؤسسات الدستورية ولا في تفسير الدستور. لا في الأجهزة العسكرية والأمنية ولا في القضاء العسكري والمدني. لا في السياسة ولا في الاقتصاد. لا في الأحزاب ولا في التيارات. لا في الإدارة ولا في الإعلام. لا في الجامعات ولا في المدارس. لا هذه الأحزاب أحزابا، ولا هذه التيارات تيارات، ولا هذا القضاء قضاء، ولا هذه النقابات نقابات. نعيش بين عابثين وعبثيين، وبين عاجزين ومتدرجين، وبين مغرورين ومتغطرسين. قحط بالرجال. ندرة في النخب. وراثة بدون ختم الكفاءة. تفوق دون مستوى الجهل. جرأة في اقتراف العيب. تنافس في قلة الأخلاق. وقاحة في احتقار الشعب واستخفاف بقيمته في انتقاء ممثليه.

صحيح أن الشعب يكتفي بالاحتجاج ولا يثور. لكنه يستحق منكم معاملة أخرى ومحبة أخرى. منذ أربع وأربعين سنة وهو يضحي ويتعذب. صمد وقاوم، تهجر وافتقر، أصيب بالجسد والوجدان، واستشهد منه الآلاف. وكلما ظن أنه بلغ آخر النفق برزت في وجهه أنفاق جديدة. أعطاكم أصواته وحناجره، منحكم ثقته وأودعكم مصيره. فأي مصير تحضرون له؟

ألم تستوقفكم نسبة الغضب لدى الرأي العام من أحداث الأسبوع الماضي وتعييناته وأحكامه وخطاباته وسجالاته؟ ألم تفكروا بنسبة الأمل بالمستقبل وأنتم تطلعون على أعداد النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين؟ ألم ترعبكم نسبة البطالة وأنتم تشاهدون الشباب الباحثين عن عمل؟ ألم تكتشفوا نسبة العائلات المهاجرة وأنتم تقرأون صفحات الوفيات؟ ألم تلاحظوا نسبة المؤسسات المقفلة وأنتم تجتازون الأسواق؟ ألم تستوقفكم نسبة العقارات المعروضة للبيع وأنتم تتصفحون الإعلانات؟ ألم تبصروا نسبة الأبنية غير المكتملة وأنتم تجوبون في البلاد؟ ألم تبلغ آذانكم نسبة أنين الناس، وألم تر عيونكم نسبة الفقراء؟ كل البذخ الجديد ثروات تدور في حلقة مقفلة قليلة العدد وكثيرة الشكوى.

لا ترموا كل شيء على العهد الحالي. فجميعكم جزء منه إن بانتخابكم إياه، أو بوجودكم في المجلس النيابي ومجلس الوزراء وسائر مؤسسات الدولة. إذا كنتم معارضين، أين الجبهة المعارضة؟ من تضم؟ وأين اجتمعتم وأصدرتم وثيقة مشتركة؟

الانحدار التصاعدي لم يبدأ مع هذا العهد. وأصلا، ليس العهد محصورا برئيس الجمهورية. في حالات الأخطاء تحصرون السلطة برئيس الجمهورية، وفي حصاد المغانم تقولون إن الطائف وزع الصلاحيات. قرروا. فما دامت الصلاحيات لم تعد في يد رئيس الجمهورية، هلموا واستعملوها وأوقفوا الفضائح والصفقات والأحكام القضائية الاعتباطية واستجوبوا السيد حسن نصرالله حول مصانع الصواريخ وأضيفوا مردود إنتاجها إلى الموازنة. لكن مشكلة العهد أن البراكين المتراكمة انفجرت في وجهه، ولم يقو على ضبطها وتبريد حممها، لا بل ساهم حلفاؤه وبعض من تسلقوا عليه وبعض من اختارهم في تحضير ظروف الانفجار والفوضى.

من ينقذ شعبنا؟ من يبشرنا بـ"العهد الجديد"؟ من سيظهر عليه ملاك الرب ويقول له: "ارع شعبي وخرافي"، وأبعد عنه الذئاب الكاسرة؟ بل متى ستحل النعمة على هذا الشعب فيقول: وطني "مدينة موضوعة على جبل"، وطني وطن العظمة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة متكلسة.

لم يمت لبنان حتى تتسابقوا على دفنه. لا يزال ينبض حياة ولا يزال محط اهتمام العالم. مسؤول دولي كبير قال لي الأسبوع الماضي: "لا تخافوا، ستخرجون من أزماتكم حالما يخرج الذين يتاجرون باسمكم. إن قدرة الشعب اللبناني على إنقاذ بلده أقوى من قدرة الدولة، لكنه عديم الإرادة في غياب قيادة تنهض به. شجعنا بعض القيادات الوطنية على الخروج من غيبوبتها إلا أن حساباتها ضيقة. وفي جميع الأحوال، الثابت لدينا هو دعم الجيش اللبناني."