تغيير طبيعة لبنان

تبدو خطوة رضوخ لبنان للضغوط الاميركية وتخليته سبيل عامر فاخوري فرصة كي يحصل تحديد للاولويات والتصالح مع الواقع، بدل الصراخ واطلاق التهديدات الجوفاء.

ما يحصل حاليا في لبنان امر في غاية الخطورة. هناك سعي الى تغيير طبيعة البلد تتويجا لسلسلة من الانقلابات بدأت في العام 2005 لدى اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في ظلّ الاندفاعة الجديدة للمشروع التوسّعي الايراني. هذه اندفاعة ما كانت لتحصل لولا الاحتلال الاميركي للعراق في مثل هذه الايّام من العام 2003. نجم عن هذا الاحتلال، الذي جرت تغطيته بشعارات كبيرة من نوع إيجاد نموذج ديموقراطي جديد مختلف لدول المنطقة كلّها، تغيير لطبيعة العراق. تحوّل العراق الى بلد في بحث مستمرّ عن هويّة له، علما انّه من الدول المؤسسة لجامعة الدول العربية في 1945.

يبدو ان تغيير طبيعة لبنان هو الهدف من وجود "حكومة حزب الله" برئاسة حسّان دياب في "عهد حزب الله" الذي بدأ في الواحد والثلاثين من تشرين الاوّل – أكتوبر 2016، لدى انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية. هناك اكتمال لسلسلة الحلقات التي توجت بانتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية ثم بقيام حكومة حسّان دياب في مطلع السنة 2020.

تشعر هذه الحكومة انّه بات في إمكانها العمل على تغيير طبيعة لبنان مستفيدة من أي ضجة تحدث، بما في ذلك ضجّة انتشار وباء كورونا او تخلية سبيل لبناني يحمل الجنسية الاميركية يدعى عامر فاخوري دين في قضية تعذيب وقتل في اثناء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. اطلق على فاخوري لقب "جزار الخيام"، وهو سجن كبير أقامه الإسرائيليون في بلدة جنوبية لبنانية خلال فترة الاحتلال التي انتهت في ايّار – مايو من السنة 2000.

قامت الدنيا ولم تقعد بعد تخلية فاخوري نتيجة جهود وضغوط أميركية. كشفت الإدارة الاميركية كم الوضع اللبناني هشّ وكم انّ "استدعاء" وزير الخارجية اللبنانية ناصيف حتّي للسفيرة الأميركية دوروثي شاي للاستفسار عن خروج فاخوري من لبنان امر يثير الشفقة على لبنان، حتّى لا نقول السخرية.

عندما تتحدث هذه الحكومة عن تغيير النظام المصرفي اللبناني بحجة انّ حجمه لا يتناسب مع الاقتصاد اللبناني، فانّ ذلك لا ينمّ عن جهل بمقدار ما ينمّ عن نيّة الذهاب بعيدا في التخلّص من لبنان الذي عرفناه وما صنع ازدهاره ابتداء من خمسينات القرن الماضي. اكثر من ذلك، عندما تمسّ حكومة لبنانية باموال المودعين في المصارف، اكانوا مواطنين او عربا او أجانب، فانّها تمس بلبنان في الصميم. لبنان المسيحي- المسلم، لبنان بنظامه الليبرالي الذي جعله ملجأ لكلّ مضطهد في المنطقة العربية. لبنان الذي حمى كل من يضع أمواله في مصارفه. بكلمة واحدة وحيدة، المطلوب حاليا القضاء على الثقة بلبنان. ويبدو ان هذه مهمّة منوطة بحكومة حسان دياب في ظلّ "العهد القوي".

من الواضح ان وزير المال غازي وزني يحاول انقاذ ما يمكن انقاذه. ظهر ذلك واضحا من حديثه الى صحيفة "فايننشال تايمز" والذي تطرق فيه الى اهمّية انقاذ المصارف بدءا بالاستعانة بنسبة محدّدة من اموال المودعين الذين لديهم مبالغ كبيرة. ولكن هل سيسمح لوزني باستكمال خطته الانقاذية التي لم تتبلور بعد كلّيا في بلد معروف تماما ان الانتقام من المصارف مطلوب اليوم اكثر من ايّ وقت، كون المطلوب فعلا هو الانتقام من لبنان؟

من المفيد لبنانيا، اكثر من ايّ وقت، التفكير بطريقة مختلفة، بعيدا عن البطولات الوهمية من نوع شعار الانتصار على إسرائيل في حرب صيف العام 2006. اذا كان من خدمة ادتها تلك الحرب للبنان، فان هذه الخدمة هي القرار 1701 الصادر عن مجلس الامن الذي أعاد الجيش اللبناني الى جنوب لبنان للمرّة الاولى منذ العام 1978. كان مطلوبا بقاء الجيش اللبناني خارج الجنوب. هذا ما كان يريده السوري والإيراني. كان مطلوبا بقاء الجنوب "ساحة" لتبادل الرسائل مع إسرائيل على حساب لبنان واللبنانيين وجنوبهم.

تبدو خطوة رضوخ لبنان للضغوط الاميركية وتخليته سبيل عامر فاخوري فرصة كي يحصل هناك تحديد للاولويات والتصالح مع الواقع، بدل الصراخ واطلاق التهديدات الجوفاء. في نهاية المطاف، رفعت الإدارة الاميركية سيف العقوبات في وجه عناصر من "التيّار الوطني الحر" مثل جبران باسيل وسليم جريصاتي وما شابه ذلك، فكانت تخلية فاخوري و"شكر" وجهه الرئيس دونالد ترامب الى الحكومة اللبنانية.

يبدو واضحا ان "حزب الله"، بغض النظر عن كلام امينه العام حسن نصرالله، ما يزال في حاجة الى غطاء مسيحي يؤمّنه له "التيّار الوطني الحر". هذا كلّ ما في الامر. لو لم يكن هذا الكلام صحيحا، لترك عامر فاخوري، الذي يعاني من السرطان، يموت في السجن...

لا مجال للهرب من تحديد الاولويات. حتّى تحرير القدس الذي يتحدّث عنه حسن نصرالله، فيما شباب لبناني يموت في ادلب وضواحي دمشق وحلب ودرعا في اطار الحرب على الشعب السوري، يمكن ان ينتظر.

ما لا يمكن ان ينتظر هو انقاذ النظام المصرفي اللبناني عبر تحديد ما يمكن عمله وما لا يمكن عمله. ان عملية انقاذ من هذا النوع لا يمكن ان تحصل من دون التواضع والتسلح بالعلم والمعرفة وأصحاب الخبرة بدل الكلام السطحي عن الاستعانة بايران او بالصين او باسواق العراق. ليس لدى ايران ما تصدّره الى لبنان سوى البؤس والسلاح... وكورونا. امّا الصين، فلديها مصالحها التي لا علاقة لها بلبنان في الوقت الحاضر، فيما السوق العراقية مغلقة، الى اشعار آخر، في وجه أي منتجات من لبنان.

رفع دونالد ترامب سلاح العقوبات، فكان له ما أراد من لبنان خدمة لمصالح قد تكون آنية ومرتبطة بالانتخابات الرئاسية. اظهر الرئيس الاميركي انّ كلّ مواطن يهمّه وانّه لا يقبل باحتجاز رهائن اميركيين في ايّ مكان في العالم. في المقابل، اكتشف لبنان ان عليه التفكير في نفسه اوّلا وفي كيفية حماية نظامه المصرفي في حال كان يريد فعلا البقاء.

لا مجال لاضاعة مزيد من الوقت. سيتبيّن في القريب العاجل هل تمتلك حكومة حسّان دياب حدّا ادنى من الوطنية لتفادي انهيار لبنان... ام ان لديها مهمّة محدّدة تريد تنفيذها تحت عنوان عريض اسمه تغيير طبيعة لبنان؟ بكلام أوضح، لا مستقبل من أي نوع للبنان من دون استعادة الثقة بالمصارف. آلاف اللبنانيين من كلّ الطوائف سيسعون الى الهجرة. الأكيد ان هجرة المسيحيين ستكون اسهل نظرا الى انّ دولا عدة في الغرب مستعدة لاستقبالهم. سيزيد ذلك من الخلل الديموغرافي القائم والذي حاول اتفاق الطائف معالجته عن طريق المناصفة. من دون مسلمين ومسيحيين يعيشون معا وتربط بينهم مصالح مشتركة، ماذا يبقى من لبنان؟