تكامل اللامركزية والتدويل في لبنان

الواجب الوطني يستدعي استباق الانقلاب النهائي بالصمود الوطني وبعقد مؤتمر دولي وباعتماد اللامركزية.
قوى الأمر الواقع تغير النظام بتعطيله وإجبار اللبنانيين على العيش في اللادولة
لا بد من منع تجيير لبنان "لحامله" مهما كانت الضغوطات. "ما حدا يـمزح معنا"
من الجدير بحزب الله وقف الانقلاب على الدولة ليصبح الحل اللبناني واردا

الموازين العسكرية القائمة في لبنان تصلح لفرض اتفاقات إذعان مع عدو، ولا تصلح لعقد اتفاق شراكة لبناء دولة واحدة. إن اعتماد الموازين العسكرية معيارا لتعديل النظام يؤدي إلى تغيير النظام كلما تغيرت موازين القوى، وهذه عرضة للتغيير دوريا. منذ سنة 1975 والمكونات اللبنانية كافة تذوقت طعم القوة والاستقواء والضعف والاستضعاف، واستقرت ـــ بسبب انقساماتها ــــ في الهزائم المبعثرة عوض أن تتربع على الانتصارات الموحدة. واعتداد البعض اليوم بقوته، من دون رادع، يدفع الآخرين إلى مواجهته في ظل استقالة الدولة من دورها في نظم العلاقات الوطنية بين مكونات الوطن، وانحيازها إلى القوى غير الشرعية على حساب الشرعية وجميع مكونات الوطن الأخرى.

منذ نصف قرن ونحن نعاني هذا الالتباس الخبيث في دور الدولة. مرات كانت الدولة تتفرج على تدهور الأوضاع العسكرية بسبب عجز (الانقسام الطائفي)، ومرات بسبب طموحات رئاسية (بعض قادة الجيش)، ومرات بسبب تواطؤ مع الغرباء محتلين أو أوصياء (بعض رؤساء الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي). ومرات، وهي حالنا اليوم، بسبب هذه الأسباب مجتمعة. ومهما تعددت الأسباب بقيت النتيجة واحدة: فتنة، احتلال، اغتيالات، انقسام وطني، حروب أهلية، وقوع مجازر، تسلط قوى أمر واقع غريبة، تناسل ميليشيات، نشوء مقاومة لبنانية، وسقوط سلطة الدولة ومؤسساتها.

وها هي قوى الأمر الواقع، بالشراكة مع الشرعية، تغير النظام بتعطيله وبإجبار اللبنانيين على العيش في ظل اللادولة واللانظام إلى أن يقبلوا بدولة أخرى ونظام آخر. لا تزال الأطراف الأخرى ترد على هؤلاء بالحوار والصبر والسعي إلى إحياء الدولة الجامعة. لكن استمرار نهج التعطيل العام والاستخفاف بالآخرين من شأنه أن يدفع هذه الأطراف إلى البحث عن بدائل أخرى ذاتية ومناطقية وطائفية لتحاشي سلطة التعطيل.

الواجب الوطني يستدعي استباق الانقلاب النهائي بالصمود الوطني وبعقد مؤتمر دولي وباعتماد اللامركزية. وأي تأخر في مواجهة الانقلاب يصعب وقفه لاحقا لأنه زاحف بثبات، والقائمون به لا يعبأون بمعارضة لم تثبت جديتها بعد، ولا بثورة وهنت في ريعان شبابها. لا مجال لإفشال هذا الانقلاب الجاري مركزيا إلا بتدابير لامركزية بحيث تصبح السلطة المركزية "المحتلة" من دون أرض وشعب وموارد. هذه الخيارات الاضطرارية البديلة تحيي اقتصادا مناطقيا، وتعزز أمنا لامركزيا، وتحافظ على لبنانية هذه المناطق، وتحمي هويتها بانتظار أن تستعيد الدولة الشرعية حريتها وقرارها ولونها الوطني.

ليت الشرعية تستعيد استقلاليتها الدستورية والوطنية اليوم قبل الغد كيلا يستعيد كل مكون استقلاليته الذاتية والمناطقية. لكن الواضح أن حزب الله، المتقدم في مشروعه، يحول دون تجاوب الشرعية بمختلف مسؤوليها مع هذا النداء. هذا المشروع المتقدم يحتم التعاطي معه من موقع المسؤولية الوطنية كما فعلنا في محطات تاريخية سابقة ومنعنا سقوط لبنان. ليس في وارد المكونات السيادية والديمقراطية أن تخضع للأمر الواقع مهما كانت التضحيات، وليس في واردها قبول تجيير هذه الدولة "لحامله" مهما كانت الضغوطات. "ما حدا يـمزح معنا" نحن أيضا.

هذه المكونات لا تطالب حزب الله بالتراجع أو التنازل، ولا تحبذ نجدة قوة أجنبية ضده. المؤتمر الدولي لا يعني البند السابع حتما. جل ما تريد أن يعرفه حزب الله أنها لن تتراجع عن إيمانها بلبنان الواحد، ولن تتنازل عن دورها الخاص والطليعي في الدولة، ولن تقبل بديلا عن الشراكة الوطنية، ولن تدع هوية لبنان تتغير. لكن يفترض بحزب الله، بالمقابل، أن يدرك ألا داعي بعد للمقاومة العسكرية في لبنان، ولا للقتال في دول الشرق الأوسط؛ والأفضل أن يطور دوره السياسي ويتناغم مع المكونات اللبنانية الأخرى.

اقترح البطريرك بشارة الراعي الذهاب إلى الأمم المتحدة بحثا عن سلام للبنان لا عن حروب في لبنان. التدويل، مع الأسف، هو قدر الشعوب المنقسمة حول وطنها. ندرك أخطار التدويل وقد كنا ضحية اللعبة الدولية أكثر من مرة بسبب انقساماتنا وتعدد ولاءاتنا وغبائنا وعنادنا وتقاتلنا الأهلي والأخوي. لن نقبل بتدويل يثبت الأمر الواقع كالسلاح غير الشرعي والتوطين الفلسطيني وبقاء النازحين. حينئذ لا ندعو إلى التدويل، بل إلى المقاومة. نعرف أن غالبية التدخلات العسكرية الغربية في الشرق الأوسط (أميركا ودول حلف شمال الأطلسي) في العشرين سنة الأخيرة افتقرت إلى البعد الاستراتيجي والديمقراطي والأخلاقي.

لكن الحقيقة التاريخية تكشف ثابتتين: الأولى: أن كلما سيطر سلاح في لبنان، أكان لبنانيا أو غريبا، تسلك الأزمات اللبنانية درب التدويل لأن ما من سلطة محلية كانت قادرة على حل الأزمة السياسية من دون حل معضلة السلاح. والثابتة الأخرى: أن التدخل الغربي في لبنان كان دوما إيجابيا وسلميا ولمصلحة وحدة لبنان وشرعيته لأن الغرب ـــ ويا سبحان الله ـــ حريص على وجود لبنان الحضاري والمسالـم:

التدخل الفرنسي العسكري سنة 1861 أنهى تقسيم إمارة جبل لبنان بين قائمقاميتين ووحدها في نظام المتصرفية. الانتداب الفرنسي سنة 1920 أكد مقررات مؤتمري ڤرساي وسان ريمو ونقل اللبنانيين من المتصرفية إلى دولة لبنان الكبير. إنزال قوات المارينز الأميركية سنة 1958 أوقف الأحداث الدامية وحال دون التحاق لبنان بالوحدة السورية/المصرية وأمن انتخاب رئيس الجمهورية. القوات الدولية في الجنوب سنة 1978 ثبتت حدود لبنان الدولية وحدت من توسع الاحتلال الإسرائيلي، وسنة 2006 أشرفت على وقف الحرب وتنفيذ القرار 1701. والانتشار الموقت للقوات المتعددة الجنسيات سنة 1982 أوقف الحرب الإسرائيلية وأشرف على نزع سلاح المنظمات الفلسطينية وانسحاب مسلحيها. وأي دور أممي جديد محتمل سيعطل مسبقا أي اعتداء إسرائيلي يحوم في الأجواء.

من هنا، عوض أن يشكك السيد حسن نصرالله في التدويل ويطلق اتهامات وتهديدات ـــ وهي لا تخيفنا ـــ جدير به أن يوقف الانقلاب على الدولة ليصبح الحل اللبناني واردا. وإلا فالتدويل آت من دون طلب، ومن دون كاتم صوت. لقد وقع حزب الله في قضية التدويل بما وقع فيه بالنسبة للفدرالية. يرفض الفدرالية ويطبقها على الأرض، ويرفض التدويل ويوجه إليه، بفعل ممارساته، بطاقة دعوة مع إشعار بالوصول.