تونس تستعد لتجاوز اختبار "النهضة"

من غير المستبعد أن يلقن التونسيون الإخوان درسا جديدا.

تظل بعض تجارب مصر السياسية والأمنية والاجتماعية مصدر ارشاد لكثير من الشعوب العربية، للمضي على طريقها وتحاشي الوقوع في فخاخها. وتمر تونس منتصف الشهر المقبل بواحدة من الاختبارات المهمة في تاريخها الحديث، بعد أن رشحّت حركة النهضة الإخوانية القيادي عبدالفتاح مورو لمنصب رئيس الجمهورية، ضمن حزمة مرشحين، بعضهم محسوب على التيار الإسلامي، وبعضهم على استعداد للتحالف معه، وفئة عريضة لا تزال تبغضهم ولا تثق فيهم وترى ضرورة حرمانهم من المنصب الرفيع.

منذ الإعلان عن ترشيح مورو، نائب رئيس حركة النهضة، وبورصة التقديرات لم تتوقف، حيث اعتبرت شريحة كبيرة من المواطنين أن إخوان تونس يمضون على الخطوة الفاشلة التي سلكها أقرانهم في مصر، وأن الشعب يتعرض لمؤامرة شبيهة عندما زج الإخوان بمرشحهم وجلسوا على مقعد الرئاسة لأول مرة ودخلوا معارك عديدة للاحتفاظ به، حتى جرفتهم الشظايا الشعبية لثورة 30 يونيو 2013.

تبدو فرص تكرار السيناريو ذاته مواتية في تونس، بحكم الدور المتصاعد الذي يلعبه هؤلاء في الحلبة السياسية، ولغة الخطاب المطاطية التي جعلتهم رقما مهما في معادلة السلطة والمعارضة، ونجاحهم في عقد تحالفات مع أحزاب تنحدر من مشارب مختلفة، عقب تلوين كلماتهم واللجوء إلى عبارات مخاتلة بما يتماشى مع التطورات، ويوحي بالتغيير والاستفادة من تداعيات التجربة المصرية، والزعم بالفصل بين الدعوي والسياسي.

راجت التوقعات أكثر مع كثافة المرشحين المدنيين، حيث يتيح العدد الكبير فرصة جيدة لتفتيت أصوات هذا التيار، وقد يصبح الطريق أمام مورو وجماعته ممهدا، وتخسر تونس تجربتها الديمقراطية الرائدة. فلدى الكثير من المراقبين اعتقاد أن التيار الإسلامي إذا وصل إلى السلطة خربها، لأنه لا يريد الابتعاد عنها، بصرف النظر عن التكاليف الباهظة التي يدفعها المجتمع، ويتخذ من التصورات والسياسات ما يمكنه من تحقيق هدف يلتف حوله التنظيم الدولي للإخوان، وكل من يراهنون على دوره في شتى أنحاء العالم.

لن يتورع الإخوان عن اللهث وراء السلطة في أي مكان واستئصال الهوية الوطنية، وأن تونس باتت مهيأة لقفزة نوعية كبيرة بعد تجربة استمرت سنوات من المشاركة قطفوا خلالها مكاسب كثيرة، ويعتقدون أنه حان وقت المغالبة، لتكون تونس مركز جذب وبؤرة لتيار نجح في الحفاظ على انتشاره في بعض دول شمال أفريقيا، ويعمل على تعزيز حضوره بوضع يده على قمة هرم السلطة في واحدة من أكثر البلدان انفتاحا في المنطقة، وتوصيل رسالة توحي بأن لفظه ونبذه والخصومة معه خطأ عظيم، في إشارة إلى من هم خارج تونس، ترمي إلى فتح النوافذ أو حتى مواربتها.

تستحوذ انتخابات الرئاسة في تونس على زخم إقليمي ودولي، ويتجاذبها فريقان. أحدهما يتبنى خطابا مراوغا يريد أن يقحم النتيجة السابقة في وسطه، ويؤكد أن تفوق المرشح الإخواني الدليل الوحيد على نزاهة العملية الانتخابية ليتجنب التعرض للضغوط السياسية، ويتحاشى مواجهة تكتلات حزبية قوية لصده.

والفريق الآخر يعمل على كشف العورات ويصمم على أن تجربة تونس أبعد من حسابات الإخوان الضيقة، ويرى أن سقوط مرشحهم فرض عين وكفاية، لأن الانعكاسات السلبية للنجاح ربما تكون مدمرة للنموذج التونسي.

يسعى الفريق الثاني إلى اسقاط مورو بالضربة القاضية، وعدم حصوله على نسبة كبيرة من الأصوات في انتخابات الرئاسة. ففي حالة الفوز سوف يتصاعد حلم السيطرة على البرلمان في الخطوة التالية، لاستكمال مسلسل الهيمنة على جميع مفاتيح السلطة، الرئاسة والبرلمان والحكومة، فضلا عن الإدارة المحلية. وكلها علامات قوية لتقويض التجربة التونسية.

ما يلفت الانتباه في تطورات المسألة الإخوانية في العالم أن روافدها تركت انطباعات سلبية في تونس، عكس ما يردده البعض من خصوصية نادرة لتجربتهم السياسية حتى مكنتهم من تقديم نموذج للتعايش بين التيار المدني والإسلامي. فما حدث من فضح لأهداف الإخوان في مصر لم يذهب هباء بشأن علاقتهم القوية بالتنظيمات المتشددة، وعدم وجود فروق حقيقية بين معتدلين ومتطرفين، ورغبتهم الحثيثة في السيطرة.

ولذلك من غير المستبعد أن يلقن التونسيون الإخوان درسا جديدا. فإذا كانوا قبلوا بهم كشريك في السلطة خلال فترة معينة فلا يعني ذلك السماح لهم بنفي الآخر، وإنهاء تجربة مدنية واعدة في المنطقة. فالتطور السياسي الذي حدث في تونس يمكن أن يذهب مع الريح لو نجح الإخوان في تعميم التمكين.

أدت هذه المخاوف إلى رفع درجة الاستنفار واليقظة واقدام قوى مدنية على مراجعة بعض المسلمات حيال فكرة التعايش مع الآخر الإخواني. فتونس لا تملك مؤسسة عسكرية لها باع طويل في دهاليز الحياة المدنية تقف بالمرصاد لتجاوزات الإسلام السياسي وملحقاته، لكن لديها أحزاب ونقابات وطنية تستطيع مقاومة الخطر الذي يمثله هذا التيار من خلال التكاتف والتلاحم ضده، وسد الثغرات التي قد يتسلل منها، ومنع تحكمه في مفاصل الدولة أو القبض على أكثر مقاعد السلطة حيوية.

يدرك التونسيون أن تميز بلدهم يأتي من الحفاظ على الطابع المدني، وكل ما ينطوي عليه من انفتاح، وقد يصل أحيانا إلى حد تبني أفكارا صادمة لمعتقدات وقيم راسخة. ومهما حاولت قيادات في حركة النهضة، وفي مقدمتها عبدالفتاح مورو، التجاوب مع قوانين مثل المساواة في المواريث أو غيره، فثمة فئة كبيرة من المواطنين تتعامل مع ذلك باعتباره وسيلة لغاية أو انحناء لعواصف مجتمعية عاتية يمكن الانقضاض عليها لاحقا.

وفرت تجربة حكم الإخوان القصيرة في مصر بكل أخطائها الأمنية، والطويلة في السودان بكل عيوبها السياسية، والعنيفة في ليبيا وما حوته من دمار لهياكل الدولة، فرصة للتونسيين لقراءة المشهد على حقيقته، بدون وقوع في أخطاء الآخرين. الأمر الذي يمكنهم من تحديد مصيرهم بأنفسهم، بعيدا عن أي تأثيرات مباشرة من قبل جهات تريد خطف السلطة في تونس لصالح تيار منغلق حتى لو أبدى سماحة ظاهرة في التكيف مع الحداثة. هم شعب يعتز بمدنيته، ومن الصعوبة أن يتساهل في مكاسبه على أيدي إخوان أو غيرهم.

 متوقع أن يتجاوز التونسيون الاختبار الذي وضعتهم فيه حركة النهضة عن قصد، ويؤكدون أن حريتهم أغلى من تعايشهم مع جماعة تتربص بهم، وتعمل لأجل تسخير إمكانياتهم لخدمة أهداف تتخطى مصلحة بلدهم، ويلقنون التيار الإسلامي درسا قاسيا في كيفية احترام الخصوصية الوطنية، وقادرون على تطوير نموذجهم في الاتجاه الصحيح، ولن يكونوا مضطرين لمزيد من التسامح مع من يعملون على تطويع بلدهم لخدمة التنظيم الدولي للإخوان.

وإذا كانت مصر مضت على طريق تونس في ثورة يناير 2011، فإن المجتمع المدني في تونس لن يمنح الفرصة ليواجه اختبارا قاسيا مماثلا لما حدث في ثورة 30 يونيو، فقياداته استوعبت الدرس جيدا، وتخشى أن تكون التضحيات مكلفة، ما يجعلهم حريصون على عدم دخول المأزق أصلا ثم البحث عن أدوات للخروج منه، كما أن إخوان تونس استفادوا كثيرا من جرائم الإخوان في مصر، ما يفرض على الأحزاب والقوى الحية الاستعداد لتجاوز اختبار حركة النهضة بدون خسائر.