تونس من فوضى السياسة إلى فوضى الشارع

الحث على النزول للشارع مغامرة خطيرة من النهضة للعبث بما تبقى من استقرار.
راشد الغنوشي حاول التلاعب بطبيعة الخلاف بين قيس سعيد وهشام المشيشي
لا يجوز التعامل مع الشعب باعتباره قاعدة انتخابية ترجح غلبة طرف على آخر
حركة النهضة تريد توجيه ضربتها الأخيرة من خلال تظاهرة مؤيدة للحكومة

في السياسة ليس صحيحا دائما الاحتكام السريع إلى الشارع. ما يحدث في تونس يشير إلى أن السياسيين قد وضعوا الدستور على الرف وصاروا يتبارون على شعبية خادعة كما لو أنهم في حلبة للمصارعة.

لا يوجد في العمل السياسي داخل الدولة شيء اسمه العزوف عن الحوار. لا يحق لموظفي الخدمة العامة أن يدير البعض ظهره للبعض الآخر وبالأخص إذا كان اولئك الموظفون يضطلعون بمهمات حساسة.

في زمن عصيب كالذي تمر به تونس حيث تحاصرها الأزمات الاقتصادية والصحية من كل جانب ينبغي أن لا يتم التعامل مع الشعب على أساس كونه قاعدة انتخابية وأصواتا ترجح غلبة طرف على الآخر.

ذلك تصرف طفولي لا يمكن القبول به. ويمكن أن يُحاسب عليه القانون. فالعمل في الدولة يقوم على أساس خدمة الشعب لا استخدام الشعب في المناكفات والمعارك الجانبية.

ولو عدنا إلى الخلاف بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء فهو يتعلق بأمر لا صلة للشعب به. إنه خلاف على الصلاحيات التي حاول رئيس مجلس النواب أن يتلاعب بها أمام الرأي العام. وهو أمر مؤسف.

نشأ الخلاف من تمسك رئيس الجمهورية بحقه في رفض أن يؤدي وزراء جدد أمامه اليمين الدستورية. ذلك شيء كان من الممكن أن يبقى طي الكتمان ويعمل رئيس الحكومة على تخطي تلك العقبة اما عن طريق الاستجابة لرغبة رئيس الجمهورية بتغييرهم أو التفاهم معه.

لم يكن ضروريا أن يتم الاعلان عن الوصول إلى طريق مسدودة مع أول خطوة كما أن الرجوع إلى الشعب لا ينطوي إلا على الدعوة إلى الفوضى، بحيث يضيف الشعب سببا جديدا إلى خلافاته.

اما إذا كانت حركة النهضة التي يرأس زعيمها مجلس النواب قد دخلت على الخط باعتبارها طرفا في الخلاف فذلك ما يتحمل تبعته رئيس مجلس النواب الذي سمح لجهة حزبية أن تتدخل في خلاف حكومي.

أعتقد أن ذلك يشير إلى تداخل بين السلطات وهو ما لا يجوز في بلد استطاع بجدارة أن يجتاز أولى عتبات الديمقراطية. فتونس بالرغم من فوضى أحزابها نجحت في تطبيع السلوك الديمقراطي شعبيا.

كان على الأحزاب أن تتعامل مع ذلك النجاح بإيجابية.   

ذلك لم يحدث بحيث أن الظاهرة الديمقراطية صارت تتعثر بعد الخطوة الحاسمة المتمثلة بنجاح الانتخابات التشريعية ووصول ممثلي الأحزاب إلى مجلس النواب.

لقد بان فشل الأحزاب في إدارة العملية الديمقراطية من خلال العتبة الأولى التي تتمثل بإنشاء سلطة تشريعية مستقلة تكون قادرة على سن القوانين أو النظر في القوانين التي ترفعها الحكومة ومن ثم القيام بدور الرقابة على عمل الحكومة بكل تفاصيله مهما كانت صغيرة.

كان المناخ السائد في مجلس النواب لا يشجع على قيام سلطة تشريعية حقيقية وسبب ذلك يكمن في أن مجلس النواب قد تحول إلى ساحة لتصفية الحسابات بين الأحزاب وسعى كل حزب إلى إفراغ ما في جعبته من أفكار تحول دون أن يكون هناك اتفاق على العمل المشترك.

لقد تحول المجلس قي بعض الأحيان إلى حلبة للصراع بين الأحزاب لا من أجل الوصول إلى صيغة مثلى لتشريع قانون ما بل من أجل أن يفرض حزب ما شريعته على الجميع. وهو ما عطل العملية الديمقراطية في مؤسسات الدولة.

لذلك فإن مجلس النواب لم يكن وسيطا منصفا أو نزيها بين رأسي السلطة التنفيذية، بل دخل رئيس ذلك المجلس طرفا في ذلك الصراع. وهو ما أدى كما أعتقد إلى تفاقم الأزمة.

كان من الواضح أن طرفي الخلاف قد وصلا إلى طريق مسدودة في التفاهم ولم يكن جديرا برئيس الجمهورية قيس سعيد في مثل تلك الحالة أن ينحني أمام العاصفة ويتراجع عن قراره لأنه رمز الدولة أولا، وثانيا لأن الأسباب الذي دعته إلى رفض التغيير الوزاري تدعو إلى التقدير والاحترام.

لقد رفض الرجل توزير أشخاص تحوم حولهم شبهات الفساد.

لم يقل أحد من الجبهة المقابلة إن أولئك الوزراء لا تحوم حولهم الشبهات بل أن رئيس مجلس النواب الذي دافع عنهم أكد وجود تلك الشبهات غير أنه لم يعتبرها سببا كاف لرفض توزيرهم.

كان الأولى برئيس الحكومة أن يتراجع عن قراره. 

ولكن حركة النهضة التي وجدت في ذلك الخلاف مناسبة لتشتيت الأنظار عن التحقيق في جهازها السري عملت على تشجيع رئيس الحكومة هشام المشيشي على التمسك بقراره. 

لقد أمسكت حركة النهضة بفرصة القيام بتهشيم الدولة التونسية وكان من سوء حظ قيس سعيد وهشام المشيشي أن يكونا أداتين فاعلتين في ذلك المشروع بحيث صار الإثنان للأسف يفكران في الطريقة نفسها.
لقد قررت حركة النهضة أن تضرب ضربتها الأخيرة من خلال تظاهرة تعلن من خلالها تأييدها للمشيشي ضد رئيس الجمهورية.

لن يكون ذلك هو الحل العادل للأزمة ولكنه بداية الفوضى. سيكون على تونس أن تدفع ثمنا باهظا لعدم نضج سياسييها.