ثنائية الحُب والثورة في رواية "ساعي بريد نيرودا"

الروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا نسجَ وحدات عمله من حياةِ مواطنه بابلو نيرودا إضافة إلى مرحلة من تاريخ بلده نواةَ لسرديته. 
بابلو نيرودا باعتباره شخصية روائية يكتسبُ دوراً محورياً في تطعيمِ فضاء السرد بنزعة رومانسية
أنطونيو سكارميتا لا يُثقلُ عمله بالحشو والإسهاب إنما يأتي أسلوبه مقتصداً في الإحالات 
لا يمكنُ للقاريء وضع المعلومات التاريخية خارج بيئتها الروائية

استعادة سيرة المشاهير وتدوين المراحل المفصلية في صيغة العمل الروائي تتطلبُ حساً فنياً في آلية الإختيار والتوظيف لأنَّ المؤلف يتكيءُ على عناصر تجدُ لها مرجعيات في الواقع الأمر الذي يفرضُ تنظيم المُعطيات بما يخدمُ البناء الروائي الذي تختلفُ موجهاته عن مُقتضيات التواصل مع المادة التاريخية البحتة. ومن المعروف أنَّ مبدأَ المتعة هو السائدُ في الرواية فيما الغرضُ من متابعة مما يتوفر في مراجع ومظان تاريخية قد يكونُ تعليمياً أو توثقياً. 
إدراكاً منه لموجبات العمل الروائي وسياقات التعاطي مع محتوياته نسجَ الروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا وحدات عمله المعنون بـ "ساعي بريد نيرودا" الصادر مؤخرا من "دار ممدوح عدوان" إذ يتخذُ الكاتبُ محطاتٍ من حياةِ مواطنه بابلو نيرودا إضافة إلى مرحلة من تاريخ بلده نواةَ لسرديته. 
غالباً ما تتظرُ القاريءَ على الصفحة الأولى للأعمال الروائية عبارات تشير إلى أنَّ أي تشابه بين شخصيات واقعية وشخصيات مذكورة في الرواية هو مجرد صدفة لكن توضحياتُ صاحب "أب سينمائي" لا تتوقف عند عبارة توضحية بل يوردُ معلومات عن حيثيات كتابة روايته فكان عمله في الصحافة وتكليفه بإجراء الحوار مع بابلو نيرودا وتفرغه لهذه المهمة تماماً قد أتاح فرصة ليعودَ لمشروعه الروائي الذي توقف عن كتابته، ومن ثُمَّ يتفاجأُ القاريءُ بتلميح الكاتب بأنَّ ما يتابعهُ ليس تلك الرواية التي أراد كتابتها في إيسلا نيغرا بل هي نتاج لما يصفهُ بمداهمات صحافية فاشلة لمعقل الشاعر زيادة على ذلك فإنَّ سكارميتا يُقدم رأيه عن أشكال جديدة في كتابة الرواية لافتاً إلى انسياق عددٍ من الكتاب المُجايلين له وراء مفاهيم سردية حديثة بينما ظلَّ صاحب "عرس الشاعر" مُتمسكاً بمجازات متداولة في وسط الصحافة والمفردات المبتذلة مفوضاً راوي كلي العلم لسرد منجزه الروائي الذي ينهضُ على ثيمة الحب والثورة. 

البعد الجمالي لهذا العمل يكمنُ في تفاعله مع النصوص الشعرية وما يحملهُ من نبرات ثورية دون أن تقعَ في مزالق تعبوية

صوت اليسار
يكتسبُ نيرودا باعتباره شخصية روائية في هذا الإطار دوراً محورياً في تطعيمِ فضاء السرد بنزعة رومانسية كما أنَّ اسمهُ يحيلُ أيضاً إلى حقبة شهد فيها بلده احتدام الصراع بين التيار اليساري ومناوئه اليميني، لذا فمن الطبيعي تضفير متن السرد بنتفٍ من الملعومات عن ترشيح نيرودا لرئاسة تشيلي، ومن ثُمَّ انسحابه لصالح سلفادرو الليندي إلى أن يصبحَ  سفيراً للحكومة اليسارية في باريس.
أنطونيو سكارميتا لا يُثقلُ عمله بالحشو والإسهاب إنما يأتي أسلوبه مقتصداً في الإحالات، ولا يمكنُ للقاريء وضع تلك المعلومات التاريخية خارج بيئتها الروائية. وما يشدُ المتلقي إلى مناخ هذا العمل ليس خلفيته السياسية ولا الأيدولوجية بل التشويق الذي يتغلغلُ في جسد النص، ولا يكون مصدره إلا إنشداد ساعي البريد ماريو خيمينث إلى عالم نيرودا من جانب وعلاقة الحب القائمة بين ماريو وابنة صاحبة الحانة بياتريث غونثالث، وما أن يبوحُ ساعي البريد باسمها للشاعر حتي يتذكر الأخير حبيبة دانتي، ويعلقُ بأنَّ البياتريثات يسببن غراميات إستثنائية.
والطريفُ في الأمر أنَّ بابلونيرودا هو الزبون الوحيد لماريو ولولا إمتلاكه للدراجة لخَسِرَ فرصته ولم يصبحْ موزعاً للبريد، وبالتالي كان يستحيلُ إيجاد قناة التواصل مع الشاعر الذي بدتْ قسماته وتصرفاته مثيرة للإهتمام، كما لم يتشجع لإقتناء ديوانٍ لزبونه المقيم في إيسلا نيغرا. هكذا لم يعدْ ماريو مكرهاً على تمثيل دور المريض للهروب من مهنة الصيد. ومن الملاحظ أنَّ أبطال سكارميتا مُغرمون بالسينما من ضمنهم ماريو كما أنَّ الفرجة على الأفلام والأخبار تُصاحبها طقوس إحتفالية إضافة إلى ذلك أن الأماكن التي تتحركُ فيها شخصيات الرواية عبارة عن البيت والحانة ومكتب البريد. ويعتمدُ خطاب الرواية على الحوار والسرد الإخباري فضلاً عن الوصف طبعاَ أنَّ حُسنَ توظيف هذه التقنيات يكسبُ الإنتقال من قسم إلى آخر خفةً ومرونةً.
شطحات الشعر
توحي مفردة العنوان بأنَّ ثمة شخصيتين أساسيتين في العمل وينفردُ الإثنانِ بتقاسم مربعات الرواية مع أنَّ راوي كلي العلم لا يشيرُ إلى غراميات الشاعر لكن يُفهمُ من سياق الكلام المُتبادل بين ماريو ونيرودا بأنَّ ما ينشره الأخير يغذي عاطفة ساعي بريد ويحدو به لمحاكاة الشاعر في إستخدام الإستعارات ويستنكهُ مستوى آخر من مدلول الكلمات.
ينصحُ نيرودا صديقه بالتفكير عندما يمشي لأنَّ الشعر لا ينزلُ على من يتوقف جامداً، وبذلك كلما تقدمَ السردُ يتعمقُ إحساس ساعي بريد بأهمية الشعر إلى أن يتأكدَ من سحره حين يبدأُ بكيل المديحِ لضحكة بياتريث وشعرها ومفاتنها الجسدية وهذا ما يثير غضب أم بياتريث التي تدير حانة المرسي محذرة ابنتها من قوة الكلمات التي توهمُ لنادلة ريفية بأنها أميرة فينسية لذا يهونُ على روسا تحرش سكيرِ ببياتريث على أن يغازلها شاعر بكلمات مُخدرة. 

Chilean novel
حُسنَ توظيف التقنيات 

كما تذكرها بأنَّ الشعراءَ كلهم يفكرونَ على غرار نيرودا الذي قال "أحب حب البحارة الذين يأتون ويذهبون يتركون وعداً ولايرجعون أبدأ"، ومن هنا يكونُ مؤلف "سونيتات الحب" طرفاً في هذه العلاقة الغرامية فمن جهة تريدُ دونيا روسا أن يتكفل الشاعر بإقصاء ساعي البريد من ابنتها ويطالبُ ماريو بدوره مساعدة الشاعر لأنَّه قد ورطهُ في الحب بدواوينه وعلمه في استخدام لسانه في غير إلصاق طوابع البريد.
يدور النقاش بين الشخصيات الثلاث إلى أن يتم إعلان فوز سلفادور الليندي في الإنتخابات ويتزامنُ ذلك الحدثُ مع خوض ماريو مع حبيبته في تجربة حسية عاصفة داخل مستودع الحانة فيما كان زبائن دونيا روسا يحتفلون بنجاح الثورة الديموقراطية.
ما يذكر أنَّ ترابط الحدثين ليس إعتباطاً إنما مؤشرُ لما يجمعُ بين الثورة والحب من المشتركات العديدة، كما إيراد الأمثال الشعبية على لسان روسا رداً على الأشعار التي ينطقُ بها ماريو إيماءةُ لوجود تفاوت في مستويات الوعي بين الشخصيات الروائية لا ينقطعُ ماريو عن مراسلة الشاعر عندما ينتقلُ إلى باريس ويزودُ الأخير ساعي البريد بالموسيقى الفرنسية وتراودُ ماريو رغبة السفر إلى عاصمة النور لكن مدخراته تستنفدُ بما يصرفه على طفله من الأموال، وتشي مطالبُ نيرودا من صديقه بأن يسجلَ له أصوات بيته والأجراس وصوت العصافير بشدة شوقه إلى بلده.
مفصل آخر من الرواية يتناولُ الإنقلاب على الرئيس المُنتخب، وما يستببعُ ذلك من التوتر وعسكرة المجتمع ويُفضلُ الكاتبُ تقنية الإيحاء على التصريح لبيان عواقب الإنقلاب حيثُ ينتزعُ ساعي البريد صورة ماركس وجيفارا عن جدار مركز البريد لكن  يتركُ صورة الرئيس المنتخب كما هي، وأرادُ بذلك أن يتحدى الإنقلابيين. تتصادفُ لحظة الإنقلاب مع ذكرى إستقلال تشيلي وترقب ماريو لإعلان الفائز بمسابقة الشعر. وينتهي شريط السردِ بتتبع اللحظات الأخيرة في حياة بابلو نيرودا الذي يحاصر الجنودُ بيته وهو يحتضر. 
يشارُ إلى أنَّ البعد الجمالي لهذا العمل يكمنُ في تفاعله مع النصوص الشعرية وما يحملهُ من نبرات ثورية دون أن تقعَ في مزالق تعبوية.