'ثورة الأيام الأربعة': بين تضاريس من الخيبة السردية

القراءة في رواية عبدالكريم جويطي تصير أكثر حذرا وريبة كالمشي في حقل الألغام فكل الأساليب والصياغات اللغوية والتركيبية والدلالية تؤدي الى مقصلة النقد الجذري لما سمي وهما وكذبا وتضليلا بالتنظيم الثوري.

تمهيد: الرواية و الثورة
لم يحدث في التاريخ البشري أن تم النظر الى الثورة انطلاقا من سردية واحدة، بل كان مضمونها السياسي والاجتماعي وشكلها النضالي السلمي أو العسكري محط نقاش وصراع فكري وسياسي، ولد الكثير من السرديات المؤيدة والرافضة، أوالمنددة باعتبارها مؤامرة.
 وإذا كانت العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية هي التي احتكرت دراسة الثورة في سردياتها المختلفة الى حد التناقض، للتعرف بشكل أدق على السيرورة التاريخية للمجتمع، في بنياته الثقافية والاجتماعية السياسية والاقتصادية، فإن الأدب/ الرواية قد أثبتت بالفعل كمتخيل إبداعي قدرتها على الإحساس التراجيدي بما يعتمل في طيات الفعل التاريخي الاجتماعي من توافقات وتجاذبات وصراعات، من خلال تمكنها من ممارسة نوع من المقاربة التي تنظر الى شمولية الكائن البشري الذي يجمع في مشروعه الوجودي التناقضي بين الموت والحياة، بين الخير والشر، بين الملائكي والشيطاني، بين الإيجابي والسلبي.
 وهذا ما جعل تلك العلوم تغير نظرتها تجاه الأدب، وتتعامل بجدية علمية مع الإنتاج الروائي بوصفه مقاربة ضمن المقاربات لها أدواتها وآليات ومنطق اشتغالها الداخلي كمتخيل فني جمالي له خصائصه المتميزة ككتابة إبداعية. 
انطلاقا من هذا الفهم والتفهم، كما اعتقدنا، تمتلك رواية ثورة الأيام الأربعة لعبدالكريم جويطي شرعيتها التعبيرية ككتابة أدبية، حاولت بناء سرديتها حول ما عرفه المغرب في بداية السبعينات من أحداث مسلحة قام بها يومئذ ما سمي بالتنظيم الثوري. 
1-    حين تكون الرواية مقصلة
لايمكن لقارئ رواية ثورة الأيام الأربعة لعبدالكريم جويطي أن يفلت من قوة سحرها الفني والجمالي، ومن روعة صنعتها كقصة وخطاب، تقنع قارئها بتمكنها من أدوات اشتغالها كشكل أدبي روائي، يقحم القارئ في بنياته الفنية والجمالية والفكرية فيصير جزءا عضويا فاعلا أو منفعلا، أو هما معا.
الرواية تتناول مرحلة سياسية اجتماعية، من تاريخ المغرب الحديث، غامضة وملتبسة، ومسكوت عن عتمة ظلالها، وما خلفته في النفوس والقلوب والذاكرة، من جراح وآثار مؤلمة. 
من الصفحة الأولى نتتبع مع السارد بناء حكايته التي وجد فيها نفسه مورطا تحت وقع صدف عمياء وقدر ملعون، في صفوف تنظيم ثوري، جعل من عنف السلاح أسلوبا في الثورة والتغيير. "ماذا أفعل هنا؟ كانوا جماعة وكنت أعزل في المؤخرة، لا أقيم في شيء يوحدني بهم، لا أقيم إلا في الحيز المظلم لمأساة أني طرف في انطلاق ثورة مسلحة ضد النظام، ولم يسبق أن ضربت عصفورا بحجر... لا مكان لي حقا في ثورتهم ولن أنفعهم بشيء ومن الأفضل لي ولهم أن أبتعد وهم في البداية."13 يسرد السارد قصته الرهيبة المؤسسة على الخوف والشك والعزلة والتشظي، والقدر المحتوم الذي جعله في وضعية مؤلمة لا يستطيع فيها التوقف أو الرجوع الى الوراء،  فاقدا إرادته الحرة، وخياره المستقل، وصار مستحيلا التفكير في الهروب من هول الكارثة والمأساة المروعة التي تنتظره رفقة مجموعة من الثوار العازمين على إشعال ثورة، يكون فيها هؤلاء طليعة ثورية للكفاح المسلح، هي بمثابة شرارة الانطلاقة للثورة الشعبية في وجه السلطة المستبدة. رحلة الثورة أو الكارثة كما أراد لها السارد أن تكون انطلقت ليلا على أظهر البغال، وعلى صوت الرصاص القاتل لفرح الأمن والأمان، والهدوء والسكينة التي تلف المدينة المتعبة والمرهقة من تاريخ الغزو البدوي المدمر، وعنف الدماء الذي تطاول مع الزمن حتى صار طبيعة ثانية، للبشر، تسكن الدماء.
 مجموعة من الرجال يثخنون في الجبل ليلا وفي عزلة عن محيطهم والعالم. والأشد عزلة وغربة هو التفكك الذاتي والجماعي الذي ترزح تحت ضغط عبء ثقله الرهيب المجموعة كلها، الى حد العبث الوجودي المفعم بالشؤم واليأس وانغلاق الأفق، واستحالة الرؤية والتفكير." بعد حماس البداية استسلم كل واحد منا لعزلة قاهرة تعقد اللسان وتجعل النفس تتجرع فداحة ما نحن مقدمون عليه، عزلة لا تكسرها إلا أصوات ارتطام حوافر البغال بالصخر. في أماكن أخرى من الوطن وفي الآن نفسه تتحرك الطلائع المسلحة للشعب كما سماها الأستاذ، وبالهواجس نفسها وربما بالصمت نفسه، التاريخ يتحرك الآن بجزمة عسكرية، لم يفعل ذلك بالخطب والمظاهرات والأماني والملتمسات. وها هو يفعل بقعقعة السلاح."18 .
إنها البداية والنهاية في الوقت نفسه لارتجالية العنف الثوري المشوه الرؤية والأسس والمنطلقات والعلاقات والدلالات. إنه التعبير الواضح عن دلالات الثوار/القطيع الذي قاده القادة، خاصة القائد الفقيه العالم بكل شيء(الفقيه البصري)، من بعيد، في بلاد الجوار العربي (الجزائر، ليبيا) أو الأوروبي (فرنسا)، نحو المذبح والمسلخ قربانا لهوامات عشق جنون السلطة الذي تلبس القائد الفقيه العالم بكل شيء، ومن معه، في سعيهم الحثيث للقضاء على النظام باسم الثورة.
 هكذا وجد الثوار أنفسهم أمام مأزق وجودهم العبثي المفكك الأوصال، وهم يحتلون ثكنة، ليست لها أي قيمة وازنة في مخطط شعلة الثورة المراد انطلاقها. لأنها شبه فارغة من الرجال والسلاح في عراء الجبل الساخر من تهور وضحالة فعلهم الثوري المنبوذ والمعزول مجتمعيا من قبل ساكنة الجبل، والفاقد لأي تواصل أو تفاعل فيما بينهم ومع محيطهم القريب والبعيد.
 إنهم في مأزق مسدود أقرب الى المصيدة. "هذا الجبل منهك، الجبل مجروح لو سمعها الثوار لتضاعف يأسهم ولمنحت ذلك الإحساس الذي يخامر، دون شك، كل واحد منهم بأنه عالق في مصيدة قاسية رسوخا أكبر."337 
هو وضع لا يحسدون عليه، ونحن نتتبع من خلال عين السارد الوحيدة، بؤسهم وتهريجهم الثوري، ويأسهم المطبق، وعزلتهم عن الذات والاخرين والعالم، كما لو كانوا مجرد فئران بشرية في مختبر الصراع على السلطة، لا يرقون الى مستوى القرابين التي يمكن أن تنال جدارة ومجد الأضحية.
 تكثف الرواية هذه الدلالات لتجعلهم أضحوكة ذلك الزمن الغشوم. "انتابني ارتباك كامل، يعرف الأستاذ جيدا أنني هنا بسببه هو وبسبب القائد، هما من نصبا شرك الغواية وأخفيا الطعم، وها هو، وبعد أن نجح في أن يراني معه ويرى برغبة شريرة أستاذا ترك  هو أيضا حياة هادئة وديعة ليخرج محاربا من أجل شيء يحركه أناس في أماكن نائية آمنة، يكتشف فداحة فعله، وفي زاوية صغيرة لا تطالها رغبته الشيطانية في أن يدفع معه الثمن الباهظ."30
فتبعا لاستراتيجية في الكتابة، وباقتدار فني سلطوي لعين وحيدة عالمة بكل شيء، لا تكف عن  جلد نفسها والآخرين باستمرار، حاملة قدرا هائلا من العذاب المحموم،لا يرى القارئ إلا ماتراه عين السارد الذي صار من حيث يدري، أو لا يدري، وجها آخر للفقيه العالم بكل شيء، لا يقل عنفا وإقصاء للأصوات الأخرى التي يقدمها لنا بصورة مرعبة، تتآكل ببطء بين تضاريس الجبل، وتحت سطوة عذابات انتظار النهاية الأليمة المحتومة للفعل الثوري المتهور، الساقط في مستنقع الأحداث التافهة التي تؤسسها المغالطات والحيل والأكاذيب. 
إزاء هذا كله يفقد القارئ أي ارتباط إنساني بهذه الطليعة الثورية المضحكة الى حد المسخرة، والمقززة، والباعثة على الغثيان.
 وهذا يعني أن السارد نجح في خطاطة سيرورته السردية وهو يشيطن الى درجة الأسطرة المجموعة المتهورة الساذجة في سقوطها المريع في فخ القائد الفقيه، الوجه الاخر للتسلط العبودي الذي زج بها في أتون مصير كارثي لا يخلو من مأساوية السقوط الدموي الرهيب. 
لقد هدم السارد كل جسور التفاعل والتواصل، بين القارئ وهؤلاء الرجال الذين أراد لهم أن يكونوا مسوغا منطقيا لبناء سردية تكون فيها الرواية مقصلة لما ترسب في الذاكرة الشعبية من مدونات متخيل سردي، حول أحداث مؤلمة اكتوت بنار وقائعها الحية المنطقة كلها بمن وما فيها. 
وأسدل الستار عل الكثير من السياقات والتفاعلات والترابطات المعقدة والقوى التي كانت وراء الصراع السياسي السلمي والمسلح، ولاذ الجميع بالصمت خوفا أو اعتقادا منهم أن ذلك أحسن طريقة لدفن الوقائع والاحداث،  والتصالح مع الماضي التاريخي.
2- صراع السرديات
يصعب جدا على قارئ مطلع على الصراع السياسي الاجتماعي للمغرب الحديث ضد المستعمر، أو خلال وبعد الاستقلال، أن يستسلم للذة النص وهو يتعرف مع سيرورة القراءة، على أن الرواية تتشكل بصورة مذنبة وغير بريئة، بالمعنى الفني الادبي، خاصة و أن الرواية تتورط في صراع السرديات، بتحيزها الى سردية دون أخرى.
فالسجل الثقافي للقارئ في هذه الحالة يحرمه من لذة ومتعة النص، حتى ولو كانت الرواية رائعة وساحرة في تشكلها الفني والجمالي، كشكل تعبيري إبداعي لا يمكن إدارة الظهر لعوالمه الأدبية والمعنوية والدلالية، كما هو الشأن في رواية ثورة الأيام الأربعة. 
هكذا تصير القراءة أكثر حذرا وريبة، كالمشي في حقل الألغام، فكل الأساليب والصياغات اللغوية، والتركيبية والدلالية تؤدي الى مقصلة النقد الجذري لما سمي وهما وكذبا وتضليلا بالثورة، أو التنظيم الثوري.
تبعا لهذا تتأمل القراءة الخصائص المعنوية والفكرية والدلالية، الملغمة بأطروحة فكرية ليس في قراءة أو نقد التغيير في المغرب الحديث والمعاصر، بل في تستر السارد عن عجزه، الآن هنا، أمام فهم معضلات وتحديات فشل التغيير المزمن، دون أن يقوى على الاعتراف بحالة الصد المعرفي والجمالي التي تؤرقه وتعذبه، وهو يرى الموات الأبدي ينتصر في السيرورة التاريخية لبلده، الذي افتقر، على حد قوله، الى رجال من طينة فولتير وروسو، لتحريك بركة العقول الآسنة أولا، لنيل جدارة حلم التغيير السلمي البناء ثانيا.
 وبذلك يضعنا السارد من حيث لا يحتسب أمام سخرية سؤال لوعي والثقافة و التنوير الذي يؤطر رؤيته لما ينبغي أن يكون. لكن تبعا لمنطقه في الرؤية والتفكير في بناء الرواية وإنتاج المعنى، لم يجل بخاطره، ولا كان في تقديره الرزين معرفة مدى تعقد وقائع حركة التاريخ القتال، حين يسخر معترض في وجهه:كم تعجلنا الاستقلال إذن أيها السارد العالم بكل شيء، في وقت كانت فيه الحماية اسما على مسمى، جاهل أمي بعيد عن الفكر والثقافة، والمدنية والتحضر، ناهيك عن سماعه بفولتير وروسو...؟
تظل القراءة متسائلة حول سر استراتيجية الكتابة في بناء وتشكل تضاريسها السردية بما ينسجم والاطروحة الفكرية والرؤية السياسية لسارد، هو العالم بكل شيء، متحكم كليا في لعبة السرد بصورة مطلقة. 
حيث لا حركة ولا سكنة في منعرجات تضاريس الرواية إلا من خلال ما تتيحه زاوية نظره في الرؤية والوظيفة والفعل السردي، فسبحان السارد العليم  العالم بكل شيء، الذي له في سردية خلقه شؤون. كان من الصعب عليه أن يكون مضيافا متعددا، ورحب الصدر، متسع العقل والوجدان في الإنصات للأصوات الأخرى التي حاصرها بتبخيس مفعم بالسخرية الشامتة من تهورها، المؤدي الى سقوطها المحتوم، في جحيم الواقع الذي لا يعذر فيه مغامر، لا يحسن قراءة العواقب الكارثية.
لهذاضيق الخناق عليها، كشر محتوم، في تضاريس مأساة الخيبة السردية التي تفسد لذة ومتعة القراءة المسنودة بسجلها الثقافي الرافض لسلطوية السارد وصمت ذاكرته، وهي تمارس البتر والتجزيء والانتقاء لمشاهد معزولة عن حرارة السياقات والظروف، والترابطات المعقدة للحظة عنيفة وقاسية في مجرى الصراع السياسي، التي ورطت الكثير من الناس في هول ورعب جنون الصراع على السلطة باسم تثبيتها أو  الحلول مكانها، تحت الغطاء الوهمي الكاذب لما سمي ثورة. 
والقراءة حين ترفع رأسها أمام هذه الكتابة المغرضة، تكاد تقول: ما هكذا نصفي حساباتنا مع الماضي ونحن نعاود إنتاج الأخطاء نفسها، في الرؤية الأحادية التسلطية التي تعجز عن قبول وتقبل والاعتراف بالتباينات والمسافات في النظرة والفكرة والممارسة، و في القدرة على عيش ديمقراطية التعبير الأدبي على الأقل.
وأنت مقبل على قراءة رواية ثورة الأيام الأربعة لعبد الكريم جويطي تنتصب في وجهك الكثير من الأسئلة التي تولدها الايحاءات والدلالات التي يحملها العنوان بين طياته المثيرة والاستفزازية الى حد السخرية اللاذعة الأقرب الى الشماتة والتبخيس من قيمة حدث وشخوص، ووقائع تاريخية سميت زورا، وبشكل مقرف ثورة. 
أو بشكل أدق "هنا فوق بغل يتسلق جبلا في الليل تركب مزحة ثورية ولدها اختلاط غبي لأسباب ومسببات ومد لا يصدق من الصدف الساخرة التي علي أنا وحدي أن آخذها مأخذ الجد"19.
 فكيف يستقيم السرد عن مأساة كارثية اعتقد أصحابها أنهم ثوار يسعون الى تحقيق التغيير؟ هكذا يفرض العنوان على القارئ فرضيات تأويلية كموجهات إرشادية لتسويغ النقد الساخر المشحون بالكثير من العنف الرمزي الذي لا يختلف كثيرا في رؤيته الفوقية الضيقة والأحادية عما عرفته ثورة الأيام الأربعة، في شخص الفقيه العالم بكل شيء، الذي كان يحرك خيوط اللعبة من بعيد في أمن وأمان من رعب الليل البهيم لسلطة لا ترحم الخصوم، وما يحمله هذا الليل، في جوفه المرعب المخيف، من مآسي رهيبة. 
وهذا ما يجعل ليس فقط من أن يكون التاريخ قتالا، بل أيضا من أن تكون الكتابة مدية حادة كالمقصلة، في بتر وقطع السياقات وكل الظروف والمعطيات السياسية والاجتماعية والثقافية التي يمكن أن تقدم رؤية مستقبلية لما يمكن أن يكونه التغيير بعيدا عن العنف وسفك الدماء.
 السخط على الثبات والجمود والهزيمة، والقهر والاستبداد، واستمرار الموات الابدي للنكوص السياسي والفكري والاجتماعي، لا يكون بنصب مشانق سردية دون أخرى لمعاودة إعدام رفاة مرحلة من تاريخ المغرب الحديث بكل التباساتها وملابساتها المتفاوتة الوضوح والعتمة،  لحظة تاريخية كان فيها جنون الصراع على السلطة هو سيد الميدان، حيث كان ينظر الى الناس على أنهم مجرد حطب لنار العنف والعنف المضاد. 
وكما في كل صراع كسر العظم غالبا ما يتحول الكثير من الناس السذج والابرياء، أو من لهم حسابات خاصة في الانتقام والثأر واطفاء نار الحقد الى مجرد حطب أو قود لصراع السلطة العمياء من قبل الحكام والمحكومين.
3- تصفية الحساب: من أبطال بلا مجد الى أنذال بلا قيمة
لا يمكن لقارئ بعض سرديات تاريخ المغرب الحديث في فتراته القلقة المطبوعة بالكثير من العنف السياسي والانقلابات العسكرية، والتجاذبات السياسية والمسلحة، السرية والعلنية، بين الولاء والتمرد، أن يقرأ رواية ثورة الأيام الأربعة بمعزل عن شغب السجل الثقافي الذي يتدخل من حين لآخر فارضا أسئلته الخاصة التي لا تقبل التماهي والقبول والتقبل السلبي للمنظور السردي الموجه والمؤطر لاستراتيجية الكتابة في اختيار لغاتها، أساليبها، أفكارها، أصواتها...، ومختلف آليات اشتغالها.
 هكذا تكون القراءة عسيرة، وهي تنخرط في هذا التجاذب التناقضي بين سردية تؤسس نفسها بمنطق البطولة بلا مجد، وتنظر بعين مؤرخ الهامش للكشف عن المنسي والصامت في الذاكرة، أو المسكوت عنه، أو المستحيل التفكير فيه، حتى من باب المعرفة والتوثيق للحظة تاريخية في تاريخ البلد والناس. سردية لا يمكنها ادعاء الحياد، رغم ما تحاوله من تناول علمي موضوعي ودقيق، لكنه تناول يفتقر الى نقد جذري يعري السلبيات، ويقف عند خلفيات الاحداث بشكل دقيق ومسؤول حتى لا يتكرر ما جرى من عنف دموي لتحقيق التغيير. 
وبين سردية مسكونة بهواجس وقلق وأسئلة الحاضر في فشل التغيير المزمن، وهي سردية أقرب الى سردية الهزيمة (هزيمة حزيران67 وما تلاها من هزائم)التي زلزلت وعي المثقف النقدي العربي، فوجد ضالته في سؤال الماضي/التراث. 
هكذا هي رواية ثورة الأيام الأربعة نزلت بكل ثقل سخطها على ثبات وجمود حركة واقعها الحي الذي يرزح تحت وطأة الاجترار الأقرب الى التكرار القهري لفشل التغيير، كما لو أن المجتمع والثقافة والدولة والهوية، الجميع مصاب بعصاب الفشل الذريع في الانخراط في العصر الحداثي الديمقراطي. لذلك صبت الرواية جام غضبها النقدي على الفعل الثوري المسلح الذي ورط الناس في معارك وهمية، وأحلام عمياء، فدفع المشاركون والابرياء الثمن الباهظ من حياتهم المعيشية وأرواحهم. وتشكلت كل عناصر الرواية لغة وأساليب وأفكار في بنائها الفني مشحونة بالشماتة والقدح والتعريض والتبخيس والسخرية والنبذ، وهذا ما حرم القارئ من متعة رؤية كل الوجوه المغيبة، و التعرف على العوالم الممكنة في السيرورة التاريخية لتعقد الاحداث والوقائع.
فكل شخصيات الرواية تم بناؤها بشكل استهزائي ساخر، تعبيرا عن ضحالة ونذالة  الوعي المتدني لهؤلاء الثوار، وهم شخصيات تحمل صفات وأسماء وأجسادا وأفكارا وانفعالات تثير السخرية والضحك. وفي هذا السياق ونحن نلاحظ تشابه بعض الأسماء مع أسماء أفراد واقعيين شاركوا بشكل أو بآخر في أحداث السبعينات التي أتت الرواية على جزء منها، استغربنا أن تصل الجرأة الفنية والأدبية الى تسمية الحمار/حمدون باسم أحد الثوار الحقيقيين. 
كل هذا التعيير والتعريض لغرض استمالة وعي القارئ الى الموقف الذي يجعله مقتنعا بأن شخصيات هؤلاء الثوار بعيدة عن مفهوم ومعنى الفرد المؤهل فكرا ووعيا لخوض غمار  التغيير البناء عوض السقوط في فخ القطيع الذي يسيره ويتحكم فيه الفقيه العالم بكل شيء من بعيد (إشارة الى الفقيه البصري)، من خلال علاقات عمودية سلطوية لا تخلو من عبودية القهر التي يدعي القادة تغييرها بقناع الثورة الدموي الرديء. 
وهذا الموقف الفكري الجميل لم يتم تصريفه بشكل فني راق كشكل روائي منفتح على  ديمقراطية التعبير الأدبي، المحتضن لتعدد الأصوات والرؤى والمواقف والأفكار بما يعبر عن الصراع والتعدد والاختلاف، عوض أن يسقط السارد في فخ العالم بكل شيء، أو بالأحرى الخالق لكل شيء في هذا العمل الروائي، حيث نتعرف على كل شيء من خلال عين السارد التي تنقلنا من شخصية لأخرى، ومن مشهد لآخر...وهي ترسم سيرورة حركة السرد، و تشكل الهوية السردية لثورة الأيام الأربعة.
4- عندما يصير المسرود عنه ساردا
هكذا إذن أيها السارد العليم والعالم بكل شيء اعتليت صهوة السرد، واحتكرت حق الكلام المبين الذي لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه. وجعلتنا مجرد دمى عمياء تحركها صدف الأقدار الملعونة، وهي تسحبنا في مجرى الوادي الآسن للعنف الثوري الأقرب الى الانتحار الجماعي.
بعد كل هذا التفكير العميق وأنت تعيد النظر في المحنة أو هول الكارثة كما تقول وأنت على حق في هذا، ولا ينازعك فيه إلا متصلب عصبي عنيد، أو من كانت ذاكرته مثقوبة مخرومة، تفعل ذلك من زاوية رفض مأساة عنف الدماء المجاني الذي تملكنا فيه جنون شهوة الصراع على السلطة، لا أقل ولا أكثر، جنون كانت الثورة فيه مجرد مطية براقة تضاهي خضراء الدمن في جمالها الساحر الأخاذ، كما زينه العالم بكل شيء ومن معه، من وراء البحار والانهار، الجبال والفيافي القفار. لكن قل بربك وباسم الملح ولوثة قدر اللعنة التي جمعتنا في رعب الليل البهيم والرهيب كما أردت له أن يكون، جسرا للخيال الخلاق لما يمكن أن يكون سردية ثورة مشؤومة محملة بالكثير من الاوهام، وهي تسحل الأبرياء، وتورط أصحاب النوايا الطيبة في الجحيم الذي لا تكف زبانيته، وناره عن القول هل من مزيد؟.. نعم قل لي لماذا بترت كل السياقات والتباس الظروف، وما سكن القلوب من هوامات وتخيلات مرعبة في نسيج أحلام هاربة كأنها كانت في حالة طوارئ قصوى؟.
 لماذا خنقت أمل الحكاية في متخيل التحيز الهجين لرؤية دون أخرى في التغيير الى حد الكفر بفواجع الصيرورة التي لا ترحم السذج والمغامرين والثوار والابرياء والذي ماتوا أو قتلوا وفي قلوبهم شيء من حتى؟.
لماذا كل هذا التكتم والانتقاء والبتر، والاظهار والاخفاء، كأن وقائع التاريخ إما أن تكون ملائكية، منزلة بقداسة السماء، أو بحكمة المنطق والعقل، والوضوح التام الذي لا تشوبه شائبة، أو لا تكون؟.
 ألم تكن تعرف أن للتاريخ شيطان صعلوك حر، وعربيد وفاجر، لا ملاك نبي يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر والفتن؟
فما الذي جعلك ترسم للكتابة أفقا مخنوقا، ومسارب ومنعرجات قطاع الطرق والتيه والضلال في ليل الغباء والسذاجة القصوى، والصمت المشحون بكثافة خوف يفقأ العيون، ويزلزل الأعماق. 
كل هذا أيها العراف الحكيم لتضع بين يدي القارئ سردية دون أخرى، دون أن يرف لك جفن الضمير على أنك كنت تركب بغل المغالطات التاريخية رافضا أن تدرك على أننا بشر نخطئ ونصيب، نفرح ونحزن، نظلم ونعدل، نقتل ونقتل...؟ وأنت تعرف أيها السارد العالم والعليم على أننا لسنا جزءا من الحل لمشكلة التغيير التي تؤرقك، وأنت تضرب، الآن هنا، أخماسا في أسداس في هذا الليل الرهيب المسربل بالغيوم الدامسة حيث لا شق لأي بصيص شعاع ضوء أمل قد يتسرب من نجمة تستغيث طالبة قطعة من القمر.لا شيء غير الهزيمة المتوالية والخراب الذي يمتد عميقا في حياة الناس. 
كيف وجدت الجبل وأهله بعد كل هذه الصيرورة التي لم تكدس غير الخسارات والخيبات وعشرات الأحلام الموؤودة؟ وهل بقي اليوم، عاقل أيها السارد العالم العليم،  يفكر في الجنون المرعب للعنف الثوري وسيلة وأداة للتغيير؟
حين وجدت نفسك عاجزا عاريا أمام الصد المعرفي الذي انتصب في وجهك، وأنت ترى، الآن هنا، حلم التغيير يسحل في الوحل في واضحة النهار، ويسحق أمل شمس  تشرق على الجميع، كدت تتحول الى مستشرق مستحدث لا يرى فينا غير بشر همج يصرخ عنف الدماء في عروقنا كقانون طبيعي محتوم لا مفر منه.
 إزاء هذا الصد أعدت الصرخة نفسها: نحن والتراث. هكذا كانت ولا تزال تجربة الحلم والغبار تعانق الفشل الذريع في كل مرحلة من هذا الزمان الغشوم. وبقدر ما نحب الحياة نكره العنف بالمطلق، ونحلم بالولادة من جديد.