جان كارسون تستكشف دور الدين في حياة الإنسان في 'الصعود إلى السماء'
تتميز أعمال الروائية الإيرلندية جان كارسون بأسلوبها السردي الفريد الذي يجمع بين البساطة والعمق، وتستخدم لغة شاعرية رفيعة، وتعتمد على الرمزية والإيحاء لخلق أجواء غامضة ومثيرة للتفكير. تستكشف في رواياتها قضايا وجودية ومعنوية، وتدعو القارئ إلى التفكير في معنى الحياة والموت والإيمان.
وتعد روايتها "الصعود إلى السماء" عملا متفردا كونها تستكشف دور الدين في حياة الإنسان، وتطرح أسئلة مهمة حول وجود الله ومعنى الحياة بعد الموت، وعلاقة الدين بالسياسة حيث لا تزال هناك جيوب من البروتستانتية الأصولية الإنجيلية، واضطرابات التقسيم إلى مناطق بروتستانتية وكاثوليكية، وذلك من خلال بطلتها "هانا أدجر" التي تعيش في محيط اجتماعي يعاني من آثار الدين المحافظ، والتلقين الأبوي، والنزعة الطائفية، والذعر المجتمعي وانعدام الثقة، واتساع انتشار حالات الشعور بالحزن، والذنب، والوحدة، وتجلي التناقض إذ كيف يمكن أن يكون الشخص غريبًا في مجتمع يدعي التماسك.
تدور أحداث الرواية التي ترجمتها هدى فضل وصدرت أخيرا عن دار العربي في أوائل تسعينيات القرن العشرين بقرية "باليلاك" الريفية، التي تقع في على بعد خمسة أميال بالقرب من مدينة بلفاست بأيرلندا الشمالية. حيث لا يزال الأمل في التوصل إلى حل للصراع الطائفي الذي ابتلي به شمال أيرلندا ضعيفًا. ومع ذلك، فإن سكان باليلاك يواجهون مشكلة عصية على الفهم وتشكل معضلة ملحة على أذهانهم. حيث يبدأ العديد من الأطفال من نفس الفصل الدراسي في الموت واحدا تلو الآخر بسبب وباء غامض.
في البداية تجاهلوا الأمر، لأن ذلك الطفل معروف عنه أن صحته ضعيفة ويتأثر بأي شيء، يظلون هكذا، حتى يمرض الطفل الثاني ويموت، ثم الثالث، ثم الرابع، فتتوقف حياتهم، هناك مرض يحصد أرواح أطفالهم.. مستقبلهم ـ مستقبل أيرلندا الشمالية ـ وهم لا يعرفون سببه ولا من أين أتى. المؤمنون الذين لا يتوقفون عن الذهاب إلى الكنيسة، يرون أنه عقاب من الرب، ولكن آخرين يشكون في أن السبب بشريّ تمامًا، خصوصًا وأن الأطفال الذين يموتون في الفصل نفسه بالمدرسة. يبدأ البحث، وتُثار الشكوك، وتنتشر الريبة.. من فعلها؟ من يريد قتل أبنائهم؟.
الطالبة الوحيدة التي يبدو أن عدوى الوباء لم تصبها هي هانا أدجر، وهي فتاة من خلفية مسيحية متشددة. ولأنها كانت بالفعل منبوذة بسبب تعقيدات والديها الغريبة، فإن هذه تطورات انتشار الوباء التي لا يمكن تفسيرها لا تخدم إلا في زيادة تمييزها، خاصة عندما تزورها أشباح زملائها الموتى، الذين يكشفون لها أنهم محاصرون في نسخة بديلة من "باليلاك". وهنا يمكن الإشارة إلى حالة من الانفصال عن الواقع والاندماج في تجربة روحية عميقة، وهو ما يرتبط بالعديد من الديانات والثقافات.
تبدأ الرواية وتنتهي بضمير المتكلم، وحتى تلك الفصول المكتوبة بضمير الغائب مكتوبة من منظورها. هانا، البطلة، طفلة في الحادية عشرة من عمرها، ذكية ولكنها هادئة ومنطوية على نفسها، محرجة، وخجولة، وتظهر براءة طفولية أحيانا، وأحيانا أخرى تظهر نضجًا معينًا وعمقًا في التأمل في صراعها مع الإيمان الذي تعيشه في ظل والديها المسيحيين المتشددين اللذين ينتميان إلى كنيسة بروتستانتية صارمة خارج القرية، ويعارضان كل شيء، من السينما والحفلات المدرسية وحفلات أعياد الميلاد إلى رحلة مدرسية إلى شجرة راجيدي المحلية حيث تعيش الجنيات. أحد الأشياء القليلة التي يُسمح لهانا بمشاهدتها على شاشة التلفزيون هي الأخبار، وبما أننا في وسط الاضطرابات، فإن العنف شائع جدًا لدرجة أنه يكاد يكون عاديا "لا توجد ليلة أبدًا لا يموت فيها أحد". مما يجعل هانا منبوذة اجتماعيًا إلى حد ما بين أقرانها.
إن الفضاء الذي يسكنه الأطفال الموتى يصبح انعكاساً مثيراً للاهتمام لطبيعة الانقسام والصراع الديني. فبعد أن تحرروا من قيود الأشياء التي كانت تقيدهم أو تميزهم في الحياة، واتحدوا بوجودهم الجديد، يبدو الأطفال الموتى في البداية وكأنهم اكتسبوا فرصة جديدة للحياة، واكتسبوا الاستقلال والثقة، وأظهروا جوانب من أنفسهم يشعرون أن الناس كانوا ليشاهدونها لو أنهم كلفوا أنفسهم بالنظر إليهم وهم على قيد الحياة. ولكن بعد فترة وجيزة، تنشأ الانقسامات وينفجر العنف، مما يعكس الاضطرابات في المكان الذي أتوا منه، والمشاكل السائدة في المجتمعات في مختلف أنحاء البلاد. ورغم أن المواقف تحمل طابعاً مرحاً بسبب الطبيعة الطفولية للجدال، إلا أنها تدعو إلى تأمل أكثر عمقا في الطبيعة الدورية للصراع الديني والانقسام المجتمعي.
أيضا الرواية تستحضر العالم الصغير لأيرلندا الشمالية، والذي تم تصويره بوضوح، هو مكان تتعايش فيه الأضداد، وإن لم يكن ذلك بالأمر السهل خاصة في ظل الإيمان الراسخ والخرافات، وأولئك الذين عاشت عائلاتهم هناك لأجيال والوافدون الجدد الذين جلبوا ثقافات أخرى إلى القرية. ومن ثم نجد محاولة استكشاف للطرق المختلفة التي يمكن أن يعيش بها الناس على الهامش متجنبين بطريقة ما الحكم عليهم أو الحديث عنهم ويتجلى ذلك واضحا في الرواية في عائلة أدجر المتدينة بشكل مفرط، أو عائلة أندرسون "الهيبي" أو عائلة آلان جاردينر ذات العرق المختلط.
مقتطف من الرواية
لم أذهب إلى السينما في حياتي، ولكننا نمتلك تليفزيونًا في منزلنا. إن السينما لا تختلف كثيرًا عن التليفزيون. الفارق الوحيد هو أن الأفلام تُعرض على شاشة أكبر.
في كل ليلة، بعد العشاء، يشاهد أبي الأخبار. أفضِّل لو أشاهد مسلسل "إيست إندرز" (EastEnders) مثل الجميع، لكنه ممنوعٌ في منزلنا لأن الناس الذين يمثلون به دائمًا ما يسبون ويلعنون ويتطلقون. الأخبار أفضل من اللاشيء، وفي حين تنظِّف أمي الأطباق، أحصل على وقت "أبي وهانا" في مشاهدة التليفزيون. حينما تُعرض أخبار سيئة –لا تمر ليلة واحدة دون أن يموت أحد– يصدر أبي صوتًا عن طريق تحريك لسانه، ثم يهز رأسه وهو يتمتم:
- يا إلهي، يا إلهي.
ويكتب التفاصيل في مفكرته. حادث سيارة. مقاطعة "أوجناكلوي". قتيلان. قنبلة أنبوبية، قرية "كروسماجلين". 4 مصابين من الجيش. جهاز حارق.
لا أقول أي شيءٍ أبدًا، فمن غير المسموح مناقشة الأخبار، فهي فقط من أجل الصلاة والدعاء للنجاة منها لاحقًا.
يمكنني أن أخمِّن من مشاهدتي الأخبار أن معظم الناس قد فاض بهم الكيل فيما يخص "النزاع". فالناس الذين تُجرى معهم المقابلات دائمًا ما يبكون، أو يبدون غاضبين وهم يبكون كذلك، لأن مزيدًا من الناس قد قُتلوا. لقد فاضَ الكيل بالناس. يقولون: "لا نريد مزيدًا من القنابل. لا نريد مزيدًا من تبادل إطلاق النار. لا نريد مزيدًا من فتيان الجيش في الشوارع. نريد الأفضل لصغارنا. إن هؤلاء القوم المتحاربين لا بد وأن يتعقَّلوا ويبدؤوا بالحديث مع بعضهم بعضًا". لستُ واثقة ممن بالضبط قد توقف عن التحدث مع من. لم يتحدث "إيان بيزلي" أبدًا، و"جيري آدامز" تحدث كثيرًا لدرجة أنهم أحضروا شخصًا آخر يتحدث بصوتٍ يشبهه. لدي هاجس بأن من يحتاجون إلى التحدث حقًا هم هؤلاء الذين يرتدون الأقنعة. ربما يحتاجون للحديث مع بعضهم، أو ربما مع الشرطة.
لا أعرف السبب الذي من أجله نشأ ذلك "النزاع"، ولا لماذا يحدث لدينا هنا، ولكنني متأكدة من أننا، الأطفال، نستحق أفضل من هذا، فنحن مستقبل أيرلندا الشمالية.
في الشهر الماضي، جاءت امرأة من "لندنديري" لكي تحدثنا عن الأمر، ولكن مدير المدرسة، الأستاذ "تايلور"، جعلها تُحدِّث الطلَّاب الكبار أولًا. على أي حال، لم تكن هناك جدوى من وراء تحدثها مع الطلَّاب الأصغر سنًا عن مواضيع جادة مثل موضوع "النزاع" والسلام، فبدءًا من الصف الأول وحتى الصف الرابع الابتدائي، لا يفعل الطلاب شيئًا سوى اللعب والتلوين.
وصلت السيدة في فترة ما بعد الظهيرة، وهو ما يعني أننا لم نأخذ حصة الرياضيات، أي أننا جميعًا كنَّا في مزاج جيد وحالة رائعة. جاء بصحبة السيدة شابٌ من الصحيفة، وقد جعلنا نقف في صفٍّ في ساحة المدرسة لكي يلتقط لنا صورة.. وقف الصبيان في الخلف، والفتيات أمامهم، كما جعل "ليف" يقف معنا لأن حجمه كان صغيرًا بالنسبة لكونه صبيًا. ومن أجل الصورة، جعلنا نمسك براية كبيرة أمام أرجلنا، فلم يظهر منَّا سوى نصفنا العلوي. كانت الراية صفراء، وكُتِب عليها بلون أسود لامع: "مستقبل أيرلندا الشمالية"، وقبل أن يلتقط الصورة، أخرج الرجل لسانه وقام بتعبير مضحك بوجهه، فضحكنا جميعًا بشدة، والتقط الصورة، والتي علَّقها المدير لاحقًا على لوحة الإعلانات بالمدرسة.
ليس من الشائع أن تأتي امرأة لكي تعطي دروس المسيحية، فمعظم من يدرسوننا إيَّاها هم كهنة يأتون من أجل أن يعطونا درسًا قصيرًا ثم نصلي جميعًا معًا. أفضِّل الكهنة الذين يُحضرون الدُمى معهم، أو اللوحات الملونة. أحيانًا نُغنِّي بعض الأناشيد، ولكننا لا نقوم بهذا إلا في الأيام المُخصَّصة للسيدة "جيتِّي" حينما تأتي للتدريس للصف الخامس، فهي المُدرِّسة الوحيدة التي تُجيد العزف على البيانو.. الغناء من دون البيانو حزين للغاية. تَصِف "كاثلين" الأمر بأنه يشبه "مواء القطط الممتزج بضوضاء مُجفِّف الملابس".
لا يتبع الكهنة الذين يأتون إلى المدرسة كنيستنا، لأنها ليست في منطقة "باليلاك" الريفية، بل تقع في المدينة على بعد خمسة أميال. لم يكن القس "بل" ليمانع أن يقود إلى هنا، ولكن هناك تقريبًا ست كنائس أخرى في القرية، وهي التي تسبق في الأولوية مدرستنا. يقول أبي إنه لا بأس من الاستماع إلى كهنة من كنائس أخرى، فهم "بروتستانت" مثلنا، ولكنهم فقط من نوعٍ مختلفٍ قليلًا عنَّا.
نحن نتبع المذهب الكاريزماتي الإنجيلي وهو ما يعني أننا نؤمن بالجنة، والجحيم، والروح القدس. ترتدي النساء في كنيستنا القبعات، وإنجيلنا كلماته "قديمة"، لكننا مع ذلك نغني قداسًا "حديثًا" يبثُّه إلينا عارض الفيديو. نتلو صلوات بلغات مختلفة، ونحن نرفع أيدينا أمامنا، ولا نؤمن بالسينما ولا بمضغ العلكة (أظن أن موضوع مضغ العلكة ذاك قد اخترعه والداي لأنني رأيتُ بعض الشباب من "برنامج الزمالة للشباب" (the Youth Fellowship) يقفون في الباحة الخلفية للقاعة الصغيرة (Minor Hall) يمضغون العلكة، وينفخون البالونات بها). عودة إلى موضوعنا، نحن لسنا من النوع الشائع من البروتستانت، ولا يوجد منَّا الكثير، ففي "باليلاك" لا يوجد سوانا، وجدتي، والسيدة "نوجنت". الوضع أفضل في البلدة، فهناك عددٌ يكفي من أتباع مذهبنا لكي يملأ كنيسة ذات حجم متوسط. أمَّا عندما يحين موعد "الكريسماس" أو عيد الفصح، فتكاد الكنيسة تنفجر من الازدحام. أمَّا جدي "بيت" فهو لا يتبع البروتستانتية التي نتبعها نحن، لكنني لستُ متأكدة بالضبط من أي نوع هو بالتحديد، فجدي يقول إن البروتستانت مثل البطاطس، هناك ستون نوعًا مختلفًا منهم، كلما أزلت قشرة وجدت المزيد والمزيد منهم.
تُدعى المرأة التي جاءت إلى مدرستنا بـ"شنيد"، وهو ما يعني أنها غالبًا من الرومان الكاثوليك. يمكنك تعرُّفهم من أسمائهم ومن الطريقة التي يعتنون بها بحدائقهم. كما أن الكاثوليك غير مهندمين، أكثر منَّا حتى. بعد أن انتهى اجتماع اللجنة، سمعتها تتحدث إلى الآنسة "ماك إيون". قالت:
- يا للمسيح! قد أقتُل من أجل كوبٍ من القهوة.
عندما قالت ذلك، عرفتُ أنها بالتأكيد ليست بروتستانت، فهم لا ينطقون باسم الرب هكذا بلا داعٍ. على أي حال، جاءت "شنيد" لتخبرنا بأننا مستقبل أيرلندا الشمالية، وأننا بحاجة للعمل معًا من أجل تحقيق السلام. كنتُ بالفعل أعرف القليل عن ذلك الأمر.