جغرافيا البؤس في رواية "بنت الخياطة"

جمانة حداد تتبع مسار أربعة أجيال منتمية إلى جذور جغرافية واحدة، وما يجمعُ بينهم هو بنية الشقاء والإرتحال بين أمكنة متعددة.
الروايةُ تتفتحُ بصوت الراوي العليم حيثُ ينقلُ ما يقولهُ المطران لـسيرون مطالباً إياها بترديد كلماته
هل ما ألفته جمانة حداد مجرد تنويع في شكل الكتابة أم بداية مشروع روائي؟

يُعد السردُ الروائي آلية لرصدِ مفاعيل المكان في تشكيل الكينونة والمصير وهو ينطلقُ من الإستغوار في هموم المهمش والمنسي متوخياً من ذلك ترميم الصورة بأبعادها الكلية في ذهن القاريء ما يعني أنَّ السرد يكونُ عاملاً لمقاومة عاديات الزمن المتعاقب بما في أحشائه من النازلات التي قد تبدو جديدة في ظاهرها لكن من حيث الأثر الذي يعبرُ عنها ليست تلك الوقائع والأحداث إلا عوداً أبدياً، وقد تختلفُ الحاضنة المكانية للحدث حسب المراحل التاريخية لكن ما يترتبُ عليه متمثلاً في مصير الفرد لا يتبدلُ عدا ذلك فإنَّ ما يهم خطاب الرواية هو فتحُ الكوة بجدار السرديات المهيمنة مثلما تشتغلُ الكاتبة اللبنانية جمانة حداد على هذا المسلك في روايتها الأولى "بنت الخياطة" إذ تتبعُ مسار أربعة أجيال منتمية إلى جذور جغرافية واحدة. وما يجمعُ بين شخصيات الرواية هو بنية الشقاء والإرتحال بين أمكنة متعددة.
ولا ينتهي دور المكان في هذا العمل الروائي بوصفه خلفية أو مسرحاً للأحداث وحركة الشخصيات بل يعبرُ عن التشكيلة الحضارية، وما يعنيه ذلك من جدلية الإنفتاح والإنغلاق. 
تتفتحُ الروايةُ بصوت الراوي العليم حيثُ ينقلُ ما يقولهُ المطران لـ "سيرون" مطالباً إياها بترديد كلماته إذ توحي العبارات الواردة في هذا السياق بإجراء مراسم الزواج، وما يلبثُ أنْ ينصرف الراوي لإستبطان دواخل شخصية سيرون وتداعي ذكرياتها عندما تناهى إليها كلام مطران بإيقاع قد حملها إلى عنتاب، فهناك كانت تحب الاإصغاء إلى أنغام إدلاء الدلو في البئر إذ تتخيلُ صوراً يتخذها الوعاء النحاسي في طريقه نحو الأعماق. كأنَّ بالكاتبة قد أرادت إيجاد معادل موضوعي بحركة الصعود والهبوط لبنية مدورة تنتهي بها الرواية. 

novel

روافد
تضم الرواية قصص شخصياتٍ تتغلغلُ في جسد النص وتتسلسلُ المادة المروية على شكل حزمات سردية محملة بعناصر يتحققُ بها التواصلُ بين أجزاء العمل، كما أنَّ الروافد المتداخلة مع بنية الفصول تضفي مزيداً من المتعة لمستويات الحكي. هذا إضافة إلى أنَّ الإيماءات تتواردُ من بداية الرواية عن نشأة "سيرون" كما أنَّ الأخيرة ماتفتأُ تتذكر بيئتها الأسرية وتمنت لو لم يغب والداها مارين ونظار في هذه المناسبة. وتستعيدُ حكاية صديق والدها الذي كان يروض الأفعى، ومن ثمَّ يشيرُ الراوي إلى أنَّ آناهيد لا تعرفُ شيئاً عن صديقتها سيرون سوى أنها يتيمة أرمنية تبناها زوجان فارتوهي وغريغور من حلب، ويستقرُ بهم المقام أخيراً في القدس. 
إلى هنا يتمُ فكَّ عقدة الأسرار التي تحتفظُ بها سيرون، ناهيك عن عدم استساغتها للتواصل الجسدي مع خطيبها طبقاً للمتعارف عليها في منظومة العلاقات. إذ شهدت سيرون مقتل أبيها على يد الجنود الأتراك في عنتاب، وما أن تبدأ العائلة رحلتها الشاقة حتى يتعاظمُ حجم المأساة أكثر، وتتعرضُ مارين للإغتضاب، ويقتل ابنها على رؤوس الأشهاد لأنه أرمني، وتتوالى الإنتهاكات على جسد أوسانا الغض إلى أن تلقى حتفها، ويفترقُ أفراد الأسرة. 
مضى الاثنان منهم نحو حلب مع المجموعة فيما طالب العقيد التركي بانضمام مارين إلى محظيته في أضنة. وظلت سيرون برفقة أمها التي أنجبت من بشير كيزلار أغا طفلاً يُنتزعُ منها. تضاعفت آلام مارين، ولم تنتحرْ خوفاً من ترك سيرون وحيدةً لكن هذه الرغبة المدفونة تنتقل إلى الابنة، وتقدمُ على الإنتحار لاحقاً. وما تؤدي محاولة الهروب من فيلا العقيد سوى إلى مقتل مارين، وبذلك يفترسُ الحزنُ بسيرون التي تختبيء بين شجيرات كثيفة مراقبةً التوحش العاري في سحق جسد الأم. 
عليه فإنَّ السيولة في القصص الفرعية وتوارد أسماء الأمكنة والتحولات في مسرح الأحداث من عنتاب إلى أضنة مرورا بحلب، ولا تنتهي بالقدس ودير ياسين، كل ذلك مؤشر إلى تشعب بنية النص بفصوله الأربعة. دعك مما يضمره الفصل الأول من البذور التي تؤسس للتواصل بين أطراف الرواية. هنا يمكن التلميح إلى القلادة التى تحتفظ بشعرات أبناء مارين وأصلان وألمظ.
الحرب
إنَّ تراكم الكوارث الناجمة من الحرب والصراعات الدموية مادةُ أساسية للأعمال الروائية. لكن ما تتميز به رواية "بنت الخياطة" هي ملاحقة سردها لواقع الحرب في مراحل وأزمان مختلفة، فلكل جيلٍ نصيبُ من محنة الحرب، فكانتِ مارين فقدت والديها في مجزرة 1895 وتتعمقُ المأساةُ عندما تتفجعُ بمقتل زوجها الإسكافي واثنين من أبنائها، وتصبحُ سيرون في عهدةِ والديها (غريغور، فارتوهي) بالتبني في حلب. ويتمُ النزوح من هناك إلى القدس حيثُ يرحلُ غريغور إثر إصابته بداء السل وتتبعها زوجتهُ محترقةً.

الكاتبة تمكنت من تغطية الحروب التي ألقت بظلها القاتل على الأقلية الأرمنية، ولولا همينة صوت الراوي كلي العلم واللغة التقريرية والخلط في استخدام الضمير وتجاهل تقنية الحذف لكانت جمالية مبنى الرواية بمستوى تشوق محتويات متنها 

ولن يكون الإختلاف في الديانة سبباً لإبادة الأقلية ولتأجيج الصراعات في أضيق مساحةٍ فحسب، إنما ينسفُ الحبَ الناشيء في مرتع الموت، وهذا ما عاشته سيرون عندما تحرمُ من دفء عشيقها اليهودي آفي، ويقدرُ عليها مشاركة الحياة مع باسم بركات الذي يكبرُ منها سناً. 
يذكرُ أنَّ بنات مارين لا يتوارثن منها مهنة التطريز فقط، بل تكونُ الثغرة التي يخلفها غياب الحب بمثابة الحبل السري بين الأجيال إذ تتفاجأُ ميسانُ بتقلب شخصية لوقا وتلاشي الحب بينهما، كما تعوضُ شيرين حرمانها من الحب في الحياة الزوجية بتواصلها الجسدي المحموم مع عمر في بيروت. 
يبدأُ القسمُ الثاني بتتبعِ علاقة الاثنين ويأتي ذلك متزامناً مع الحراك اللبناني في 2005 وما يشدها إلى عمر أكثر هو تهوره الحسي ما يثيرُ رغبة شيرين الجسدية لحد التلفظ بمفردات ذكورية صريحة في منازلته، كما أن الإختلاف الديني زاد من حدة الإثارة بين الإثنين. 
زدْ على ما سبقَ فإنَّ الهاراكيري العاطفية لا تخلو من وظيفة إستبدالية إذ عوضت شيرين بجولاتها العاطفية الساخنة عجزها من الإقدام على الإنتحار الجسدي على غرار جدتها سيرون أو  كما فعلت خالتها نجاة وهي تبوح بإقامة العلاقة الحميمية مع بنات جنسها الأمر الذي يجلب لها مزيدا من كراهية الابنة جميلة عندما تكتشف الأخيرة بأنَّ أمها تتواصل مع مس هادية.
إذاً تنضافُ ثيمة الانتحار إلى حيثيات النص الروائي ويصبحُ الموضوع سؤالاً قائماً لدى شخصيات جمانة حداد، وهي قد أشارت في كتابها "الجنس الثالث" إلى وجود القاتل الخفي الذي فتك بأرواح عدد من أفراد عائلتها. وبذلك يكونُ الانتحار مؤشراً لعلاقة تناصية بين "بنت الخياطة" والنصوص التي سبقتها في النشر.
مفصل آخر من الرواية يدور حول الحرب اللبنانية، وما خلفته من الدمار الروحي والمادي، إذ تعاينُ شيرين مشاهد مفعمة بسوريالية في أجواء الحرب منها تعثرها بذراع مقطوعة مطوقة بساعة لم تزل تتحرك رقاصتها. هنا يمكنُ تأويل الكلام بالإستناد إلى دلالته الرمزية بحيثُ تكمنُ في مفردة الساعة إشارة إلى زمن العنف الذي يلتهم الأجيال، وما يسوغ هذا الرأي هو عد شيرين لوقت بكاء خالتها نجاة على ساعة كاسيو عندما زارتها في المصحة. إذ ينتظم البكاءُ والإكتئاب والعنف على خط زمني واحد.

novel

لهجرة العكسية
تفوقت حداد في تنظيم مادتها السردية إذ يزيدُ البرنامجُ السردي من منسوب التشويق ويمكنُ من كسر خط التصاعد الزمني، فتأتي قصة شيرين بعد انتهاء قصة سيرون ومن ثمَّ يستأنف الراوي في إستعادة قصة ميسان. وُتختمُ الرواية بسرد حكاية جميلة. أكثر من ذلك يفضل الراوي العودة في المقاطع اللاحقة لإقفال حلقة الحدث الذي ظلَّ ملتبساً، الأمر الذي تجده في اعتراف ميسان بعلاقتها الجسدية مع صاحب المحل الذي قُتل في الحرب، وهذا يحيل المتلقي إلى اللحظة التي يقع فيها نظر شيرين على أمها وهي تتخلص من الجنين. 
وتتنهى الرواية بهجرة أسرة شيرين من حلب إلى عنتاب، اي رحلة عكسية في جغرافيا البؤس، وذلك بعدما تصبح سوريا ميداناً لحرب ضروس. 
خلاصة القول عن هذا العمل الذي يصنف ضمن روايات نهرية أنَّ الكاتبة تمكنت من تغطية الحروب التي ألقت بظلها القاتل على الأقلية الأرمنية، ولولا همينة صوت الراوي كلي العلم واللغة التقريرية في بعض المقاطع والخلط في استخدام الضمير وتجاهل تقنية الحذف لكانت جمالية مبنى الرواية بمستوى تشوق محتويات متنها في "بنت الخياطة". 
واللافت في نهاية الرواية هو كسر أفق توقع المتلقي الذي يصعبُ عليه بناء على معطيات نصية تصور موت جميلة في عملية انتحارية في اسطنبول.
وأخيراً يكونُ القاريء أمام سؤال إذا كانت جمانة حداد قد وظفت سيرتها الذاتية لسبك روايتها الأولى التى تتقاطع مع الجنس الثالث، وهكذا قتلت شهرزاد في خطوط عريضة، فهل ما ألفته مجرد تنويع في شكل الكتابة أم بداية مشروع الكتابة الروائية؟