جماليات السرد الرقمي في المسرح المعاصر

في البدء كان السرد، وعنه تنوعت الخطابات الفكرية التي حفظت الخزانة المعرفية للإنسانية قاطبة.
المسرح يستثمر دوما ما تنتجه العلوم والثقافات والتقانات الجديدة محاولا إحالتها إلى جماليات خطابه المعاصر
السرد حاضنة وثائقية ثرية بالتحولات العقلية والتنويرية التي رسخت الثقافة والانتماءات

في البدء كان السرد، وعنه تنوعت الخطابات الفكرية التي حفظت الخزانة المعرفية للإنسانية قاطبة، عبر حاضنة وثائقية ثرية بالتحولات العقلية والتنويرية التي رسخت الثقافة والانتماءات بكل التوجهات والتيارات النظرية والعملية التي ضمتها الدراسات الثقافية حياتيا وثقافيا وفنيا وعلميا، وصولا إلى بلورة العقل العربي وتأثره المباشر بهذه المجرة السردية القابضة على مجموعة من السرديات الثابتة منها والمتحولة التي فرضت علينا رؤى وتصورات متباينة، بهدف تنوير الوعي وتمثلاته الفكرية عبر تخصصات سردية عديدة  أدبية منها وفنية مختلفة.
فمع ظهور مصطلح علم السرد أو السردية، مع الشكلانيين الرورس 1928-1968 وتحديدا مع فلاديمير بروب والمورفولوجيا (علم الخرافة) التي استند فيها إلى تحليل الحكاية الشعبية، وقد عدت هذه الالتفاتة النقدية التحليلية من محاور الحواضن النقدية التي خرجت من معطف البنيوية، لتكتمل على يد تودوروف في صياغته ولأول مرة لمصلح "علم السرد" عام 1969 في كتابه "قواعد الديكاميرون" وصاغ له تعريفا أوليا بأنه علم القصة، لكن التحولات الفلسفية والنقدية الحداثية وما بعدها، قد فتحت الباب بعد ذلك على مصراعيه ليتخذ السرد أو علم السرد مكانته الكبرى في نواحٍ فكرية وتشعبات حياتية عديدة تمتد من التراث الانساني الخالد، إلى الآداب والفنون بأنواعها، ليقف المسرح في مقدمتها بنصفيه: الأول النص المسرحي بوصفه جنسا أدبيا، والثاني العرض المسرحي بوصفه الخطاب الجمالي الحاوي للنص ولعناصر العرض الفنية برمتها. 
غريماس مثلا يعطي مفهومه للسرد بوصفه مداهمة اللامتواصل المنقطع للمطرد المستمر في حياة تاريخ أو شخص أو ثقافة، إذ نعمد إلى تفكيك وحدة هذه الحياة ويسمح هذا بتحديد المقطوعات في مرحلة أولى من حيث هي أن الملفوظات فعل، لتصيب ملفوظات أخرى فتؤثر فيها، بل ويؤكد غريماس دائما وبحسب ما أورده محمد العجيمي في كتابه "في الخطاب السردي نظرية غريماس" بأن السردية هي تحويل - أو مجموعة تحويلات - تحقق صلة الفاعل بموضوع القيمة، وهذه بؤرة استنتاج الدلالة واستشراف المعنى من تفاعل الفاعلين بموضوعات القيمة على وفق حال الاتصال أو الانفصال عنه.  
أما تزفيتان تودوروف، فيرى أن السردية هي العلم الذي يهتم بمظاهر الخطاب السردي أسلوبا وبناء، ويحيل السرد بوصفه المادة الأولية لهذا العلم على أنه برنامج لغوي يحمل سلسلة من الحوادث على سبيل التخييل، وهو فن تنظيم هذه المحمولات بوصفها شكلا فنيا منتظما بعلاقات وأبنية داخلية تهتم وتبرمج عمل السرد.   

شاشات عملاقة في خلفية المسرح تسرد لنا جماليا، مناظر لأمكنة وأزمنة متوالية ومتداخلة عبر سيناريوهات ممنتجة صوريا وصوتيا

ومن المهم الإشارة هنا إلى التعريف المبسط الذي وضعه رولان بارت للسرد وهو "أنه مثل الحياة علم متطور من التاريخ والثقافة"، ثم نتابع التعريف للسرد لدى سعيد يقطين قوله: "السرد فعل لا حدود له، يتسع ليشمل الخطابات سواء كانت أدبية أو غير أدبية، يبدعه الإنسان أينما وجد وحيثما كان". ومن هنا فإن المسرح بنصه وعرضه قد عد سردا حاويا لجماليات متنوعة تبعناها بسردها الرقمي في المسرح المعاصر.  
مما تقدم من هذا الإيجاز المفاهيمي، نرى أن المسرح يستثمر دوما ما تنتجه العلوم والثقافات والتقانات الجديدة محاولا إحالتها إلى جماليات خطابه المعاصر بالقدر الذي تكون فيه هذه الاستثمارات من شأنها تعزيز وترصين خطابه الدرامي وبث عناصر الدهشة فيه، وصولا  للانفعال الجمالي والفكري والفلسفي المرسل إلى حاضنة التلقي المعاصرة، ولأن المسرح بدأ قديما من طغيان المضمون على الشكل، ليصل بعد ذلك - وعبر تحولات زمنية تاريخية كبيرة – إلى طغيان الشكل على المضمون، أصبح من البداهة والمشروعية البحث عن أواصر التفعيل الشكلي والبصري لهذا الخطاب، ولأن الصورة هي الحاكمة اليوم في المجالات الفنية والإعلامية والاتصالية، كان من الطبيعي الإفادة من التطورات الإلكترونية الرقمية وتسللها إلى خطاب العرض المسرحي من أجل استثماره والإفادة من هذه التطورات الرقمية السوبرصاروخية تعزيزا لسرده الجمالي الرقمي الجديد، شريطة عدم طغيان هذه السردية الرقمية بفضاءاتها الافتراضية والسحرية والحلمية أحيانا كثيرة على المادة الدرامية الأساس، بمعنى أن لا ينسى المتلقي أنه داخل دراما مسرحية صورية لدرجة جعله مغاليا في انفعاله الصوري السردي على حساب الخامة الدرامية الأصل، والتي جاءت هذه السردية الرقمية لتفعيلها، لا إلى تختمتها شكليا دون جدوى.
قلناها سابقا ومنذ عام 2005، إن المسرح الرقمي قادم، وإن استثمار هذه التقانات الرقمية هو المستقبل الأوحد للمسرح العالمي والعربي، ويوما بعد آخر يقدم مشروعنا المقترح حينها بعنوانه "نظرية المسرح الرقمي" وعبر سلسلة من الدراسات والبحوث والمقالات، يقدم معطيات ثبوتيته  وأدلة عدم التخلي من هذا الاستثمار الجمالي والسردي للصورة المسرحية المعاصرة وبامتياز. 
ترتبط "الرقمية" بمصطلح الرقمنة الإلكتروني، وبحسب ما جاء في موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية بأن: "الرقمنة أو التحويل الرقمي هو: عملية تمثيل الأجسام والصور، والملفات أو الإشارات (التماثلية) باستخدام مجموعة متقطعة مكونة من نقاط منفصلة. وتعني أيضا التحول في الأساليب التقليدية المعهود بها إلى نظم الحفظ الإلكترونية، هذا التحول يستدعي التعرف على كل الطرق والأساليب القائمة واختيار ما يتناسب مع البيئة الطالبة لهذا التحول. والتحول إلى "الرقمية" ليس صيحة تموت بمرور الزمن، بل أصبح أمرا ضروريا لحل كثير من المشكلات المعاصرة من أهمها القضاء علي الروتين الحكومي وتعقد الإجراءات في ظل التوجه إلى الحكومات الإلكترونية، وكذلك القضاء على مشاكل التكدس وصعوبة الاسترجاع".
إن أول من استخدم "الرقمية" رائد الحاسب الالي ثيودور نيلسون، في منتصف ستينيات القرن الماضي، ويعني بها: "كتابة غير تتابعية – النص الذي يتشعب ويعطي للقارىء خيارا . ومكان قراءته الشاشة التفاعلية. وهو النص المتعالق أيضا وهو الربط المباشر بين موقع وآخر من النص نفسه، أو نص آخر، والقدرة على استحضارها في اللحظة ذاتها. "

ومن المهم الإشارة إلى تعريف العرض المسرحي الرقمي والذي وضعه الباحث محمد كاظم الشمري في أطروحة دكتوراه الموسومة "جماليات التقنيات الرقمية في العرض المسرحي"، وهي تحت إشرافي عام 2017:  
"هو العرض الذي يعتمد في تشكيله على جميع التقنيات الرقمية المسرحية التي تضم (أجهزة الحاسوب وملحقاته وبرامجه أجهزة الإسقاط الضوئي، أجهزة الإضاءة الرقمية، أجهزة الشاشات الرقمية، أجهزة الموسيقى والمؤثرات الصوتية الرقمية، أجهزة الهولوجرام، وأجهزة الأشعة الليزرية) وتكون هذه الأجهزة التقنية الرقمية بمثابة العصب الرئيسي في تشكيل هذا العرض." 
من هذا التعريف يؤسس السرد الرقمي في العرض المسرحي سينوغرافيا فضائه جماليا، ويؤكد أهمية لحاقه الأولى في انطلاقته الاستثمارية تلك، وليؤكد المسرح أيضا أنه لا يمكن أن يكون منزويا عن الثورات العلمية الجديدة مثل "الثورة الرقمية" الحالية، كذلك هو المسرح نفسه لم يكن تاريخيا منزويا عن الثورات العلمية الأولى، إلى جانب أن هذه الرقمية لا يمكن أن تتنفس او تكون ديناميكية حية، إلا تحت فضاء (الشبكة العنكبوتية العالمية) أي الإنترنت،  وكان كثير من المهتمين والمحللين قد تنبأ بهذه الثورة الرقمية منذ زمن طويل، بل عدّها مرحلة مهمة وعملاقة من مراحل التطور البشري والصناعي، ومنهم ريمي ريفيل بقوله: "فإذا ما صدقنا العديد من المحللين فسنكون يومها شاهدين وفاعلين لثورة صناعية ثالثة مرتبطة بتنمية تكنولوجيا الإعلام والتواصل، بعد ثورة صناعية أولى ارتكزت على تطور الآلة البخارية وسكة الحديد، ثم ثورة ثانية اعتمدت على استغلال الكهرباء والبترول. وحاليا تدخل المجتمعات الغربية في مرحلة ثالثة بفضل الإلكترونيات والإعلاميات والإنترنت". 
من أوائل المخرجين المسرحيين العالميين الذين استثمروا هذا السرد الرقمي في عروضهم المسرحية هو جوزيف سفوبودا (1920-2002) وهو – وكما يعرفه محمد أبودومه في كتابه "تحولات المشهد المسرحي" - هو مصمم ومخرج مسرحي بولندي، مميز في تصميم المناظر، لفت الانتباه إليه بشدة في أواخر الأربعينيات، طور سفوبودا لما أسماه "البوليكران" وهو الابتكار الذي سبق حوائط الفيديو، والذي عرض في وقت متزامن أفلاماً كثيرة مختلفة على عدد كبير من الشاشات، اشترك بالعديد من الأعمال كمصمم منها (لاست ونز، ذا تيلز أو هوفمات، لوبورترية، انتوليرانس، السيرك الرائع، أوديسا، كازانوفا، العاصفة، الشقيقات الثلاثة، المفتش العام، هاملت) وفي عام 1973 أصبح مديراً فنياً لفرقة "لاتيرنا ماجيكا" ويشتهر سفوبودا بأسلوبه القائم على مزج تقنيات السينما بالمسرح لتحقيق حالة شاملة من الغموض والسحر. 
كذلك الحال مع المخرج المسرحي الأميركي روبرت ويلسون، ممن استثمروا السرديات الرقمية في عروضهم الجديدة، وهذا المخرج الذي ولد في العام (1944) وكما يشير إليه محسن مصيلحي في دراسة مهمة عنه بعنوان "مسرح الرؤى روبرت ويلسون" يقول إنه كان يعانى من إعاقة النطق في سن مبكرة، وهو يعد خبير بالمداواة وفن الشفاء الاختصاصي بغير العقاقير والجراحة، يعرف مسرحه بمسرح الرؤى، ويعتمد في عروضه على تكوين تراكيب تشكيلية / بلاستيكية، لا أدبية ولا سريالية يطلق عليها "أوبرا الصمت" تبرز اهتماماته بفن التشكيل من جهة، وبفن العروض الجماهيرية من جهة أخرى. أخرج العديد من المسرحيات كانت أهمها (سيجموند فرويد) 1969 و(نظرة شخص أصم) 1970 و(افتتاحية الجبل كا) 1972 و(الملكة فكتوريا) 1974 و(الشرفات الذهبية) 1982 ومسرحية (الملك لير) 1990 و(في شعر) 1989 و(حورية البحر) 1998 و(14 وقفة) 2000. ولقد تخللت غالبية عروضه سردا رقميا مائزا الامر الذي جعله من المتصدرين المعاصرين للتقنيات الرقمية. 
أما المخرج الكندي روبرت ليباج والملقب بساحر المسرح، الذي ولد في مدينة "كوبيك" الكندية  في العام 1957 ودرس المسرح فيها قبل أن ينتقل إلى فرنسا، وقد بدأ أعماله كممثل بانتوميم، ومن ثم بدأ يخرج لنفسه سلسلة من الأعمال المسرحية كان أهمها "السنيور هاملت"، يتمتع بشهرة عالمية واسعة وحضور دائم في معظم المهرجانات المسرحية، يحتل اسمه حالياً مكانه مرموقة بين أهم خمسة مخرجين مسرحيين بعد جيل المخرج الإنكليزي بيتر بروك، وهم (الأميركي روبرت ولسون، والألماني بيتر شتاين، والروسي ليف دودون، والفرنسية آريان منوشكين) ومن أهم عروضه المسرحية (لعبة الحلم، حلم منتصف ليلة صيف، سلستينا) وللمزيد عن هذا المخرج ينظر: فاضل الجاف، الأسلوب البصري للمخرج روبرت ليباج . صحيفة الحياة / العدد : 13025 . 

نص ورقة العمل التي قدمها كاتب السطور في ندوة بالعنوان نفسه ضمن الندوات الأسبوعية لمختبر السرديات في مكتبة الاسكندرية بتاريخ 17 / 9 / 2019 

ولقد تحدث عنه المخرج الانكليزي ريتشارد إر، وبحسب إشارة فاضل الجاف نفسه – قائلاً: "إن ليباج يحوّل المكان العام إلى مكان سحري، والمكان السحري إلى مكان واقعي سهل المنال، والأمر المحفّز بالنسبة إليّ أنه يعمل بلغة ومفردات تنتمي إلى لغة العرض". فعمله المسرحي مع فرقته "ماشينا" مبني على الابتكار الجماعي والبناء الارتجالي ليس في النص بل وحتى في الإخراج إذا لم يكن النص لأحد الكتاب، ولكي يتم ذلك تستدعي الفرقة عناصر فنية وتقنية من مختلف ميادين الفن والتكنولوجيا والميكانيك والأجهزة الرقمية لبناء العرض المسرحي بناءً حداثياً تتضافر فيه التكنولوجيا الرقمية في عالم السينما والفيديو والكمبيوتر وفنون العمارة وأجهزة الصوت والمؤثرات التقنية الحديثة، حتى أن النقاد يعيبون على ليباج توظيفه عدداً هائلاً من التقنيين يفوق عدد الممثلين، فمثلاً في مسرحيته المونودراما "السنيور هاملت" بلغ عدد الفنيين والتقنيين خمسة وثلاثين شخصاً، وقد تأجل عرض المسرحية ذات مرة لغياب عدد من الفنيين، ثم تعطل العرض تماماً، لكن جزءاً كبيراً من التقنيات التي يستخدمها ليباج في عروضه لا تكلف الكثير على حد تعبيره، مع إنها تبدو مكلفة ظاهرياً. 
والحال نفسه مع المخرجة إليزابيث ليكومبت مديرةً لفرقة "الووستر جروب" وهي فرقة من فرق المسرح التجريبي، ومقرها في مدينة نيويورك الأميركية، كانت تعمد إلى خلط الممثلين الواقفين على خشبة المسرح مع الممثلين الرقميين الذين يظهرون عبر الشاشة الخلفية عبر مواءمة صورية تضفي جماليات كولاجية متلاحقة في العديد من أعمالها.  
في ضوء ما تقدم، نقول إن الأمر لا يقتصر على هؤلاء من أمثلة المخرجين العالمين فهناك الكثير منهم اليوم في كافة مسارح العالم، لدرجة أنها أصبحت ظاهرة مسرحية عالمية، إذ لا نجد اليوم مناظر مسرحية مادية تؤثث فضاء المسرح، بل على الأغلب نجد تلك الشاشات العملاقة في خلفية المسرح، وهي تسرد لنا جماليا، مناظر لأمكنة وأزمنة متوالية ومتداخلة عبر سيناريوهات ممنتجة صوريا وصوتيا، تحاول أن تشارك منصة التمثيل وتتناسق مع أجساد الممثلين وحركاتهم. هذه الظاهرة ليست عالمية طبعا، بل هي اليوم تشكل الثلث الأكبر من العروض المسرحية العربية التي تسعى لاستثمار هذا السرد الرقمي المبهر والساحر حقا.