جمهورية "ماكو" الشعبية

الطبيعي في جمهوريتنا العتيدة ان يكون الحلاقُ ثرثاراً، والسائقُ ارعناً، والجارُ عشائرياً بدوياً، والشرطيُ فاسداً مرتشياً، والموظف فظاً عبوساً، والمحاميُ لعوباً كذوباً. الطبيعي أيضا أن يكون السياسي محصلة هؤلاء وآكثر.

في جمهورية "ماكو" الديمقراطية الشعبية التي لا يفكر أحدٌ بزيارتها، هناك أوبئة مستوطنة ضربت اطناب الاخلاق عند الكثيرين. فمن الطبيعي ان يكون الحلاقُ ثرثاراً، والسائقُ ارعناً، والجارُ عشائرياً بدوياً، والشرطيُ فاسداً مرتشياً، والموظف فظاً عبوساً، والمحاميُ لعوباً كذوباً، اما السياسيُ فقد يحمل جميع الصفات آنفة الذكر، مضافاً لها بعض من الطمع والجشع، ثم التزوير وانعدام الوطنية، وازدواج الجنسية.

وبالطبع فان جُلَ اصحاب المهن الحرة هناك، ومنهم الفيترچية والحدادين والنجارين والبنائين، وحتى حفاري القبور وأساتذتهم الدفانين، والسياسيين على حد سواء، كلهم ذوي ألسنة حلوة، ومواعيد عرقوبية.

ومن المؤكد أن تعميم هذا الانتقاد فيه ظلم وتجني وعدم إنصاف للملتزمين المبدئيين الوطنيين النادرين من أبناء "ماكو" الخالدة.

ولكن من أين جاءت هذه الاحكام؟ ومن الذي وضع أسسها في تلك الجمهورية العجيبة؟

بالقطع هي نِتاج تجارب طويلة، وتراكمات من الموت بصمتٍ، والقهر بصوتٍ، والذل والجوع والحرمان، والظروف الزفتية، لقوم تَنَدَرَ لديهم حُسنُ الخُلقِ، والتراحم والتحضر، وروح التعاون والايثار وبُعدُ النظر، اللهم الا حب الوطن فما زال اغلبهم ضحايا هذا المرض الخطير.

لكن، هل يُداخلك شكٌ يا ابن "ماكو" العظيمة، عندما ينصحك الطبيب بشراء الدواء من صيدلية بعينها؟ ويؤكد نصحه قائلاً "اجلبه لي بعد شراءه، لأطلع عليه وأشرحُ لك كيفية تناولهِ"، بينما هو في حقيقة الامر، يريد الاطمئنان على الكيس البلاستيكي، ليتأكد من أسم الصيدلية السحرية، التي يتحمل صاحبها دفع إيجار عيادته، في مقابل تزويده هو بزبائن.

هل يتملكك احساس بالهبل، عندما تكتشف انك كنت ضحية لعملية نصب بين الطبيب والصيدلي، وان دواءك قد صار بسعر مضاعف عن قيمته الحقيقية؟

احدهم زار طبيباً، وبعد إجراء المعاينة، كتب الطبيب الراچيتة (الوصفة)، ونقش عليها اسم الصيدلية.

يقول الرجل ذهبت وطلبت من الصيدلي اطلاعي على المبلغ الاجمالي للدواء، فقال: يتجاوز المائة الف دينار، فقلت للصيدلي: سأكتفي الان بشراء دواءٍ خافضٍ للحرارة، وسأعود لك بعد تدبر الفلوس. ناولني الرجل علبة واحدة بعد ان وضعها في كيس، دفعت ثمنها البسيط، ثم توجهت الى صيدلية اخرى قريبة من بيتي، وصرفتُ قيمة الوصفة باقل من نصف السعر، ودسست كل الدواء في كيس الصيدلية الاولى، وعدت ادراجي الى طبيبي، الذي انفرجت اساريره واثنى على جودة الدواء وشكرني لحرصي وإلتزامي بتعليماته الصحيّة القيّمة!

وبما ان النبهين كثيرون، لا بد من الطبيب ان يكون اكثر نباهة، وعليه فقد عمد بعض الاطباء الى كتابة اسماء الادوية برموز سرية، لا يفك طلاسمها الا الصيدلي المعني، وهنا انتصر الشر على الخير مرة اخرى.

أن اهل "ماكو" يعلمون جيداً أن الخير مستوطن في بلدهم منذ قديم الازل لكنه أسيرٌ للشر البشع، وهم عادة ما يسألون انفسهم بالقول: مالذي يدعونا لمحاربة الشر ما دام هو المتسيد، المتربع على العرش؟ وما دام الخيرُ عاجزٌ عن حمايتنا؟ اما كان الاولى بنا تقبيل يد الشر اتقاءً لبطشه، ثم ما الذي يجبرنا للدخول في حرب خاسرة ضد الفاسدين وتجار الموت؟ وهم الاقوياء المقتدرون المتنفذون الماسكون دفة الحياة بقبضة فولاذية؟

الحمد لله اني لست احد مواطني "ماكو" البائسة، واحمده سبحانه مرة اخرى لكوني "عراقي" اصيل دائم التفكير بالجنة، ينادي في كل وقت وحين "الغوث، الغوث خلصنا من النار يا رب!"

▪️محمد خليل كيطان