جميلة جيهان بالعربي: 'أحمل غربتي... يتبعني ظلي'
الشعر هذا الآخذ بناصية الأشياء والعناصر والكائنات حيث الذات في سفرها المفتوح على بهجة وشجنا وتشوفا تجاه القادم نظرا بعين القلب بكثير من ألق الدواخل وصفاء الكينونة ونحتا للملامح الناهضة على قلقها وسؤالها الدفين في أكوان يوجهها الحلم لوحده متأبطا رؤاه... رؤى الشاعر المثقل بالأماني وهو الحمال لمجمل معاني الحياة... الشعر هذا المأخوذ بفجيعة الكائنات في حلها وترحالها.. بغنائها الخافت وهي تستذكر شيئا من ألق العناصر تبح في الكلمات عن وجوهها الضائعة.. عن إقاماتها الأخرى حيث الوردة بمواجهة السكين.. القصائد وهكذا هي هذا الترجمان البليغ تجاه ما يحدث..
ومن هنا وفي سياقات هذه الأحوال نمضي مع سفر مفتوح على عوالم شتى من ضروب الغربة المحفوفة بظلال المحبة والحلم والذكرى حيث الشاعرة هنا تأخذنا إلى مسألة مهمة عناها الشعر العربي والكوني في تنوع من التعاطي ونعني الغربة وحكاياتها التي يحيلنا إليها الديوان الشعري الذي نحن بصدده وعنوانه "أحمل غربتي... يتبعني ظلي" للشاعرة جميلة جيهان بالعربي الصادر مؤخرا عن الدار الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع بالمنستير وهو من الحجم المتوسط وفي 92 صفحة.
تقول الشاعرة في قصيدة "أحمل غربتي..."
"يمضي قطار حياتي /وأنا أبحث عني لأودعني / سوف تجيئ المواسم /بخوائها القديم / أحمل غربتي / وعلى شفاهي بوح ورحيل / تمنحني الشمس ألوانها / فألوذ بالصمت / أهب الطيور همساتي / أزرع في الفصول نجوما وأمنيات / أحضن ربيعا يشبهني وأقول / مرحى للكلمات...".
لقد حضرت معاني الغربة بتلويناتها المختلفة في مسارات شعرنا العربي بل الشعر العالمي حيث نجم المفهوم عن صلات وعلاقات الشاعر بالحياة والمجتمع والإنسان عامة.. فإذا كان هذا الارتباط بينا في علاقاته بالأمكنة وأحوالها فإن مظاهره كانت كذلك في الغربة الوجدانية والنفسية التي تعبر عن شجن المعاني التي يولدها الشاعر وهو المقيم بين أهله والناس.
فالغربة وبحسب المعاجم مصدر غَرُبَ، ويقال طَالَتْ غُرْبَتُهُ أي طَالَ بُعْدُهُ عَنْ وَطَنِهِ وَأَهْلِهِ، وأيضًا، وَجَدْتُهُ فِي غربة أي فِي وَحْشَةٍ، ومنها: فقْدُ الأحبّة غربة بمعنى من فقد أحبّتَه صار كالغريب بين الناس، وإن لم يفارق وطنَه وهناك نوعان من الغربة: غربة مادّيّة تتجلّى في البعد عن الأهل والوطن، وغربة معنويّة تتجلّى في الخروج على مبادئ الناس، وتقاليدهم، وأعرافهم.
وفي هذه المجموعة أخذتنا الشاعرة إلى عالمها الشعري الطافح بالشجن والحزن والانكسار والوحشة ولكن أيضا - وهذا مهم - بالأمل والحلم حيث القصيدة مجال كون شعري فيه تداعيات شتى لأحوال ذات أنهكها النظر المثقل بالأسى للإنسان وهو يسقط في نكباته وانتكاساته وفق غيب لما هو قيمي وجوهري في العلاقات والأحداث ويربط بين الناس في إقامتهم على الأرض وهو ما فاقم من الوجائع والحسرة ليبرز ذلك في أشعار الديوان حيث تبقي الشاعرة الباب مشرعا على الأمل لأجل واقع أجمل.
تقول الشاعرة في الصفحة 6 نص تقديمي للديوان ما يلي "هذا شيء من رغباتي في الكلمات... في الحلم... وفي الأمكنة... هذه قصائدي لونتها بما يسكنني من وجع وهيام وأمنيات... فجاءت في هذا الديوان الأول من تجربتي مفعمة بالبراءة الكامنة في اللغة... وفي المعاني. أكتب قصائدي هذه وأنا أرى عبر نافذة الأيام كيف تتحرك الفصول والكائنات ليعلي الإنسان بداخلي من شأن الذكرى... والحس والحلم... هذه قصائدي بشجنها المعتق... ترتجي شيئا من جمال الشعر وجوهره كفعل إبداعي جمالي... وكثيرا من ذاتي المتعبة... والحالمة...".
إنها لعبة الشعر حيث يبتكر الشاعر عالمه المحلوم به عبر استدعاء عالم الغربة بتمثلاته العديدة وفق السرد والتفاصيل وما هو دلالي في عبارات تقوم على عناصر منها الرغبات والحلم والبراءة والفصول والذكرى والجمال... كل ذلك في شواسع ذات هي ذات الشاعرة التي تقول عنها "متعبة و... حالمة...".
من قصائد هذه المعاني وفي المجموعة تقول الشاعرة جميلة جيهان بالعربي "جئت كالفجر... تلون خريفا لبهجة العمر...". و"أجمع المواعيد في جيبي / وفي قبضتي / أدس الرحيل..." و كذلك "... القلب حبل غسيل / لتجفيف ما علق / بالذاكرة" و"في مساء كهذا / أحتاج ظلك / يقودني الي...".
تحتشد في ذات الشاعرة تفاصيل شتى تغذي الإحساس بالغربة وفق نظرة عميقة تجاه الكائن وأحواله وتبدلات شؤونه وشجونه غير أن القصائد تفصح عن متعة تعاطيعا في المعاني لتشير إلى استمتاع الشاعرة بمعيشها صانع غربتها وهي متعة لا تضاهى يصير معها الواقع ومشتقاته تعلات لقول الجميل صانع الحلم ونعني الشعر.. إذن هي غربة مولدة تأخذنا إليها الشاعرة في شجن مشوب بالأمل وبسواد التفاصيل والأحوال المحيل إلى ما هو مشرق من القادم وبه وفيه...
ومن هذا وعلى سبيل التماهي مع الوطن تقول الشاعرة بالصفحة 78
"... بقلبي... وطن / وحب نازف / وطائر ينبض / يحلم بالانعتاق.....
وأغنية للحياة / تصافح الأقمار... وترسمني / وشما / في الضلوع...".
نص شعري خفيف البناء ثقيل المعاني يبدأ بالوطن وينتهي بالرسم حيث الشاعرة في كونها المراوح بين الحب الدفين والكينونة وما بها من وله بين الحلم والغناء للتعافي من واقع الحال والأحوال وصولا إلى الوشم وما يعنيه من علامات دالة وموحية حيث الضلوع التي يرتسم عليها.. إنها حساسية الشاعرة عالية الفكرة وعميقة التناول في تمشيها الشعري الساكن في أعماق ما هو دال على الغربة.. الغربة الشاعرة.
في المجموعة الشعرية هذه "أحمل غربتي... يتبعني ظلي" مجال قول به رومانسية ملونة بالشجن والأمل حيث الذكرى تحفر عميقا في كيان الشاعرة بالعربي.. فالقصائد مراوحة بين القصر والتوسط في الطول وكأننا بالشاعرة تبتكر نصوصها غير عابئة بالشكل وما يعنيها فقط هو الجوهر.. كنه الأشياء التي تحيل إلى حالها الضاجة بالغربة... إنها قصائد القلب في نظر مخصوص نابع من القلب وكأنها تسير إلى فراغ الأمكنة من جواهرها الدالة على روحها لتحيلنا بالتالي على رؤية الشاعر المصري عبدالمعطي حجازي في ديوانه الشهير "مدينة بلا قلب...".
تقول في الصفحتين 24 و26 "... ينبت نورك بالأحداق.../ فيسكنني طيفك / مثل مدن / هاجرت إليها / طيوري"... و"كفاك عبثا.../ فعطرك / سافر من زمان..../ مع الريح...".
لقد قام الشعر منذ قديم عصوره على مفاهيم وثيمات شتى ومنها الغربة والاغتراب وقد باحت عديد التجارب بأشهى الأقوال الشعرية والقصائد ومن ذلك شكوى قيس بن الملوح وما حف بها من الأسى والمرارة وفق الشوق إلى الأحبة وما يعنيه ذلك في التجربة الشعرية وفي الحياة حيث يقول "أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا"... وتنوعت أشكال العبارة حيث الشاعر في أيامنا هذه يذهب عميقا في مسألة موضوع الغربة وخلفه إرث من الشعر الكوني ومنه الشعر الأندلسي والشعر الحديث وغيره...
في قصيدة بعنوان "كالضياع..." بالصفحة 66 تقول الشاعر جميلة جيهان بالعربي "... باردة أعراسكم / كالضياع... / ها هو الخراب يعزف لحنه / ينسف بيوتا من كلمات.../ وألوان للفراشات / يا لغربتك... في ازدحام الأفاعي.../...../ تكسرين بمحراب الوقت / بحكمة النقاء / تصد الشتيمة...".
هي مجموعة شعرية تتقصد ألق الأشياء في كون مفعم بالتداعيات والسقوط لتبقي الشاعرة في القصائد على الأمل وهي المراوحة بين الأسى والبهجة وبين الشجن والفرح في سياق شعري تتخفف فيه القصائد من كل ما من شأنه أن يثقل زينتها وجمال معانيها في ضرب من التكثيف والخفة وهو مشغل شعري حديث يأخذ الشعر إلى أطوار أخرى من كنه القول وبلاغته وتعبيريته الباذخة...
في صفحة 54 في قصيدة "هو الحلم يبتسم" نقرأ ما يلي "... أعلن الضوء... صمتا وجفاء.../ أهمس بوجه الرغبات / أركض كحلم مبتسم / ألقي الياسمين في تشابك الأجساد.../ وبين الرغبة والعناق.../ أرقص على إيقاع العشق / ها هو حلمي يبتسم / في تغاريد الشفاه...".
وعليه فإن ديوان الشاعرة جميلة جيهان بالعربي الممهور بـ"أحمل غربتي... يتبعني ظلي" يهدينا فسحة مع الشعر بقصائد في شجنها المعتق ترتجي ألق الأشياء كي تنبت الوردة في رحم الخواء والخراب والغربة حيث لا مجال لغير الشعر تبرأ به العناصر الكامنة في الذات الشاعرة وهي تعد خساراتها الجميلة والأنيقة أناقة الكلمات والمعاني.