جهاد حسن وحتمية اللحظة الإبداعية

التشكيلي السوري يغوص تحت الماء، أقصد تحت الألوان، لا لكسب سلوكيات خاصة، بل لكسب سلوك البحث عن الحاجات الإنسانية القريبة منها والبعيدة،

جهاد حسن (جنديرس، حلب 1967 ) لم تلوث روحه بعد، ولم تؤثر فيه كل موبيقات الزمن الملوث، فروحه محصن بالبساطة والصدق، وقلبه يزدحم بالحب، ويدرك تماماً بأنه بالحب وحده يستطيع أن يخلق المعجزات، وبأن حب الآخر الإنسان هو الآخر إبداع حق، إبداع ما بعده إبداع، فهذا النقاء في قناعاته يدفعه إلى قبول الآخر مهما كان مختلفاً عنه، ومهما كان لونه، وبذلك يعزز قيم الإنسان وبأنها وحدها تستحق أن تكون الإستراتيجيات الجديدة في بناء هذا العالم المبني أصلاً على بناء الإنسان ذاته.

جهاد حسن فاجأني قبل فترة ليست بطويلة وذلك بوجوده في تونس ضمن ورشة تخص أصحاب الإحتياجات الخاصة، والمكفوفين منهم على نحو أخص وأدق، والذي تحول هذا التوجه فيما بعد على أثر عودته إلى ألمانيا حيث يقيم إلى مشروع يشتغل عليه بعمق وعشق، وأتمنى أن يتوفق بذلك رغم أن المشروع ليس هيناً، فهو يحتاج إلى دعم رسمي، وإلى كفاءات جَمْعية، فالعلاقة مع المكفوفين، وتعليمهم الرسم وفن التعامل مع اللون هو بحد ذاته تحدًّ كبير، وهم المحرومون من رؤيته، بل يكاد لا يعرفون منه شيئاً، فقد يأخذك هذا المشروع والكلام عنه في البداية إلى عالم غرائبي لا يصدق، ولكن إصرار حسن وتحديه للمستحيل سيجعلنا نصدق،وننتظر منه ثمرات مشروعه.

جهاد حسن عُرف كفنان ضوئي، له عدسته في تحضير اللقطة المناسبة في الزمن المناسب، فهو قناص ماهر في ذلك، وله مشاركاته الكثيرة والمتميزة في حلب وغيرها، وحضوره في هذا الجانب شاسع وبهدف خلق بيئة مؤثرة تعكس رد الفعل العاطفي وما تشكله من إحساسات وإستجاباتها المعينة في الجانب السار منه وغير السار أيضاً، التي ستشير إلى طبيعة تذوقنا الجمالي لها ودرجة تقصينا لعناصرها التخييلية وإستدلالاتها، والتي لن تكتفي بحاجاتها المعنوية متمثلة بتحقيق الذات عبر متغيرات على الشكل وأرضيتها معاً، فحسن حين يملك صدق تحقيق هدف كشوفاته البصرية، فهو يعتمد على معالجة النتائج التي يصل إليها، أو من الممكن أن يصل إليها، بل ويخترقها بحصان البحث المرتبط بأصالة هذا الحصان أو عدم ذلك، المرتبط بحالات من الموهبة وفق متغير جوهري وموضوعي.

جهاد حسن القادم من الضوء للتشكيل، من عدسة الكاميرا إلى عدسة الروح حيث الإحساس بؤبؤه، رغم عدم وجود غرابة أن يكون الفنان الضوئي فناناً تشكيلياً، فعطر الفن فوّاح بكل الإتجاهات، وإذا كان الأمر على عكس ذلك أي أن يكون الفنان التشكيلي ضوئياً فلا غرابة أبداً وما أكثر الأسماء التشكيلية التي تمتهن التصوير الضوئي وتبدع فيه بقدر ما ما أبدعت في التشكيل، لكن حالة حسن المعكوسة هي التي أوحت لنا بهذه الإشارات، فأبدع في الضوء إلى حد التمايز، ودخل في بحيرة الألوان من فوهة الضوء، قد لا يكون له في ذلك حول أو قرار، لكن ذلك بحد ذاته جرأة وتحد، ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى ذلك القلق الذي بدأ يسري في أنامل حسن وهو يخطو هذه الخطوة، القلق الذي سيمنحه فيما بعد صوتاً موزعاً بين حتمية اللحظة الإبداعية التي تجعل الفنان يتعرف على ذاته أكثر، وبين رغباته وقدراته التي تصرح عن ذاتها سواء تلك التي تدفع العمل الفني لتعلن عن ولادتها، أو تلك التي تتراكم زمكانياً وبها يعترف على حقيقة الأشياء بما فيها حقيقته، فهو إن كان يعرف أين هو حين يعوم في الضوء ويقطف عناقيدها، إلا أنه يقف بحيرة، فيها من الخشية الكثير، ومن الهدوء المبطن بالخوف حين يعوم في اللون ما يجعله يفتح الباب بحذر شديد كأنه يخشى ألا يكون هذا الباب بابه، يقف بحيرة طفل قطف ياسمينة بغفلة من أمه، فجواز سفره لم يسافر به بعد وإن كان جاهزاً للإقلاع، فالجدية التي يتحلى بها حسن مع مداه القريب والبعيد هي ذاتها وهو يخوض عراكاً جميلاً في ساحات اللون، الجدية التي لا تخلو من الإقتراب من تفاصيل البحث وهو يقبض على ذرات الغبار العالقة في المدى الآخر الذي إليه يمشي حسن وبلغة تصويرية لها مبرراتها في الدخول إلى ذاكرة كل مورثاتها تأملات وتساؤلات متداخلة من ألوان مشبعة بحقول النهار وحقول قصائد نثرتها عاشقة على سفح جبل تنتظر فارسها لتلمها حرفاً حرفاً، وبحركة منه يملأ العالم وساحاتها بألوان عشقه وغربتها التي باتت على مفترق حياة أو أكثر، على مفترق موت أو أقل.

جهاد حسن يغوص تحت الماء، أقصد تحت الألوان، لا لكسب سلوكيات خاصة، بل لكسب سلوك البحث عن الحاجات الإنسانية القريبة منها والبعيدة، البحث عن الإثارات الحسية التي هي بمثابة إستجابات تلقائية لإحداث التوازن المناسب بين السلوكيات المختلفة لإضفاء رؤية إستخلاصية للمبنى وللمعنى معاً، بها ينظم حسن مشهده البصري وما يتحرك فيه وفي عمقه من مكنونات مخبوءة تحرض متلقيه على التنبؤ والاستكشاف.