حسن بنجلون إلى القاعات السينمائية بـ'جلال الدين'

المخرج المغربي يقدم فيلمه الروائي الطويل في عرض ما قبل الأول في الدار البيضاء بحضور أبطاله قبل انطلاقته خلال اسبوعين في دور السنما.



الرباط - يقدم فيلم "جلال الدين" رحلة روحانية في حياة شخصية تدعى "جلال الدين"، رجل يرفض الاستسلام لألم فقدان زوجته، ويتخذ قرارا فريدا بالانعزال عن العالم الخارجي بهدف استكشاف النور الداخلي، وبعد مضي عقدين من الزمن يتحول "جلال الدين" إلى معلم صوفي يعيش حياة هادئة بصحبة تلاميذه، ويستمتع بجمال الوجود وحكمة التجربة الروحية مما يجسد روحانية الحبكة السينمائية من التغيير الداخلي إلى اكتساب الحكمة.

الفيلم من تأليف وإخراج حسن بنجلون، وبطولة كل من ياسين أحجام، والممثلة التونسية فاطمة ناصر، وعز العرب الكغاط، وفاطمة الزهراء بلدي، وأيوب اليوسفي، ومليكة الحماري، وإلياس أمل، ونسرين جوليا معاشات.

يقدم الفيلم تجربة مختلفة للمخرج حسن بنجلون، حيث يظهر ذلك في تقنيات المكياج والديكور والموسيقى التصويرية التي اعتمدها ليخلق أجواء متناغمة تأسر الجمهور، وتنقله إلى عوالم صوفية مختلفة عما نعيشه اليوم.

تعبر "هبة" عن استعدادها للاحتفال بفرح جلال الدين دون أي شكوى، مما يضفي على شخصيتها طابعا رفيع المقام يحمل في طياته سيدة ذات طابع صوفي عميق تؤمن بتجاوز التجارب الحسية واستمداد السعادة من خلال الروحانية واليقين العميق بالله.

استعمل المخرج بنجلون في هذا الفيلم أسلوب الشاعر الراوي في المشاهد التي تقوم فيها "هبة" بتوثيق تفاصيل حياتها اليومية في دفتر صغير تعبر فيه بأسلوب شعري عن إحساسها وأفكارها، مما يضيف إلى القصة بعدا أدبيا يفتح أبواب التأمل والتفكير العميق.

وتبرز الأحداث اللاحقة في الفيلم تصورا تفاعليا لمواضيع عميقة ومعقدة، حيث يمزج بين الشخصيات والخلفيات في سياق فني يثير تساؤلات حول الفلسفة الصوفية التي تتغذى من الحكم والتأملات المستمدة من كتابات وشعر العارف الكبير جلال الدين الرومي.

ينعكس تأثير هذه الفلسفة بعمق في ذروة الفيلم، وذلك بفضل التركيز على حوارات "الشيخ مولاي عمر" الذي جسده الممثل القدير عز العرب الكغاط، مما يتبعه تحول "جلال الدين" نحو الطريق الصوفي بعد اعتناقه لهذه الفلسفة.

يظهر أسلوب المخرج كعمل فني يأخذنا في رحلة فريدة، يكشف فيها عن أبعاد جديدة من الإبداع السينمائي من خلال اكتشاف أعماق شخصية "جلال الدين" الذي يتقاطع مصيره مع امرأة تعمل في مركز التدليك كواجهة تغطي كواليس الدعارة النظيفة التي تديرها شخصية تدعى "فضيلة" التي يعكس اسمها حقيقتها، إذ تقوم بقيادة فتيات صغيرات يتيمات حيث تعنى بتربيتهن وتعليمهن كيف يرضين زبائنهن.

وتألق الممثل ياسين أحجام في دور "جلال الدين" بتجسيده جوانب متعددة ومعقدة إذ يظهر كرجل ثري يتسلق قمة النجاح بفضل ثروة كونها من تربية الخيول، يعيش حياة سعيدة برفقة حبيبته المخلصة "هبة"، ويتجسد حب "جلال الدين" على وجه غامر حيث تكون فكرة اقتراب موتها بسبب مرض خطير أمرا غير مقبول لديه رغم رضائه بالقضاء والقدر.

وتظهر شخصية "ربيعة"، التي تؤديها فاطمة الزهراء بلادي، بطريقة تلقي الضوء على إعجاب "جلال الدين" بها، وتشير إلى تطور العلاقة بينهما إلى مستوى محظور، ورغم ذلك نشاهد فيما بعد تكسير هذا التابو مع ظهور لقطات في شرائط فيديو عند "فضيلة" تكشف عن علاقة جنسية بينهما.

يبرز المخرج استخدام اللغة الجسدية لتعزيز قوة اللغة البصرية في توجيه الحبكة الدرامية، ويعكس هذا الاستخدام الفني العميق عمق العلاقات الإنسانية وتأثيرها على الحبكة العامة للفيلم، خاصة في المشهد الذي يصف اللحظة التي يقع فيها "عادل" في حب "ربيعة"، ويتزوجها رغم معرفته بماضيها.

تتألق التقنيات البصرية والصوتية في إيجاد تجربة سينمائية تعزز التفاعل العاطفي مع شخصية حفيد "جلال الدين" "وليد" في استكشاف تاريخ جده وقراءة كتبه، على الرغم من نية التخلي عن دراسته للسفر إلى الهند بحثا عن اليقين الروحي، ويقرر في النهاية الانضمام إلى جده ليبقى معه في العزلة التي اختارها، ويقدم "وليد" أفكار جلال الدين الرومي حيث يعتنق فلسفته في قبول جميع البشر بغض النظر عن التفاوت في الألوان والأعراق والأديان، مؤكدا على وحدة الوجود والتواصل المباشر بين الإنسان والخالق.

تتجلى التطورات في الشخصية الرئيسية من خلال الإضاءة والألوان، خاصة خلال لقطات الرقص الصوفي مما يعكس رحلتها العاطفية والروحية، والهيبة التي يظهرها "جلال الدين" كشيخ في الطرق الصوفية ورغبته في التعبير عن رؤيته للتسامح، ليس فقط من خلال فلسفة الرومي، بل أيضا من خلال استخدام الموسيقى الروحية والذكر والأشعار والغناء كوسائل للوصول إلى مستويات أعلى من الروحانية والرغبة في التواصل مع الله.

ويبرع المخرج حسن بنجلون في توجيه هذه المشاهد بأسلوب فني، حيث يحقق توازنا في تنوع اللقطات والزوايا، ويلمح في أحد المشاهد إلى استياء البطل من التطرف الإسلامي الذي يؤثر في بعض الشباب، كما تبرز اللقطات الرمزية في الفيلم بفاعلية عبر استخدام المخرج لغة بصرية تعبيرية، لا سيما في الصراع بين "فضيلة" التي تجسد الشر على الرغم من رعايتها للفتيات اليتيمات، وبين "عادل" الذي يتجاهل الجانب الروحاني، وتوضح المشاهد الأخيرة كيف تدمر "فضيلة" حياة "عادل" عندما تكشف له عن تسجيلات فيديو تم تصويرها في الماضي تجمع بين "ربيعة" و"جلال الدين".