'قمر من دم' والاجرام الأميركي في ملجأ العامرية

مسرحية الشاعر والكاتب المسرحي والباحث في ميثولوجيا الشرق وتاريخ الأديان خزعل الماجدي تلقي الضوءَ على هذه مجزرة قضى فيها 400 مدنيا عراقيا.

في 13 فبراير/شباط 1991م وأثناء حرب الخليج الثانية، إبَّان العدوان الأميركي على العراق، قامت طائرتان من نوع إف 117 تحمل قنابل ذكية بقصف وتدمير ملجأ العامرية؛ مما أدى لاستشهاد أكثر من 400 مدني عراقي من نساءٍ وأطفال، وقد أُبيدت عوائل كاملة فيه كانت تلجأ إليه من القصف الجوي والصاروخي الأميركي المستمر على العراق، وبغداد بشكل خاص. وقد بررت قوات التحالف هذا القصف بأنه كان يستهدف مراكز قيادة عراقية، لكن الأحداث أثبتت أن تدمير الملجأ كان متعمدا، خاصة وأن الطائرات الأميركية ظلَّت تحوم فوقه لمدة يومين.. ويسمَّى هذا الملجأ أيضًا ﺑ "الفردوس" أو "رقم 25".

هذه المسرحية "قمر من دم" للشاعروالكاتب المسرحي، والباحث في ميثولوجيا الشرق وتاريخ الأديان خزعل الماجدي، والتي صدرت عام 1991 وأعادت مؤسسة هنداوي نشرها أخيرا، تلقي الضوءَ على هذه الجريمة، وتوثق بشاعة ما جرى في ذاكرة الضمير الإنساني. وقد صاغ الماجدي هذه المسرحية بأسلوب شعري أخاذ ومفعم بالألم.

المسرحية التي عرضتها فرقة القومية العراقية في 12 فبراير 1992م؛ أي بعد مرور عام على ضرب الملجأ، استوحى الماجدي اسمها من قصيدة للشاعر يوسف الصائغ "قمر من دم". أما نصها، فقد اعتمد على قصيدته عن العامرية، التي غير اسمها فيما بعد بعنوان "وطن كان في عين طفلٍ ينام"، ونشرها في مجموعته "موسيقى لهدم البحر" في المجلد الثاني من الأعمال الشعرية له. وقد أضاف للمسرحية بعض المقاطع من قصيدة يوسف الصائغ، وقصيدة للشاعر عبد الوهاب البياتي، وقصيدة مغناة للشاعر فاروق سلوم. وقام المخرج د.فاضل خليل بإخراج هذا العمل المسرحي على أرض الملجأ المقصوف بكل ما احتواه من خراب وبقايا الشعر واللحم المحترق الملتصق على الجدران، وصور الضحايا المعلَّقة عليه.

تناولتها العديد من الكتابات وقتئذ حيث كتب الناقد عواد علي موضحا "لأن العرض قدم في نفس المكان الذي حدثت فيه المأساة، فلم يكن المخرج فاضل خليل بحاجة إلى تأثيثه؛ فثمة قضبان معدنية معوجة، وأعمدة وجدران ملطخة بالسواد، وأنابيب مهشمة.. وغير ذلك مما خلَّفه الدمار. أما اللوحان الخشبيان اللذان رُسمت عليهما عيون جاحظة في مؤخرة فضاء العرض فلم يكن لهما أثر إيجابي في تعميق التجربة/ الاحتفالية، بالرغم من أن تلك العيون كانت علامات اصطناعية رمزية، بالمفهوم السيميائي، توحي بأنها شهود عِيان على الجريمة، وبخاصة أنها تحدق إلى الفتحة التي أحدثها الصاروخ في سقف الملجأ.

وفي لقاء لهدية حسين أثناء الإعداد للعرض مع المخرج فاضل خليل، قال "هذا النص هو خلاصة لأكثر من عشرين قصيدة وحكاية وقصة قصيرة وشهادات موثَّقة للأشخاص الذين نجَوا من الملجأ. محورها استحضار شواهد عصر للتعبير عن جريمة هذا العصر التي ارتكبها الأمريكان في ملجأ العامرية. حكاية لمجموعة من الشهداء عبرنا عنها بالأغنية وباللون وبالمؤثِّر الصوتي أو الضوئي والانفجار من أجل أن نعيد إلى الأذهان ولكلّ مَن سيشاهد هذا العمل أو يسمع عنه ذكرى الأبرياء الذين استشهدوا في ملجأ العامرية، وتذكير بكل شهداء العراق والأمة العربية".

ويضيف فاضل "نصير شمة سيقوم بعد هذا العرض المسرحي بجولة في عدد من الدول الأوروبية، منها: السويد، وفرنسا، وألمانيا، وكندا وإسبانيا؛ لينقل إلى هناك عبر عُودِه ما حدث في ملجأ العامرية، وسيخصص ربع هذه الجولة لعلاج أطفال العراق في أحد المستشفيات الألمانية. أما عن مساهمة "قمر من دم"، فستكون أهم فعالية لما حدث في ملجأ العامرية، أهميتها تكمن في حميمية موضوعها ومساسها بالشعب العراقي. سنقدم من خلالها مجموعة مشاعر صادقة تحاول أن تجسِّد الحدثَ حتى تتذكَّر الأجيال ويسمع ويشاهد العالم ما حدث للناس الأبرياء في هذا الملجأ، وما آلت إليه اليد الأميركية القبيحة في قتل المدنيين.. دوري أنا هو تأليف الموسيقى التصويرية والألحان.. سأحاول، وما زلت أتمرَّن لأوقات طويلة كي أستطيع تجسيد هذا الحدث.. وسأدخل معزوفة "حدث في العامرية"، وستكون مختلفة كثيرًا بعد أن جمعت في ذهني صورًا كثيرة لما جرى. نتمنَّى جميعًا أن تكون هذه الفعالية بمستوى الحدث الكبير.

وأصمت حيث يبدأ التمرين.. أنامل نصير شمَّة تعزف ألمًا، وصوت أمل حسين يقطر حزنًا حين تنساب الكلمات:

عيني على بغداد طارت فوقها الغربان

عيني أمسكي دمعتي

واحكي لهم صبري

لا تندلق يا دمع

يا دمع لا تجري!

لكن الدمع ينسكب من عينَي أمل حسين وابتسام فريد، ويداوي المُخرج فاضل خليل دمعته بآهة تنطلق من أعماقه.. نصير شمَّة يواصل العزف والغناء:

لأنك طفل يا ولدي أهدَوك حصارًا

لا تعرف حتمًا يا ولدي معنى الأسرار

اصرخ بالدنيا يا ولدي

كيف سأحيا من غير سلام

أو حب، من غير أمان؟!

كيف سأحيا والحرب دمار وحصار

كيف سأحيا والحرب دمار وحصار؟!

يقول الماجدي "تبدأ المسرحية بليلة شباطية ماطرة، يظهر فيها البرق عنيفا، فتضرب إحدى قدحات البرق القمرَ في السماء، فيتحطم وتتناثر شظاياه حول الملجأ، وعليه وفيه، وينطلق صوت العود الذي يرافق قصفَ وتدمير الملجأ، ثم ينطلق صوت المغنية الحزين، وتتحول شجرة الزيتون في الملجأ من لونها الأخضر إلى الأحمر بعد أن يدوي الانفجار، ويخرج بخار أحمر من سلَّة الهدايا المعلَّقة على غصن جانبي فيها.. وتصبح العين الموجودة في ديكور المسرحية "وهي عين الشاهد على الجريمة" حمراءَ، ثم تتمزَّق دائرة السواد فيها وتتناثر البقايا المتفحِّمة للضحايا، وتتحوَّل عظام الشهداء إلى ناياتٍ محترقة تعزف مرثية العراق منذ الأزل. ويظهر الرجل والمرأة كضحيتين وشاهدين على ما حصل للعراق وللملجأ، وينتهي المشهد الأول برثاء حزين للعامرية وسيل دم القمر عليها تلك الليلة".

ويضيف "في المشهد الثاني تتحرَّك المجاميع نحو جدران الملجأ، ويتقابل الرجلُ والمرأة في حوارٍ متبادل، وبينهما الطفلة المقطوعة الأطراف تزحف باتجاه هداياها المعلَّقة على شجرة الزيتون … وخلال هذا الحوار تزحف الطفلة نحو هداياها وتحاول إنزال الهدايا، ثم يبدأ حوار بينها وبين أمِّها حيث تشكو الطفلة من الدم العالق على الهدايا ومن أيديها المقطوعة، وعدم تمكُّنها من اللعب بهذه الهدايا. ثم ينطلق صوت المغنية بأغنية لرثاء بغداد، فيما تتصاعد أوتار العود حزنًا وغضبًا. وفي المشهد الثالث يظهر الملجأ وكأنه يطفو فوق أنهار من الدم والدموع والرماد متصلة بالجحيم، فلم يَعُد اسمه الفردوس ـ كما كان يطلق عليه ـ فهو الآن جزءٌ من الجحيم، ونسمع أصوات الاستغاثات والعويل، ويتبادل الرجل والمرأة حوارًا حول الدم والرماد والخوف والدموع وهي تتلاطم في جدران الملجأ وتحته وحوله، ويعلنان بأنه لم تبقَ غير الأصابع تشير إلى هذه التراجيديا التي يغذِّيها عدوان أجنبي وعصاب أيديولوجي داخلي.. وهكذا يموت الناس تحت أقدام المدَّعين، من الخارج، بخلاص العراق، وأقدام الديكتاتورية، في الداخل، التي أوصلت البلاد إلى هذا المصير المأساوي، وتظهر المجاميع وهي تخيط أفواه بعضها دلالةً على غياب الحرية واحتجاجًا على العنف. وأخيرًا، تحمل الريح الملجأ إلى مكانٍ يفصل بين الجنَّة والنار، وتنتقل المجاميعُ إلى سطح الملجأ وهم مخيطو الأفواه، ويحملون الطفلة وسلَّتها على أكتافهم".