حكم غيابي بحق... حاضر

ليس اللوم على سوريا وإيران. اللوم على اللبنانيين إذ يقدمون بلدهم أضحية إلى الأجنبي.

بعدما أنهت فرنسا إحصاء عدد العملاء الفرنسيين إبان الاحتلال الألماني (1940 - 1945)، نشر تفاصيلها الكاتب دومينيك لورمييه Dominique Lormier، المتخصص في تلك الحقبة. أحصى لورمييه مئة ألف عميل سجن منهم 95 ألفا وأعدم 791 عميلا. ولم تسمح لأي منهم المشاركة في الحياة السياسة بعد تحرير فرنسا. للعملاء مرحلة وللأحرار الزمان. الأمر ذاته حصل في ألمانيا وإيطاليا. هكذا تتصرف الشعوب الممتلئة كرامة. تكافئ الأحرار وتعاقب العملاء. وإن صفحت عن بعضهم إنسانيا، فلا تضعهم في الصدارة. لا يعودون نوابا ولا وزراء ولا رؤساء ولا إلخ... يعيشون في إقامة تأنيب الضمير.

سعيدة تلك الشعوب أن تميز بين حلفائها وأعدائها ووطنييها وعملائها. في لبنان تختلط العلاقات: عدو مكون حليف مكون آخر. وتختلط المعايير: العميل لدى مكون وطني لدى مكون آخر. ولا شعور بالذنب. عرف لبنان المتعامل مع الاحتلال، والمتعاون، ومجند العملاء، "والعميل الاختياري"، "والعميل المسير". وإذ يجد البعض أسبابا تخفيفية للذين يسقطون في العمالة أثناء الاحتلال، فلا تفهم للذين يختارون العمالة بعد انسحاب المحتل. العطب ليس في الأعداء وهم كثر، ولا في الحلفاء وهم قليلون، بل في ذاتنا: بنية لبنان تجعلنا أعداء بعضنا بعضا بالانتماء، وعملاء الأجنبي بالولاء. ومن عادى نفسه عاداه الجميع وفقد الاحترام.

بعد انتهاء الحرب وانسحاب الاحتلال وانبثاق الأنظمة الجديدة، بنت أوروبا دولها ووجهتها نحو المستقبل. لم يتهم أي نظام أوروبي جديد النظام السابق والمسؤولين السابقين والسنوات السابقة بعرقلة مسيرته وحكمه. لم تتهم ألمانيا السنوات النازية ولا فرنسا السنوات الڤيشية ولا إيطاليا السنوات الفاشية. ولا اتهمت روسيا الجديدة بعد سنة 1989 السنوات السوفياتية. دار الزمان في تلك الدول وذهب رجال الاحتلال مع الاحتلال وأتى الأحرار مع الحرية من رحم التحرير.

ولدت أنظمة تخطت حقبة الحرب والاحتلال والعمالة من دون أن تلغي تاريخها وتبدل هويتها وتتنكر لمقاومتها. أما نحن فأكملنا الحياة كأن لا تحرير حصل، ولا احتلال زال، ولا مقاومة حسمت، ولا عملاء. غيروا مواقفهم ليبقوا في مواقعهم. كنا أوفياء للمحتلين فحافظنا على رجالهم ونسائهم وضباطهم وقضاتهم وتقاليدهم وأدائهم. رحنا نشكو من السنوات الثلاثين فيما "الثلاثونيون" في كل مكان. ولولا حفنة الحياء الباقية لاشتكى البعض أيضا من السنوات الثلاثين الآتية.

تحميل السنوات الثلاثين الماضية خطايا العالم دفعني إلى أن أستعيد مراحلها. تعالوا نطلع على هذه السنوات التي هدمت لبنان القديم ولا تزال تعيق بناء الجديد. تعالوا نقرأ نبذة عن حياتها وسجلها ونتعرف على آبائها وأجدادها وثكناتها. تعالوا نتأكد من عمرها الحقيقي: هل هو فعلا ثلاثون أم خمسون أم عشرون عاما؟ حان الوقت لنحسم قضية هذه السنوات التي يتذرع بها الجميع لتبرير تقصير وفشل.

1 - تاريخ ولادة هذه السنوات: هل بدأت سنة 1969 مع توقيع "اتفاق القاهرة"، أم سنة 1975 مع محاولة تغيير النظام وإنشاء وطن فلسطيني بديل؟ هل بدأت سنة 1989 مع "اتفاق الطائف" وانتخاب الرئيس الياس الهراوي، أم سنة 1990 مع إسقاط العماد ميشال عون واجتياح الجيش السوري؟ هل بدأت سنة 1992 إثر الانتخابات النيابية التي قاطعها جميع المسيحيين والمسلمون الاستقلاليون، أم لدى تأليف أول حكومة برئاسة رفيق الحريري في أواخر السنة ذاتها؟

2 - تاريخ وفاتها (إذا كانت قد توفيت): هل أسلمت هذه السنوات الجسد (إذ لا روح لها) في 14 آذار 2005 مع ثورة الأرز، أم في 26 نيسان من السنة ذاتها مع الانسحاب السوري؟ هل انتهت سنة 2008 مع "اتفاق الدوحة" وانتخاب العماد ميشال سليمان، أم سنة 2016 مع التسوية الرئاسية وانتخاب الرئيس ميشال عون؟ وهل السنوات الثلاث الأخيرة دفنت السنوات الثلاثين الماضية أم انضمت إليها؟

3 - نسبتها: هل تنسب السنوات الثلاثون إلى عهود رؤساء الجمهورية، أم إلى عهود رؤساء الحكومات والمجالس النيابية بعدما نقل دستور "الطائف" صلاحيات من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعا وخلط بين صلاحيات السلطتين التنفيذية والتشريعية؟ هل تنسب إلى السلطات السياسية عموما أم إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية التي كانت تضاهي الأجهزة المحتلة قمعا؟ هل كانت سنوات لبنانية أم سورية أم إسرائيلية؟

4 - سجلها العدلي: هل تتهم تلك السنوات الثلاثون بسبب خياراتها السياسية أم بسبب نهجها الاقتصادي أم بسبب سلوكها القمعي؟ الواضح أن القرار الظني يدين نهجها المالي والاقتصادي المنسوب إلى الرئيس رفيق الحريري ويتكتم عمدا على الخيارات السياسية والأمنية العائدة إلى الاحتلال السوري وأدواته، وقد عادت بقوة.

السنوات الثلاثون المعنية هي سنة واحدة. هي سنوات الاحتلال السوري امتيازا. هي سنوات الثلاثي عبدالحليم خدام، وغازي كنعان، ورستم غزالة و"أصدقائهم" اللبنانيين. مذ دخلت سوريا إلى لبنان بجيشها ومخابراتها، والسنوات سنواتها، والعهود عهودها، والحكومات حكوماتها، والمجالس النيابية مجالسها والطواقم السياسية طواقمها. كانت توزع الأدوار والمهام السياسية والاقتصادية والأمنية. كانت الشريك المضارب، والمسبب الأول للمديونية. أين جرأتكم لا تعلنونها؟ كانت سوريا تزرع في الأمن وتستثمر في السياسة وتستغل في الاقتصاد وتقبض "بالمال الحي". كان الثلاثي أعلاه ممر ومقر الفساد والهدر. هل نسينا وحدة المسار والمصير، وشعبا واحدا في دولتين، وعيد الجيشين، وأمن لبنان من أمن سوريا، ومعاهدة "الصداقة والأخوة"، ومرسوم التجنيس الجماعي؟ هل نسينا عنجر والبوريڤاج ومكتب خدام في دمشق؟ هل نسينا زيارات المسؤولين اللبنانيين إلى سوريا أسبوعيا وشهريا وحين تدعو الحاجة "الوطنية"؟

الغريب أن الذين يشكون اليوم من السنوات الثلاثين، يحكمون برجالات تلك السنوات إياهم وأضافوا إليهم رجالات دولة أخرى هي إيران. مثل سوريا حاولت إيران أن تضفي على دورها شرعية من خلال سيطرة حزب الله على المؤسسات الأساسية في الشرعية اللبنانية والنظام. ليس اللوم على سوريا وإيران. الدول تصنع مصالحها. اللوم علينا، نحن اللبنانيين إذ نقدم بلدنا أضحية إلى الأجنبي. لا يكشف هذا السلوك نواقص الحكم الحالي فقط، بل نواقص وحدة لبنان، ويحثنا على تعديل الدولة المركزية بموازاة إصلاح الإدارة الفاسدة. وإلا لا رجاء من أي إصلاح. فكيف يرفض البعض الفدرالية اللبنانية، فيما ينفذ فدرالية لبنانية - سورية - إيرانية؟