حكومة المنتصرين على الناس

أخذ السياسيون اللبنانيون حصصهم في الحكومة ولم يفكروا بحصة الناس.

إذا كان رئيس الجمهورية يستحق أن تقدم الحكومة الجديدة إليه هدية في ذكرى انتخابه الثانية، أما كان الشعب اللبناني المسكين يستحق أن تقدم إليه الحكومة قبل ستة أشهر، وهو الذي يحيي كل يوم ذكرى عذاباته الدائمة؟ ومذ متى انعكست القواعد فصارت الحكومات هدية للحاكمين عوض أن تكون واجب هؤلاء نحو الشعب؟

لكن أتحرز هذه الحكومة أن تهدى؟ فالحكومة اللبنانية العتيدة تشبه "جمال خاشقجي": دخلت "قنصليات" التأليف لتنجر معاملات تشكيلها وتعقد زواجها على الشعب اللبناني، ولم تخرج منها بعد. سيان أخرجت أم ظلت مفقودة فمصيرها معروف... فهي قبل إعلانها على الناس بددت تأثيرها وفوتت "الصدمة الإيجابية" التي كان يتوقعها الشعب منها، وفقدت ثقة الرأي العام سلفا، ولن تجديها ثقة المجلس النيابي لاحقا. ستة أسباب على الأقل تبرر سوء الظن بالحكومة المقبلة:

  1. لامبالاة "المؤلفين" بقضايا الناس وبالاستحقاقات الداهمة وطنيا واقتصاديا واجتماعيا، فهم يتصرفون كأن لا أزمات ضاغطة في البلاد.
  2. الذهنية التجارية الرخيصة التي رافقت شروط الأطراف وتوزيع حصصهم الجشعة، ما يجعلنا نشك بأهليتهم لأن يحكموا الناس ويحوزوا ثقة المجتمع الدولي.
  3. الحرص على توزير أشخاص ذوي "روابط تاريخية" وثيقة بالفساد والصفقات والعمولات.
  4. فرض النظام السوري، مجددا، عبر وكلائه المعتمدين، أسماء محددة لحقائب معينة تحضيرا عودته إلى لبنان من خلال المؤسسات الشرعية أيضا.
  5. تغيير الحكومات في ظل النظام ذاته والقوى المشاركة ذاتها والحكام ذاتهم لا يغير في الأوضاع ولا يحسنها؛ فمن يملأ الإناء من البحر سيبقى مذاقه مالحا ولو غير الماء من البحر مئة مرة.
  6. العقبات التي تنتظر عمل الحكومة بعد تأليفها، تفوق تلك التي واجهتها أثناء مشاورات التشكيل. فالمشاركون سينقلون صراعاتهم إلى طاولة مجلس الوزراء مطعمة بروح الثأر والانتقام المتبادل.

الحقيقة أن الجو الذي يخيم على تأليف هذه الحكومة خصوصا موبوء ويثير الاشمئزاز والتقزز. وفترة التأليف، بما رافقها من قلة مسؤولية، قضت على الأمل بالحكومة الآتية فكأنها انتهت قبل أن تبدأ. المواطن اللبناني يشعر أن العمل جار على كل شيء إلا على إنقاذ البلد. والمواطن يلاحظ أن هناك انقلابا على النظام اللبناني الديمقراطي لتحويله شبيها بالأنظمة العربية المحيطة. والمواطن اللبناني يعاين تأسيس سلطة حاكمة تتخطى الحزب الحاكم والأكثرية الحاكمة. والمواطن اللبناني يلمس أن هناك محاولة لاستمالة لبنان إلى المحور السوري/الإيراني المتقدم حاليا. والمواطن اللبناني يكتشف أن هناك تصميما مضمرا لتأليف حكومة تواكب إيجابا التسوية الروسية في سوريا لمصلحة النظام والمنظومة الموجودة حوله. والمواطن متيقن، بالتالي، أنهم يريدون حكومة لتغيير تقاليد البلد وتحالفاته وصداقاته.

وما شجع مجموعة السلطة على المضي في تنفيذ هذه المشاريع هو أن المعارضة الداخلية مشتتة و"المعارضة الخارجية" تكثرت بالحد الأدنى بلبنان. لذا، يفضل المعارضون - إذا أتيح لهم - المشاركة في الحكومة متفرقين لعجزهم عن البقاء خارجها متحدين. فالمحور الخليجي/الأميركي/الأوروبي نصح المعارضة اللبنانية الانخراط في السلطة لتخفيف الخسائر من جهة، ولأنه اختار - في المرحلة الحالية - عدم التورط في لبنان أمنيا وعسكريا عكس المحور الآخر.

وما لم يحدث في المنطقة تطور يعيد تقييم الحسابات الدولية - وهو أمر وارد - ستبقى سياسة أميركا وأوروبا في لبنان ضمن حدين، أحدهما إيجابي: دعم الجيش اللبناني وتقديم قروض ميسرة في إطار "مؤتمر سيدر"، والآخر سلبي: تشديد العقوبات على حزب الله ورعاية دمج النازحين السوريين بالمجتمع اللبناني. وبين الحدين يبقى لبنان على الصليب بين هلالين، ويبقى العهد معلقا بين لبنانين.

في هذا السياق، إن الحكومة الآتية موجهة إلى الخارج أكثر مما إلى الداخل والشعب، إذ ستحاول من خلال إعلان نياتها - أو بيانها الوزاري - أن تكون غطاء لاستدرار المساعدات المالية الواردة في توصيات "مؤتمر سيدر". غير أن هذه المساعدات، بعد صدور العقوبات الأميركية على حزب الله، ستكون مشروطة بخيارات الدولة السياسية تجاه القضايا الرئيسة في لبنان وسوريا والمنطقة وكيفية تنفيذ القرارات الدولية. فمؤتمر "سيدر" قبل العقوبات غيره بعدها.

حبذا لو تجري مؤسسة إحصاء دراسة حول عدد الشباب اللبنانيين الذين هاجروا منذ الانتخابات النيابية الأخيرة والبدء بتأليف الحكومة (أيار 2018). ففي المؤشرات أن عددهم فاق الفترة التي سبقت، فيما كان ينتظر بعد العهد الجديد والمجلس النيابي المستحدث والحكومة القيد الابتكار أن يعود الشباب إلى لبنان لا أن يهاجروا. إنها هجرة "الثقة المستعادة"!

أخذ السياسيون حصصهم في الحكومة ولم يفكروا بحصة الناس. تركوا لهم "الحقائب"، حقائب السفر. ورغم ذلك، نجد من يدعون انتصارات وهمية وعبثية من خلال تأليف الحكومة. أهو انتصار أن نترك البلاد ستة أشهر من دون حكومة من أجل هذه الحقيبة أو تلك؟ أهو انتصار أن نعاكس الدستور والأعراف ونسجل نقاطا على الناس؟ أهو انتصار أن نجمد الحياة الوطنية من أجل هذه الدولة الأجنبية أو تلك؟ أهو انتصار أن نقصي النخب ورموز السيادة والاستقلال؟ هذه ليست انتصارات ولا حتى هزائم، إنها وصمات خزي. لذا، يصعب على المواطن أن يحب دولة تحولت سلاح الأقوياء ضد الضعفاء، فيما الدولة أساسا ملاذ الضعفاء ضد الأقوياء. في مثل هذه الحالة لا نلومن الشعب إذا راح يبحث عن ملاذ آخر.