حكومة لبنانية تأسيسية

غير صحيح الادعاء بأن حزب الله يعرقل تأليف حكومة جديدة. فهو، قبل سواه، يتلهف إلى ولادتها. لكنه يريدها حكومة مطواعة يستعملها واقيا شرعيا وتنفيذيا لغدرات الزمان وشيخوخة العهد.
ثمة من يريد إعادة تأسيس لبنان أو لبنانات من خلال السيطرة على الشرعية
جميع القوى السياسية في لبنان تتصرف كأن الانتخابات النيابية والرئاسية غير حاصلة
حزب الله لبناني ويفترض فيه ألا يضحي بمصلحة لبنان، وطن شعبه وشهدائه، من اجل دولة غريبة

التأخر في التأليف أبعد الحكومة العتيدة من مهمتها الأساسية وهي إجراء الإصلاحات، وقربها من مهمة أخرى هي مواكبة الاستحقاق الرئاسي. وبالتالي، التأخر أضعف فرص تشكيلها من اختصاصيين مستقلين، وضاعف احتمال تسييسها. تسييس الحكومة يتم باختيار اختصاصيين محازبين أو تعيين سياسيين. في موازين القوى الحالي، التسييس يعني سيطرة حزب الله وحلفائه على الحكومة والتحكم، استطرادا، باستحقاقي الانتخابات النيابية إجراء أو إرجاء، ورئاسة الجمهورية انتخابا أو شغورا. لكن الخروج عن مبدأ حكومة الاختصاصيين يجعل الحكومة المقبلة بحكم "الـمـلغاة"، إذ يبقيها خارج رعاية المجتمعين العربي والدولي، ويستمر حظر المساعدات، ويكون التأليف فعلا دستوريا تقنيا لا فعلا إصلاحيا يؤثر على حياة الناس. المجتمع الدولي والمؤسسات النقدية والدول المانحة تريد حكومة للشعب اللبناني لا للطبقة السياسية.

اللافت أن جميع القوى السياسية في البلاد تتصرف كأن الانتخابات النيابية والرئاسية غير حاصلة، والمجلس النيابي الحالي باق بأكثريته "الثماني آذارية"، والحكومة العتيدة أو الحالية المستقيلة ستقوم مقام الشرعية بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. في حال تشكلت حكومة جديدة، تعيش البلاد حالة شغور رئاسي كتلك التي عرفتها إثر انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. وفي حال بقيت حكومة تصريف الأعمال، تسرح البلاد في حالة فراغ دستوري ـــ بل فراغ كامل ـــ كتلك التي شهدتها بعد انتهاء نظام المتصرفية ونشوء دولة لبنان الكبير. "واللبيب من الإشارة يفهم"...

فيما انتقلنا إلى المئوية الثانية من لبنان الكبير، هناك من يسعى إلى تأسيس مئوية أولى "للبنان ما". هناك من يريد إعادة تأسيس لبنان ــــ أو لبنانات ـــ من خلال السيطرة على الشرعية، أو من خلال السيطرة على الفراغ. حين يصبح لبنان دولة فاقدة الشرعية، لا تتعزز ذرائع عقد مؤتمر تأسيسي يعدل الدستور فقط، بل يتحول لبنان "مشاعا" جغرافيا/عقاريا تمرر على حسابه القضايا التالية: حل مسألة فلسطينيي الشتات، تسوية الحرب السورية بدمج نحو مليون نازح سوري في مجتمعه، تعديل واقع الصراع السني/الشيعي، حسم مشروع خيار الأقليات.

في هذا الإطار، لبنان معني مباشرة بتطورات الوضع الأردني، فمنذ سبعينات القرن الماضي، لبنان والأردن هما الدولتان الأكثر عرضة لتتم تسوية القضية الفلسطينية على حساب كيانيهما ونظاميهما، فكيف الحال اليوم، وقد أصبح الشرق الأوسط يعج بمجموعة قضايا يبحث لكل منها عن تسوية على حساب الآخرين. منذ "اتفاق القاهرة" في لبنان سنة 1969 و"أيلول الأسود" في الأردن سنة 1970، والرهان يدور حول من يدفع ثمن الدولة الفلسطينية البديلة: أشعب لبنان أم عرش الأردن؟ من جديد، التاريخ يطرق أبوابنا.

لذلك، يجدر بلبنان أن يتحصن فورا بحكومة جديدة بعيدة عن صراع القوى السياسية. والغريب هذا الفارق الكبير بين مطالب قيادات الطوائف ومطالب المواطنين اللبنانيين. القيادات ترمي بنفسها في لعبة الأمم وتبحث عن صلاحيات وحقوق وحصص، والمواطنون ينشدون الأمن والحرية والاستقرار والسلام والعمل والضمانات الاجتماعية والعدالة.

غير صحيح الادعاء بأن حزب الله يعرقل تأليف حكومة جديدة. فهو، قبل سواه، يتلهف إلى ولادتها. لكنه يريدها حكومة مطواعة يستعملها واقيا شرعيا وتنفيذيا لغدرات الزمان وشيخوخة العهد... لا يعطل حزب الله مباشرة تأليف الحكومة، ويترك انطباعا إيجابيا حين يتحدث عن الموضوع. لديه من ينوب عنه في التعطيل ويبقي له الدور الحسن. الشعب يريد حكومة إصلاحات، وهو يريدها حكومة مواجهة العقوبات المفروضة عليه. الشعب يريدها حكومة تعيد قوته وهو يريدها حكومة تحفظ قوته. ولأنه لم يفز بعد بها، يحول دون تأليف حكومة على غرار ما فعل سنة 2014 حين ساهم في تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية إلى أن فاز بها بانتخاب مرشحه، العماد ميشال عون.

تأليف الحكومة في هذا الظرف يوازي، بالنسبة لحزب الله، أهمية انتخابات الرئاسة، إذ يريد تجديد عهده، برئيس جديد، يضمن بقاء لبنان في المحور الإيراني/السوري. وجميع الشروط الداخلية، التي تعيق تشكيل الحكومة، ليست سوى "قائمة بأعمال" الموقف الإيراني، الـممثل بحزب الله، والقاضي باستخدام لبنان ورقة مواجهة ـــ لا تفاوض فقط ــــ في وجه الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، وربما روسيا لاحقا.

تعتبر إيران أن لبنان، بين دول الشرق الأوسط، هو البلد الذي تستطيع أن تتحرك فيه بسهولة وسماحة ومن دون رادع. في العراق: يضيق عليها الحكم الجديد، يواجهها السنة، تحاصرها أميركا، وتنافسها دول الخليج. في اليمن: تفتقد السلطة الشرعية، يقاتلها الشعب، وتشن السعودية حملة عسكرية على الحوثيين جماعتها. في سوريا: يتضايق منها النظام، تدعوها روسيا إلى سحب قواتها وعناصر حزب الله، تزاحمها تركيا، تردع أميركا انتشارها في الشمال، وتقصف إسرائيل مقاتليها وآلتها العسكرية. أما في لبنان، فتشعر أنها في "الـمنطقة الحرة": الشرعية ملك يديها، الجيش اللبناني محيد، المعارضة تائهة، الثورة مبعثرة، الشعب شغوف بشعار محاربة الفساد، أشقاء لبنان وأصدقاؤه سلاحهم التصاريح وأفعالهم العواطف، وإسرائيل تستطلع جوا بـمســيـــراتها وعلى الجنوب السلام.

نجحت إيران في الرهان على حزب الله، وهو نجح في مهمته. وها إيران وحزب الله يحولان لبنان ورقة مفاوضة على العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة عليهما، وساحة مواجهة في مفاوضات الـملفات العالقة بين إيران وأميركا. ليست المرة الأولى التي يتحول لبنان ورقة وساحة، واللبنانيون رهائن وضحايا. سبق للفلسطينيين والسوريين والإسرائيليين أن استخدموه كذلك في الربع الأخير من القرن الماضي. هؤلاء ليسوا لبنانيين، لكن حزب الله لبناني، ويفترض فيه ألا يضحي بمصلحة لبنان، وطن شعبه وشهدائه، من أجل مصالح دولة غريبة. حسبي أن افتراضنا شرعي تجاه مواقف غير شرعية تغطيها سلطة تتجه إلى فقدان شرعيتها.

حين تسكن جميع هذه الرهانات الواقع اللبناني، نفهم صعوبة تأليف حكومة لجميع دول الـمنطقة ولجميع الاستحقاقات، ويصبح التفاهم المباشر بين القوى السياسية متعذرا إلى درجة التساؤل: أي لبنان يصلح للبقاء؟ وأي لبنان يفضل اللبنانيون؟ إذا كانت الحروب أسقطت الطبقة اللبنانية الوسطى، فالسياسة أسقطت الطبقة السياسية الفاشلة، وصار الحوار، أو الصراع، بين الشعب والشعب مباشرة.