حلف الأطلسي والازمة الاوكرانية
شكلًّ قيام حلف شمال الأطلسي جدلا دوليا واسعا، وتسبب في العديد من الازمات حتى بين دوله الاثنين والثلاثين، وعلى الرغم من وجود مبررات قوية لقيامه بحسب المنضمين اليه، واستمراره حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي شكل السبب الرئيس لاطلاقه وهندسته لمواجهة الكتلة الاشتراكية وحلفائها آنذاك.
وكما الامس وفي كل محطة من محطات الازمات الدولية وبخاصة الاوروبية، شكلت عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الثانية، مناسبة لرفع مستوى التحديات التي تواجه الحلف، وبالتحديد الموقف الأميركي، الذي يطلقه الرئيس ترامب على قاعدة الاكلاف المادية العالية التي تدفعها الولايات المتحدة مقارنة بباقي المنضمين. ومما زاد من منسوب التحديات مؤخرا، الازمة الأوكرانية، وما جرى في لقاء الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلنسكي مع نظيره الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض، من مشادات غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الدولية، على قاعدة محاولة اجبار كييف على عقد اتفاقيات لمصلحة واشنطن قيمتها مئات المليارات من الدولارات، كمقايضة او بدل ما انفقته واشنطن في دعمها للحرب بمواجهة موسكو خلال السنوات الثلاثة من عمر الحرب الجارية حاليا.
وعلى قاعدة توتر العلاقات الأميركية الأوكرانية مؤخرا، اندفعت غالبية دول الاتحاد الأوروبي، وبخاصة المنضمة لحلف الناتو الى اتخاذ مواقف تصعيدية للحد من محاولات واشنطن لحشر أوكرانيا في حربها مع موسكو، لجهة تمويل التسلح والذي تعتبره الولايات المتحدة امرا غير مجد، بل تدفع أوكرانيا باتجاه القبول بانهاء الحرب، وهو امر يعتبره الكثيرون مواقف مؤيدة لموسكو ومجحفا بحق أوكرانيا.
لقد اعتبرت العديد من الدول الأوروبية التصعيد الأميركي في وجه أوكرانيا مناسبة قوية لموسكو لاستغلال علاقاتها الاوروبية في حربها مع أوكرانيا، وهو امر من شأنه ضعضعة الامن الأوروبي وتقديم واشنطن خدمة مجانية لموسكو في هذا الاطار، ما دفع الى تكوين بيئة مواجهة تمثل بطرح تأمين 800 مليار دولار لاوكرانيا في حربها مع موسكو، وهو ما تعتبره واشنطن امرا موجها ضدها على قاعدة اجبار كييف على الموافقة لانهاء الحرب مع موسكو ولو كان على حسابها مباشرة.
وفي الواقع ان هذا السلوك الأوروبي ليس بجديد في معرض العلاقة مع الولايات المتحدة، فثمة العديد من المحطات التي بدت في مستوى مواجهات غير عادية، ومن ابرزها مثلا طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في العام 2018 انشاء جيش أوروبي لمواجهة التحديات الأوروبية التي اعتبرها آنذاك مقلقة وتستوجب تحركا فاعلا، وهو امر كان ولا يزال له خلفيات اكثر من ذلك، وهو محاولة للاعتماد على توفير المظلات الأمنية والعسكرية بقوى أوروبية خالصة بعيدة عن الدعم الأميركي وبالتحديد بيئة حلف الأطلسي. ويشار هنا الى ان تلك الرؤية الفرنسية ليست بجديدة، بل كانت باريس سباقة في هذه التوجهات اكثر من غيرها من الدول الاوروبية، حيث انسحبت من نطاق المظلة النووية للحلف كاعتراض على سياسات واشنطن، الا انها عادت وانضمت مجددا في العام 2017، وهي مواقف اعتادت باريس على ولوجها، رغم عدم فعاليتها، اذ ان باريس وغيرها من العواصم الأوروبية عادة ما ترفع الصوت بوجه واشنطن، الا انها سرعان ما تتراجع وتعود للبيئة الأطلسية الحاضنة بزعامة واشنطن.
اليوم وربما الازمة الأوكرانية شكلت تحديا مختلفا عن السلوكيات الأميركية الأوروبية السابقة، حيث تشعر معظم الدول الاوروبية وبخاصة في الولاية الثانية للرئيس ترامب انها تهديدا عمليا، ذلك بفعل الطروحات والسياسات الجدية المعلنة، ليس بمواجهة اوروبا فقط، وانما تجاه العديد من الفواعل الدولية، كطرح ضم كندا وقضية قناة بنما وجزيرة غرينلاند واسلوب مواجهة الصين، علاوة على سياسات الرئيس ترامب تجاه قضايا الشرق الأوسط وآخرها تحديدا اقتراح ترانسفير للشعب الفلسطيني من قطاع غزة.
يواجه حلف الناتو حاليا اصعب ظروف المواجهات في وقت لا بديل جديا له. فالجيش الأوروبي الدي طرحه الرئيس الفرنسي ماكرون، واجهه ترامب بمواقف صلبة لا نقاش فيها، معتبرا ان هذا الجيش المقترح لا فائدة منه ولا يشكل بديلا عمليا عن الحلف، واقترح كبديل لذلك زيادة انفاق الدول الاوروبية في ميزانيتها السنوية بنسبة اثنان بالمئة لدعم الحلف، وبالتالي رفض واضح لمحاولة الانسلاخ الأمني عنه.
اليوم تحتفل واشنطن بالعيد الماسي لنشأة الحلف في العام 1949 الذي كرس هيبتها العالمية في مواجهة الاتحاد السوفياتي حتى انهياره، كما تابعت عبره على تأكيد المؤكد للسيطرة ومن غير المنتظر تخليها عن ذلك بخاصة ان ولاية الرئيس ترامب الثانية وضعت اسسا ومبادى تعيد جمع القوة الأميركية في النظام العالمي، بعد ما برز من مظاهر فُسرت على افول هذه السيطرة.
ان السيناريوهات المتصلة بمستقبل حلف الأطلسي مرهون أولا وأخيرا بمدى جدية وقوة الخيارات المتاحة امام الدول الأوروبية لمحاولة تعديل موازين القوى القائمة، وفي الواقع، حتى الآن ليس ثمة فرصا جدية لمضي بعض الدول الأوروبية بخيارات الانفصال، وجل ما تستطيع فعله عمليا الاعتراض ولو بصوت عال لبعض الوقت، قبل إعادة التموضع بظروف غير مختلفة عن الواقع السائد، وبالتالي ما هو سائد اليوم في ظل تداعيات الازمة الأوكرانية امر لن يغير عمليا وفعليا في المعطيات القائمة حاليا.