"حلم المقهور" في ساحة القضاء الأدبي

طارق رفاعي عبدالله يحاكم في مجموعته القصصية مشكلات الواقع الصعبة بظلالها الاجتماعية وانعكاساتها الذاتية أدبيا.
لحظات المجموعة القصصية هي لحظات صراع، لذلك هي لحظات متوترة وساخنة، التقطها بعين الكاتب التي ترى كل شيء
للأدب وظيفته في الحياة الاجتماعية من حيث الكشف والشهادة عن كل القضايا المتفاعلة في الوجود الحياتي

حاكم القاص طارق رفاعي عبدالله، في مجموعته القصصية المعنونة "حلم المقهور" مشكلات الواقع الصعبة بظلالها الاجتماعية وانعكاساتها الذاتية أدبيا، وباستخدام أدلته الفنية، ومن خلال استخدام تلك الفنية التي تتراوح بين عدة أطياف ممزوجة بالخيال والسخرية، بداية من قضايا الشكل في المجموعة ونهاية بالجوانب الموضوعية.  
أولى قضايا الشكل تتعلق بتقديم القاص لمجموعته القصصية، وشرحه لهدفه الأدبي من وراء كتابتها بالتعبير عن أوجاع الإنسان والسير نحو سبيل الطهر والبراءة، لكن الخطاب القصصي كان كفيلًا ببيان قصدية القاص. 
قضية شكلية أخرى تتصل بحجم القصة القصيرة حيث تحتوي المجموعة على تسع عشرة قصة تتراوح بين الصفحة الواحدة مثل قصة "فقدت حبيبتى"، وتعمد للتركيز والإيجاز، أو القصة التي تستغرق حوالي أكثر من عشر صفحات مثل قصة "حلم المقهور" فى ثلاث عشرة صفحة، وتلتها قصة "لعنة الكوخ" وقصة "حتحوت والقرية"، ونلاحظ أن القصص الثلاث دائرة في ذات النسق بالحديث عن البعد الروحاني والقضايا الوطنية والسياسية وتشكل التعبير الملازم لأداء القاص في محاكمته الأدبية للواقع المتعثر، أما باقي قصص المجموعة فتدور بين ست صفحات وثلاث صفحات في الأغلب.  
أما لحظات المجموعة القصصية والتي قبض عليها القاص، هي لحظات صراع، لذلك هي لحظات متوترة وساخنة، التقطها بعين الكاتب التي ترى كل شيء بحالة اندهاش وتساؤل دائم، والأفكار قد تكون متاحة، لكن الفن هم تجميع حقائق الحياة المبعثرة وتقديمها للقارئ في ثوبها الفني لإدهاشه باكتشاف تلك العلاقات الجديدة في الواقع، لذلك كانت الفكرة لديه هي الأهم ونبرة الموضوع هي الأعلي، ورغم خيال التناول في القصص الرئيسة بالمجموعة إلا أنها واقعية في التناول من حيث تشريح مشكلات الواقع وكشف أزماته.

القاص راوح بين النواحي الشكلية والموضوعية للتعبير عن أفكاره، ويبدو أنهما سببا ونتيجة في الوقت ذاته، ليمارس القاص محاكمة الواقع بكافة أزماته المنوعة أدبيا على ساحة مجموعته "حلم المقهور

ونلاحظ في أولى النواحي الموضوعية اعتماد الكاتب التعبير القيمي حيث إن للأدب وظيفته في الحياة الاجتماعية من حيث الكشف والشهادة عن كل القضايا المتفاعلة في الوجود الحياتي، وظيفتة الإدانة والتبشير بما هو أفضل، وتظهر إشكالية في هذا الشأن بحيث يجب الموازنة بين الموضوع والأسلوب الفني التي يتم به التعبير عن الموضوع، والوسائط الفنية لدي كاتب القصة هى أدوات للتعبير عن وجهة نظر أو رؤية مرتجاة من كتابة القصة القصيرة، فالنص لديه لا شك أنه صورة للمجتمع الذي يحيا فيه، فالمتعة الجمالية ليست هدفا أصيلا فى حد ذاته إلا بما يحقق هدفه الأصيل من طرح الموضوعات الاجتماعية والسياسية. 
ومن أهم قيم التناول القيمي في المجموعة قيمة النور، والتى تنتشر عبر نسيج القصص جميعا، ففى قصة "حب علي طرف الذكري" يقول: "تفتح شتى النوافذ لتطل منها الأنوار"، وقصة "حتحوت والقرية" يقول: "لما بدأ النور يزيح الظلام للخلف"، وهذه العبارة تعطي إشارة لنهاية القصة من طرف خفي، فنجد دائما التمسك بشعاع النور كقيمة لا تكاد تخلو قصه من قصصه، باعتباره شعاعا ممتدا كحبل النجاة.
أيضًا تلك الدلالات السياسية التي نجد تشبع القصص بها، ففي قصة "حتحوت والقرية" نجد الإشارة نحو الفساد والتعنت الاداري باعتباره صنو الاستبداد، وفي حديث حتحوت يتضح أن بعض الساعين للمناصب هم صيادو منافع خاصة، ومثال آخر في عنوان قصة "ويقولون إني سفاح" حيث إن العنوان يمثل دلالته السياسية على الجانب الإعلامى، حيث ُيتهم المدافع عن وطنه والمقاوم للاحتلال بالإرهابى، وهي ناحية من التلاعب بالإلفاظ وقضية "الأسماء والمسميات"، والقاص هنا يحذرنا بقصته من الانسياق وراء تلك المسميات الملتبسة والغامضة لتمويه الحقائق، وبالطبع تتحدث قصة "حلم المقهور" عن السياسة الدولية وطغيان أميركا فى مواجهة شعوبنا العربية.
وثالث النواحي الموضوعية تناول الطبقات المعزولة في القصص بحيث نجد أن القاص أعطي ظلال الألم والأمل، ووقف مدافعا عن أحلام المقهورين في حياة عادلة وحرة وآمنة، لذلك لم يكن الصوت هامسا بل مجاهرا عاصفا، فمثلا نجد أن قصة "أحياء علي درب الأموات" تتماس مع مهنة المحاماة بشكل قريب جدا، والحقيقة أن أبطال قصته ليسوا أحياء علي طريق الأموات بل هم أمواتا بالفعل تم قبرهم في مقبرة المشكلات الطاحنة. 
ورابع النواحي الموضوعية دراسة فكرة البحث عن طوق للنجاة، وتوظيف تلك الفكرة في التعبير عن قضاياه الفكرية في المجموعة، فعلي الرغم من أن إيجاد الحلول ليست مهمة الأديب والذي لا يمارس دور الباحث الاجتماعي أو المحقق التاريخى، إلا أنه يفعل ذلك من طريق آخر من خلال التأثير على القارئ ونقله لإطار جديد من التفاعل والتفكير، بمناهضة السلبية وأنماط القهر المنوعة، بحيث  تبدو لازمة الخلاص واضحة في القصص وتعكس قدر ما عليه الواقع الشرس من مواضعات فاسدة. 
بداية نجد سلبية جمهور القرية في قصة "طفلة النور" والذي اكتفي بالبكاء والعويل فكان للسماء أن تتدخل، كما لم يكن الواقع فاسدا ومهدما بأكمله، فهناك نماذج تمثل نقاط ضوء مثل السائق الذي رفض دهس عم نور وهو إستثناء، كما أن الجد يحقق قيمة التوريث بنقل التجربة لتكون نموذجا حياتيا للحفيد وبمعني أدق للإجيال تتناقله عبر تاريخها بالحكي. 
والموضوعية في تناوله لقضية الخلاص فهو الإعترف بقسوة الواقع لكنه لا يقصر في  التماس النجاة على مستوى ما سواء بالمقاومة المشروعة كما في قصة "ويقولون أني سفاح"، وقصة "لعنة الكوخ" وقصة "دموع على النهر"، أو بوخز القارئ ليتنقل نحو دائرة أخرى من الإيجابية، والقصص تدعو لإتخاذ بدائل أخرى من المواقف، وقد يكون الفعل اليائس بالانتحار في قصة "ثورة الصمت"، والخلاص هنا ليس مقدما كحل واقعي أكثر منه حيلة فنية تبين مدى بشاعة هذا الواقع وسوداويته، واتضح الخلاص أيضا في قصة "بلطجي المولد" من خلال موقف الأب العجوز الذي دافع عن شرفه. 
ومن سبل الخلاص أيضا العلم كما نجد فى قصة "حلم المقهور" وتوظيف جميع الإمكانيات المتاحة كما في قصة "حتحوت والقرية": "كأنهم يزرعون زروعا مختلفة عما نزرع في أنحاء المملكة"، وكأنه يشير إلى معادلة العلم ضد الظلم، وهو هنا يرصد الحرية والتقدم العلمي والتي تقضي على الشر الأرعن، وانتقاد السلبية كما اتضح في موقف الجمهور في قصة "طفلة النور"، والعساكر في قصة "حتحوت والقرية": "كأننا خدمة حمير في هذه القرية، ولكننا سعداء بهذا الأهم أن نأكل ونشرب ونقبض رواتبنا".

short story
الاستعانة بالموروث 

أيضا وسيلة اعتزال المجتمع لتأسيس جيل جديد كما نجد في حتحتوت والقرية الخضراء، وهي تحيا في عزلة وكأن علاج هذا الواقع المر والخلاص من مشكلاته لا يكون إلا باعتزاله: "ابتعدوا عن كل ما يجعل للملكة عليهم أي تدخل".
ثم يبدو ملمح الخلاص الأكيد من خلال الاستعانة بالله وتدخل السماء في أكثر من قصة، واعتماد خيار المقاومة بلا حدود "سنظل نقاوم بأرواحنا"، فالموروث الروحاني وإستيفاء خيار المقاومة كسبيل للخلاص، ففى قصة "لعنة الكوخ" يتم الاستعانة بالموروث، مثل يا أمي اثبتي، استخدام اسم من التراث "الزهراء" يعطي هذا البعد الروحاني، قيمة النور.
الخلاص أيضًا بالتشبث بخيار المقاومة، وفضح العدو في صور الامتهان، والوحشية في قتل الزهراء، وحيلة اليهود لتنفيذ إحدى مجازرهم الوحشية. فالقصص تدخل باب أدب المقاومة وإحياء القضايا المهمة، فلعنة الكوخ هنا تطادر العدو وتبارك المقاومة لتعطي الأمل، قتل الزهراء فيه دلالة على قتل السلام بقتل البراءة، الخلاص من الداخل هنا بممارسة الفعل، الاستمداد الروحاني بالذكر والعبادة وقراءة القرآن، فيأتي المدد الآلهى. وأخيرًا: الخلاص في بعث الأمل فحتى الأرواح تدافع عن الأرض.
وخامس النواحي الموضوعية رسم الشخصيات فيها مفاصلة صارمة بين الخير والشر لعلها للتعبير عن قسوة الصراع ففى قصة "لعنة الكوخ" المفاصلة بين المحتل والمقاوم، وفي بلطجي المولد يجسد البلطجي ملامح الشرور، أما الفتاة ببراءتها والأب بمقاومته فيمثلان جانب الخير، وحتحوت يمثل نموذجا قصصيا آخر للشر الخالص. 
وتلك الرؤية لشخصياته القصصية يعكس قوة الصدام وحتميته ويعبر عن كون القصة القصيرة لا تتوغل بالتحليل داخل الشخصية ووصف كافة ملامحها الظاهرية والداخلية النفسية سوي بالقدر الذي يركز به علي الحدث ولحظة تنويره الخاصة. 
كما يؤمن القاص بالقصة القصيرة كوسيلة للمتعة الفنية واللذة النفسية لذا يعمد كثيرا للتوابل الفنية، فى عنصر الغموض في بدايات القصص بحيث لا تنكشف الحقائق إلا في خاتمة القصة، ومن العناصر المشوقة أيضا استخدام عالم السحر والأرواح، لكن الثوب القصصى رغم استخدام الخيال في القصص الرئيسة بالمجموعة واقعيا ومعبأ بالدلالات الاجتماعية والسياسية على نحو خاص يقوم بتشريح هذا الواقع فنيا، فتشكيل المكان في بيئة القصص من خلال التعبيرات: "أختبأ خلف الظلام"، "نسيجا في عباءة الليل"، بما يشكل استهلالا في وصف بيئة الأحداث فالمكان وتشكيله يشكل أهمية خاصة في القصة القصيرة بحيث يخدم أهدافها: "سحر النيل / هواء الليل الطري / أنقي الاحاسيس". 
وتشتمل بعض القصص أيضا فكرة أساتذة أبليس وتوظيفها سياسيا، وتلك فكرة طريفة أصلا نجدها في قصص "حلم المقهور" و"حتحوت والقرية" و"العفريت سفير الامريكان"، السخرية من بلد الحرية، الاستعانة بالموروث مثل قصة علاء الدين والمصباح السحري مع إسقاط سياسي. 
بقي أن نشير إلي أن القاص راوح بين النواحي الشكلية والموضوعية للتعبير عن أفكاره، ويبدو أنهما سببا ونتيجة في الوقت ذاته، ليمارس القاص محاكمة الواقع بكافة أزماته المنوعة أدبيا على ساحة مجموعته "حلم المقهور".