حماس في غزة... يوم واحد يختزل أزمة بأكملها

المواجهة القاسية بين شرطة حماس العقائدية والمواطنين العزل إنما يتصل بخوف حماس وخشيتها من انفلات المشهد وفقدانها السيطرة على مليوني فلسطيني فلا مبرر لكل هذه الوحشية سوى الخوف وانعدام اليقين وإفلاس الخيارات.

بقلم: عريب الرنتاوي

على مبعدة أسبوعين اثنين من الذكرى السنوية الأولى لما بات يُعرف بـ"مسيرات العودة الكبرى"، كانت حركة "حماس"، تواجه يوما عصيبا في حياتها، يكاد يختصر أزماتها المتراكبة بأكملها، من دون أن تلوح في الأفق، بوادر إدراك لعمق المأزق أو إرهاصات لمراجعة محتملة لتجربة الفشل.

الخميس، الرابع عشر من آذار/مارس، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة، "فيديوهات" توثق عمليات القمع الوحشية التي نفذتها شرطة حماس وأجهزتها الأمنية لتظاهرات احتجاجية ومطلبية سلمية، نفذها مئات الفلسطينيين الجوعى والعاطلين عن العمل... القسوة والوحشية اللتان ميزتا تعامل "رجال إنفاذ القانون" مع المواطنين والمواطنات، عكست نوع "التربية والتعبئة" التي يخضع لها هؤلاء، وتشف عن مكنونات ثقافة احتقار الآخر، الأمر الذي خلّف حالة من الذهول وشعورا بعدم التصديق بأن هؤلاء الذين يدعون حماية شعبهم ويرفعون شعارات "المقاومة من أجل تحرره واستقلاله"، هم أنفسهم الذين ينهالون عليه بالضرب والتبريح.

ومن المؤسف أن "الفيديوهات" التي سجّلها مواطنون وقاموا بتسريبها على مواقع التواصل الاجتماعي، تضمنت صحيات وصرخات من نوع "الإسرائيليون لم يفعلوا ذلك"، أو "لكأنهم إسرائيليين"، في حين كانت صيحات رجال الأمن والمليشيا، تشي بأنهم مقبلون على "عملية جهادية مباركة" تستهدف اجتثاث "خونة ومرتزقة ومندسين وطابور خامس"، لا وظيفة لهم سوى تقويض أركان "الحكومة الربانية" على حد وصف أحدهم لسلطة الأمر الواقع في القطاع، أو سلطة "الأيادي المتوضئة" التي تمسك بجمر السلاح المقاوم، وفقا لوصف آخر لرجالات حماس.

مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في غزة، التي طالما كانت محاضن اجتماعية للحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف تياراتها وألوانها، تحولت إلى ساحات مواجهة واستعراض عضلات واستخدام مفرط للقوة الغاشمة. مخيم جباليا الأشهر، صار "خشبة لمسرح اللامعقول" يشي بحكاية المأزق الذي بلغته حماس في حكمها لغزة وأهلها، ومأزق الغزيين مع سلطة حماس.

جانب آخر تشفّ عنه المواجهة القاسية بين شرطة حماس "العقائدية" والمواطنين العزل، إنما يتصل بخوف حماس وخشيتها من انفلات المشهد وفقدانها السيطرة على مليوني فلسطيني. فلا مبرر لكل هذه الوحشية سوى الخوف وانعدام اليقين وإفلاس الخيارات والبدائل الأخرى. يبدو أن شبح ثورات الربيع العربي في موجتها الثانية (الجزائر والسودان) كان حاضرا في أذهان من أصدروا الأوامر والتعليمات بالتعامل بقسوة وخشونة مع المحتجين الذين لا يجادل أحد غير حماس، في شرعية ومشروعية مطالباتهم بالحد الأدنى من العيش اللائق والكريم الذي عجزت الحركة بعد اثني عشر عاما من حكمها المتفرّد للقطاع، في تأمينه لأهله.

في اليوم ذاته (14 آذار/مارس)، انطلق صاروخان "يتيمان"، لا أب لهم ولا أم، من القطاع صوب تل أبيب، وقد نجحا في اختراق "القبة الحديدية" الإسرائيلية. لترد عليهما حكومة نتانياهو بتنفيذ مئة غارة جوية ضد أهداف لحماس وفصائل فلسطينية أخرى. الحدث كان يمكن أن يمر كسابقاته من أحداث مماثلة. لكن تنصل حماس السريع والجازم من أية مسؤولية عن إطلاق الصاروخين، وتأكيداتها للوسيط الأمني المصري، بأنها على التزامها بالتهدئة، ووصف ناطقين باسمها الحادث بالمريب والصواريخ الفلسطينية بـ"المشبوهة"، بخلاف كل تلك "الرطانة" حول شرعية المقاومة وقدسية سلاحها، يعكس مأزقا آخر، لا يقل عمقا وخطورة لتجربة حماس في الحكم والمقاومة على حد سواء.

فالحركة التي نشأت كحركة مقاومة، أرادت أن تختبر نفسها في السلطة، فخاضت انتخابات 2006 التشريعية وكسبتها، وبدأت منذ ذلك الحين، الترويج لخطاب الجمع بين "السلطة" و"المقاومة".. لكن اشتداد الضغوط على سلطة حماس، وما صاحبها من حصار وعقوبات، كان يدفع حماس يوما إثر آخر، لتغليب احتياجات السلطة وضروراتها على أولويات المقاومة ومقتضياتها.

مأزق حماس يكمن في كون "شرعيتها الشعبية" جاءت مستمدة مما أسمته "خيار المقاومة"، مقابل "خيار الاستسلام" الذي ألصقته بمنافستها حركة فتح، ولهذا يصعب على حماس أن تتخلى عن صورتها "المقاومة"، ما لم تقامر بـ"شرعيتها الشعبية". ثم أن السلاح الذي أريد له وبه، أن يكون سلاحا مقاوما، قد اكتسب وظيفة جديدة بعد وصول حماس إلى السلطة في القطاع: حماية هذه السلطة ورموزها ومؤسساتها ومصالحها، فالتخلي عنه، حتى وإن كان لصالح سلاح شرعي فلسطيني، ليس خيارا أبدا بالنسبة لحماس، ولا هو مطروح على جدول أعمالها في المدى المنظور.

لكن حماس في المقابل، استمرأت وجودها في السلطة، واعتادت عليه، على الرغم من المصاعب الجمّة التي تواجهها، وليس متوقعا أبدا أن تتخلى طواعية عن موقعها هذا، فضلا عن منظمة المصالح الفردية والفئوية التي نشأت على جذع سلطة الأمر الواقع طيلة أزيد من عقد من الزمان، والتي نجحت في "إعادة هندسة" البنى الاجتماعية في القطاع المحاصر.

لم تترك حماس وسيلة إلا واستخدمتها، أو طريقا إلا وسلكته من أجل تمديد بقائها في السلطة، حتى أنها ارتضت طي صفحة عدائها الشديد لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي نظير قيامه بدور الوسيط مع إسرائيل لتثبيت التهدئة وتخفيف قبضة العقوبات. وعرضت الحركة تجميد "جهادها المسلح" سنوات طويلة نظير حصولها على تهدئة من هذا النوع، وقبلت على نحو "مخز" تلقي الأموال القطرية في "حقائب الكاش"، وعبر "الناقل" الإسرائيلي، في صورة عكست انقلاب أولويات الحركة رأسا على عقب.

وابتدعت الحركة فكرة "مسيرات العودة الكبرى"، وحمّلتها في الشكل شعار "عودة اللاجئين"، بيد أن الأجندة الوحيدة لتلك المسيرات التي راح ضحيتها ما يقرب من ثلاثمئة طفل ورجل وامرأة، كانت تختصر في "التهدئة" وتخفيف قبضة الحصار والاعتراف بحماس كسلطة أمر واقع، واستغلت الحركة أيما استغلال، حاجات مصر الأمنية في سيناء وعلى الحدود مع القطاع، واستثمرت في رغبة إسرائيل تفادي الحرب الشاملة، ومصلحتها الاستراتيجية في إدامة الانقسام الفلسطيني وتحويله إلى انفصال دائم، كما كشف عن ذلك بنيامين نتانياهو شخصيا في أحد لقاءات الانتخابية مؤخرا.

لكن هذه "الوضعية المزدوجة"، بين السلطة والمقاومة، تُبقي حماس في مأزق محتدم مع ذاتها أولا، بدلالة الانقسامات الداخلية في صفوفها، ونسبة الصواريخ إلى عناصر غير منضبطة ومشبوهة. ومع شعبها في القطاع ثانيا، الذي لم يعد يعرف ما الذي تريده الحركة تحديدا، وهل هي حركة مقاومة تعني ما تقول وتؤمن بما ترفعه من شعارات، أم أنها سلطة فاسدة وقمعية بامتياز، ولا هم لرجالاتها سوى الجلوس أطول فترة ممكنة على رأس هرم السلطة وامتيازاتها.

لقد مرت حماس بتجربة ازدواجية السلطة عندما كانت فتح على رأس الحكم في الضفة والقطاع، تلك الازدواجية لم تدم طويلا، إذ نجحت حماس في حسمها لصالحها بعد أن طردت فتح من السلطة وحلّت محلها في العام 2007، لكن معضلة حماس مع "وضعها المزدوج" اليوم، يبدو من النوع المستعصي على الحل، لا سيما حين تتداخل أزمتها الداخلية مع سلسلة إضافية من الأزمات في علاقاتها مع جوارها، وأحسب أن ما يُبقى حماس على رأس السلطة في القطاع، إلى جانب القوة الغليظة والمفرطة، هي أزمة القطب الثاني في العمل الوطني الفلسطيني: فتح... وعجز الأطراف الأخرى عن تشكيل قطب ثالث وازن، يعجّل رحيلها أو ترحيلها.