'حياة لاذعة' تواجه روائيا انحدار قيم المجتمع الإيطالي الثقافية والأخلاقية
كان الروائي الإيطالي لوتشانو بيانشاردي (14 ديسمبر 1922 - 14 نوفمبر 1971) كاتبًا وصحفيًا ومترجما وأمين مكتبة وناشطا وناقدا تلفزيونيا. ساهم بشكل كبير في المشهد الثقافي الإيطالي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتعاون بنشاط مع مختلف دور النشر والمجلات والصحف. يتميز عمله السردي بنقاط التمرد تجاه المؤسسة الثقافية التي كان ينتمي إليها، وبتحليل دقيق للعادات والظواهر الاجتماعية في إيطاليا خلال فترة الازدهار الاقتصادي، لدرجة أن الخيال السردي غالبًا ما يختلط مع أفكاره في المقالات التي كان يكتبها حول تلك الظواهر المجتمعية.
وتشكل روايته "حياة لاذعة" التي ترجمها مينا شحاته وصدرت عن دار حكايات كُتَّاب، بمثابة لحظة النجاح الحقيقي له، وأيض هي أقرب لأن تكون سيرة ذاتية له، كتبت بلغة مثالية، واضحة، ودقيقة، ومثقفة وشعبية في نفس الوقت.
بطل الرواية رجل ريفي للغاية، كان يسافر قليلاً جدًا، منغلقًا، محرجًا، يرتدي سترة مزدوجة الصدر، يعيش مع زوجته وابنه الصغير حياة بسيطة، يقرر مغادرة قريته للذهاب والعيش في مدينة ميلانو بحثا عن عمل من أجل إعالة زوجته وابنها. لكن هدفه الأول هو تفجير ناطحة سحاب لشركة تعدين كبرى، انتقاما لعمال المناجم الذين لقوا حتفهم في حادث ناجم عن ضعف السلامة في العمل (الإشارة إلى الحادث الذي وقع في منجم ريبولا في مقاطعة غروسيتو والذي تبعه بيانشاردي كصحفي في عام 1954، والذي فقد فيه ثلاثة وأربعون من عمال المناجم حياتهم). حيث يعتقد أن انعدام الأخلاق في شركة التعدين هو المسؤول عن وفاة العمال.
كانت مدينة ميلانو في الستينيات وقت صدور الرواية تعيش حالة من الانفتاح الاقتصادي الذي انعكس سلبا على قيم المجتمع الثقافية والأخلاقية، حيث اللامبالاة، وحركة المرور الوحشية، والنزعة الاستهلاكية الغاضبة. صورة لا علاقة لها بالصورة المبهجة التي تقترحها إعلانات تلك السنوات، أو شاشات التلفزيون، أو المجلات، أو الأغاني التي تدعو للشراء، وإنفاق المال. ميلانو هي مدينة الأوهام الجماعية السهلة، مدينة القوة المشوهة للصناعة التي تخلق إنسانية مغتربة ومستعبدة: المستهلكون. إنها المدينة الحديثة التي تصطدم بواقع إيطاليا التي لا تزال فلاحية على وشك الانقراض، وتتكون من مدن مثل ماريما التي تأتي منها شخصية بطل الرواية، مدن تحتفي بالعلاقات الإنسانية. غير أن هذه المدينة الحديثة ميلانو تحول الرجال إلى بشر آليين، ثم إلى أشباح، وقذائف فارغة "نهر من الناس: الرجال كئيبون ومنحنيون، والنساء واقفات جافات، ورؤوسهن مرفوعة، ووجوههن جامدة، باستثناء إيقاع اهتزاز خدودهن بسبب ارتداد الأحذية المتصلبة على الكعب العالي. من هنا لم يتمكن بطل الرواية من الاندماج وهو الذي اعتاد على حياة القرية وعلاقات أهلها الودودة ومناخها النقي، ومناظرها الطبيعية، وأسلوب الحياة المنعزل الذي كان دائمًا يستمتع به. بعد تجارب مهنية مختلفة في عالم النشر لكن تم فصله من بسبب نفوره من النظام والقواعد اللاإنسانية.
الشخصية الوحيدة التي تمكن بطل الرواية من إقامة رابطة عاطفية معها هي آنا، ولكن حتى هذه العلاقة الفعلية تحيط بالاثنين في فقاعة من الوحدة. يبدو أن آنا هي المرأة الوحيدة التي لم تندمج في النظام، وربما لهذا السبب يقع بطل الرواية في حبها ويتمكن من التخلي عن نفسه لحياة جنسية حرة بدون أنماط، حب جسدي يُختبر بقوة، لكنه يبلى بمرور الوقت. لأن وتيرة العمل والإحباطات تؤدي أيضًا إلى دفع العلاقات الحيوية إلى اللامبالاة. يأخذ بطل الرواية وقته، ويبحث عن شركاء لتنفيذ خطته الثورية تفجير شركة التعدين. لم يجد أحدًا: لقد اختفى العمال، والأشخاص مثل الأرملة فيغانو التي ترغب في محاربة الظلم في العمل أصبحوا معزولين، بحيث لا يمكنهم أن يثيروا أي إضراب أو نضال نقابي، حيث ضاعت كل ذكرى التمردات والمظاهرات.
وهكذا، لإعالة نفسه وشريكه آنا وعائلته (زوجته مارا وطفل اللذان ينتظرانه في القرية)، يضطر بطل الرواية إلى العمل كمترجم للنصوص الأدبية. العمل الجاد، الذي لم يتم تقييمه بشكل مناسب، والذي يلتزم فيه المثقف المدرب لساعات وساعات، سرعان ما ينتهي به الأمر في مخاض المرارة. هذه هي الصفحات التي يظهر فيها الانزعاج الوجودي العميق الذي يؤدي إلى الاستسلام، مع نهاية انهزامية: الفوضوي الذي كان في الأصل حازما، مصمما ومليئا بالحماسة، يجد نفسه متورطا في مخالب ذلك النظام الذي أراد تقويضه. وهكذا يعيش في تناقض بين الرغبة في معارضة النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والرغبة في أن يكون مقبولاً من قبل الآخرين حوله ومن قبل النظام نفسه في ظل تحولات شديدة في بنية المجتمع الأخلاقية. هذا التناقض يمثل ولا يزال انقساما شائعا جدًا اليوم أكثر مما كان عليه في الستينيات القرن الماضي عندما تم تأليف الرواية.
تلقي أحداث الرواية الضوء على آثار النزعة الاستهلاك وكيف يمكن أن تؤدي الرغبة في الحصول على الكثير من الأشياء إلى العمل أكثر والأنانية والانحلال الاجتماعي. كما تنتقد كيف أصبحت حياة المدينة سريعة الخطى ومنفصلة عن الإنسانية. ويتجلى هذا بشكل مؤثر في الرواية عندما أصيب رجل مخمور بجرح في رأسه ومات في النهاية لأن الجميع كانوا مشغولين للغاية أو لا يبدو أنهم يهتمون بمساعدته.
وهكذا تكشف أحداث الرواية عن بدايات ما نعانيه اليوم حيث أصبحت النزعة الاستهلاكية جامحة، وتدهورت نوعية الحياة أكثر، وأصبحنا نعيش بحثًا عن احتياجات لا فائدة منها لإشباع نهمنا، ونقضي وقتنا في مطاردة الوهم الذي لا يرضي سوى السوق وإنتاجه الزائد المتواصل. وأصبح العالم مصنوعا من البلاستيك والهواء غير قابل للتنفس، وفيما الإنسان معزول حتى عن نفسه: يعيش حياته القاسية.
يلفت المترجم مينا شحاته في مقدمته إلى أن "حياة لاذعة" نشرت عام 1962 وحققت نجاحا كبيرا، وفيها يتمكن بيانشاردي من التقاط واستباق ديناميكيات المجتمع المعاصر من تلاشي الإنسانية في العلاقات بين الأفراد والحاجة إلى امتلاك المزيد من السلع الزائدة حتى أصبح الفرد عبدا لحاجات يفرضها السوق نفسه، وتحول الثقافة إلى سلعة استهلاكية. يمثل انسحاب بيانشاردي من العالم الخارجي، ورفضه للآليات الاجتماعية، ثورة صامتة ومحاولة بائسة للتحرر من قيود لم يستطع الانفكاك منها، تلك الثورة التي رغم بؤسها واستكانتها، كانت بمثابة الفعل الأخلاقي الوحيد المسموح للفرد.
ويلفت إلى أن الرواية تدور في أعقاب المعجزة الاقتصادية الإيطالية أو الطفرة الآقتصادية بالإيطالية il boom econmico المصطلح الذي استخدمه المؤرخون والاقتصاديون ووسائل الإعلام لتحديد الفترة الطويلة للنمو الاقتصادي القوي في إيطالية بعد الحرب العالمية الثانية إلى أواخر الستينيات، وعلى وجه الخصوص في الفترة الواقعة بين 1958 إلى 1963. هذه المرحلة من التاريخ الإيطالي لم تمثل فقط حجر الزاوية في التنمية الآقتصادية والاجتماعية للبلاد ـ التي تحولت من دولة فقيرة ريفية، إلى قوة صناعية عالمية ـ ولكن أيضا فترة للتغيير الجسيم في المجتمع والثقافة الإيطالية. أصبحت مسألة تغطية الضمان الاجتماعي شاملة وسخية نسبيا، كما تحسن المستوى المادي للمعيشة بشكل كبير بالنسبة للغالبية العظمى من السكان.
ويضيف شحاته "نحن أمام أمين مكتبة يترك زوجته وابنه ويرتحل إلى المدينة بحثا عن العمل. كانت هذه بمثابة الذريعة الواضحة، ولكن المهمة التي أوكلها لنفسه كانت مختلفة تماما أو هكذا زعم. وهكذا يجد البطل نفسه ينخرط في حياة مدنية ويجبر رويدا رويدا على التعايش مع مجتمع لم يكن ليقرر الحياة حسب تقاليده، لكي يحصل على قوت يومه، يتحتم عليه أن يصبح جزءا من تلك الآلية الكريهة، الشركات الحديثة، بين زملاء طموحين ورؤساء مكاتب متعجرفين وسكرتيرات يسعين وراء الترقي.