حين يدرس علم النفس القصص الخيالية بوصفها أحلاما

كلمة "حلم" هي الأكثر شيوعا في نصوص شكسبير، فوفقا "للفهرس الأبجدي المفتوح لأعمال شكسبير" تكررت المفردة ومشتقاتها نحو 221 مرة في مسرحياته وقصائده.
ما تغيَّر في مراحل شكسبير هو تصوُّره للقصص الخيالي
معاني كلمة "حلم" عند شكسبير مرت بثلاث مراحل

القاهرة ـ من أحمد رجب

"ما أشبه ما أرى وأسمع بالحلم" هكذا تحدث فالانتاين إلى نفسه في مسرحية "سيدان من فيرونا" لوليم شكسبير، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يستخدم فيها كلمة "حلم" كرؤية بديلة للواقع. وكلمة "حلم" هي الأكثر شيوعا في نصوص شكسبير، فوفقا "للفهرس الأبجدي المفتوح لأعمال شكسبير" تكررت المفردة ومشتقاتها نحو 221 مرة في مسرحياته وقصائده.
ويرى كيث أوتلي - وهو عالم نفس وروائي كندي - أن معاني كلمة "حلم" عند شكسبير مرت بثلاث مراحل، فقد استخدمها في مسرحياته الأولى بمعناها الدالِّ على سلسلة من الأفعال والمشاهد البصرية التي نتخيَّلها في المنام، ثم استخدمها بمعنى أحلام اليقظة. وبعد سنوات أشار بها إلى رؤية بديلة للعالم. 
ويذهب أوتلي إلى أن ما تغيَّر في مراحل شكسبير هو تصوُّره للقصص الخيالي. فقد بدأ يؤمن، أن ذلك القَصص ينبغي أن يضمَّ كلٍّا من الفعل الإنساني الظاهر، ورؤية ما يعتمل تحت السطح، فتخطَّت مسرحياته كتابة التاريخ مسرحيٍّا؛ كما في "هنري السادس"، وتخطَّت الترفيه؛ كما في "ترويض النمرة"، وصارت تحتوي على بعض عناصر الأحلام. ومثلما تمنَح العينان للإنسان القدرة على رؤية العالم رؤية ثلاثية الأبعاد، يُتيح لنا شكسبير النظر إلى عالمنا من بُعدٍ آخر، من خلال رؤيتنا العادية له، مصحوبة برؤية أخرى إضافية "رؤية الحلم".

وظيفة القَصص الخيالي هي أن تمكننا من أن نحيا من جديد، وأن نستوعب مشاعر من ماضينا، يمكنها أن تظل رغم خروجها من دائرة الوعي ذات أثر هائل على حيواتنا

وقد بدأ منذ "حلم ليلة صيف" في طرح فكرة مفادها أن القصص الخيالية ليست مجرد جزء من الحياة، ولا هي محض ترفيه، ولا مجرَّد هروب من الواقع اليومي، فهي تشمل كل ذلك، وهي في جوهرها حُلم موَجَّه، ونموذج يبنيه القراء والمشاهدين بمشاركة الكاتب، ليُمَكِّننا من رؤية الآخرين ورؤية أنفسنا رؤيةً أوضح.
شكسبير في هذه الأعمال لم يبتكر فكرةَ أن المسرح نموذج للعالم، ولكن أدرك أهميتها، التي لم يدركها علم النفس إلا في ربع القرن الأخير الذي شهد دراسات سيكولوجية تحاول استكشاف تأثير القصص الخيالية على العقل، وسبب استمتاع الناس بقراءة الروايات ومشاهدة الأفلام. وبالتزامن مع ذلك بدأت أبحاث تصوير الدماغ تُظهِر كيفية تعبير الدماغ عن المشاعر والأفعال، والتفكير في الآخرين الذين يقرأ المرء عنهم في تلك القصص.
هذا ما أوضحه أوتلي في كتابه "كما في الأحلام.. علم النفس في القصص الخيالية"، وقد ترجمته آيات عفيفي، وأصدرته مؤخرا مؤسسة هنداوي بالقاهرة. وينطلق كاتبه من الرؤية الشكسبيرية كما أوضحها، ثم يتجاوزها إلى دراسة جوانب أخرى مثل كيفية دخول القصص الخيالية إلى العقل، وكيفية إثارتها مشاعرنا، وتبصرتنا بخبايا نفوسنا ونفوس الآخرين.
شخصنة القصص
يدور كتاب آي إيه ريتشاردز "النقد التطبيقي" حول ما يفهمه الناسُ من الأدب، فردود فعل طلابه في جامعة كامبريدج إزاء القصائد التي تناولها كشفت له عن "تشكيلة مدهشة من ردود الأفعال الإنسانية"، فتوصل إلى أن الأعمال الإبداعية حمَّالة أوجُه لقرائها المختلفين، على عكس الكتابات العلمية التي تسعي للتوصُّل إلى معنى واحد متَّفق عليه، فالقصص الخيالية إيحائية بطبيعتها، لها دلالات تختلف لدى كل شخص يسمعها أو يقرؤها، بل وتحمل معاني مختلفة للشخص الواحد عند قراءتها في مناسباتٍ مختلفة.
أما أولى بشائر علم النفس المعرفي فصاحبها فريدريك بارتلِت، ففي كتابه "التذكر" المنشور عام ١٩٣٢ قدم تجربة عن الاستغراق الإبداعي للفرد في قراءة القصص وتذكُّرها، ولا تقتصر عملية البناء التي وصفها على الذاكرة، ولكنَّها تشمل كذلك ما يحدث أثناء خبرة قراءة قصة ما، أو خبرة إدراك العالَم من حولنا. فنحن نستوعب ما نقرؤه أو ما نراه من خلال ما يمكننا فهمه، ونحن نفهم من خلال ما نُضفيه على أي قصة أو مشهد. 
هذه الفكرة نفسها يستعين بها إرنست جومبريش في كتابه "الفن والوهم" الذي يعده ماثلي أفضل كتاب عن علم نفس الفنِّ المرئيِّ. وهكذا يرى الكاتب كيف أن القَصص الخيالي شأنه شأن الفنون الأخرى لا يُحدِث أثره من خلال استقبالنا له فحسب؛ بل إن كل فردٍ منا يبني فهمه الخاص للعمل الأدبي أو الفني على أساس مخططاته. فنستوعب المادة من خلال تحويلها بإبداع؛ بحيث تصير مفهومة لنا على نحوٍ شخصيٍّ.  

في الحياة العادية لا نعيش مشاعرنا دائمًا
حُلم موَجَّه

المشاعر المعاشة مجددا
فهم الشعور هو عملية يحدث من خلالها ارتباط بين حدث أو شخص ما (في العالم الخارجي) واهتمام أو غرض ما (داخلي)؛ والشعور هو تلك العملية التي تُضفي على الأحداث معانيها في الحياة، وغالبًا ما تُدخِل الأحداث في دائرة الوعي. ولمعرفة كيفية استحضار المشاعر في القصص الخيالية أجرى ماثلي تجربة، طلب فيها من المشاركين أن يقرأوا مقتطفات من مجموعة "أهالي دبلن" لجيمس جويس، وصنَّف مشاعر القراء إلى مشاعر جديدة (شعروا بها أثناء القراءة) وذكريات شعورية (مرتبطة بأي ذكريات أثيرت داخلهم أثناء القراءة) أحسَّ المشاركون بكلا النوعين من المشاعر. أكثر مما استدعت القراءة أفكارا أو ذكريات. وهكذا تبدأ عملية الاستمتاع بالقصص الخيالية من إدراكنا لأنماط المشاعر التي سبق أن عشناها في الواقع أو في الأدب، في سياق جديد، نسقط أنفسنا عليه ونعيش تلك المشاعر من جديد بشكل يتيح لنا فهمها بعمق، وربما نغير بفضل ذلك أشياء داخل أنفسنا.
وقد بنى توماس شيف على هذه الفكرة، وافترض أننا في الحياة العادية لا نعيش مشاعرنا دائمًا؛ لأنها تحدث أحيانًا على مسافة جمالية غير مناسبة، فتكون أحيانًا بالِغة القرب مثل مشاعر الحزن لوفاةِ عزيزٍ أو مشاعر الخزي التي نعجز عن الاعتراف بها لأنفسنا أو لغيرنا، أو ربما مشاعر الإحباط أو الكره المتعلِّقة بأشياء ليس بيدنا حيلة في أمرها. وتوصف هذه المشاعر بأنها "دون المسافة الملائمة"، ولذا، نتذكر بعض ملامح الأحداث التي أدَّت إليها، ولكن بطريقة لا تسمح باستيعاب المشاعر المرتبطة بها استيعابًا كاملًا في سيرة حياتنا أو في فهمنا لأنفسنا.
من هنا تصبح وظيفة القَصص الخيالي هي أن تمكننا من أن نحيا من جديد، وأن نستوعب مشاعر من ماضينا، يمكنها أن تظل رغم خروجها من دائرة الوعي ذات أثر هائل على حيواتنا. إننا حين نبكي مصير روميو وجولييت إنما نعيش مجددًا، في الواقع، حالةَ فقدٍ شخصيةً لم نتمكن من تقَبُّلِها حتى تلك اللحظة. ولعلَّ استشعارنا الحزن في المسرحية يسمح لنا بأخذ خطوة واحدة صغيرة في طريق استيعاب خسارتنا. (وكالة الصحافة العربية)