خذوا الناي وغنوا... الصمود سر الوجود

نفسية اللبنانيين مدمرة مثل المرفأ.
اللبنانيون يشعرون بانهم ليسوا في حماية من القدر والقضاء والدولة
المواطن اللبناني يرتطم بهاجس الخطر الدائم بسبب عدم ثقته في اجهزة الدولة

كنا ننتظر أن تغير الثورة لبنان، فغير تفجير المرفأ اللبنانيين. الصدمة التي تلقاها اللبنانيون في بنيانهم الشخصي والنفسي تحاكي تلك التي أصابت الشعوب الأوروبية بعد الحربين العالميتين، الأولى والثانية، في القرن العشرين. اعتبر الأوروبيون أنهم مكرسون للحروب الدورية. وقال، حينها، الشاعر الفرنسي بول ڤاليري: "نحن، أبناء الحضارات، ندرك اليوم أننا مائتون". بعد تفجير المرفأ المدمر أصبح لدى اللبنانيين شعور بأنهم عرضة في أي لحظة للموت غير الطبيعي، وبأنهم بلا حماية من القدر ومن القضاء ومن الدولة، لا بل يحتاجون إلى من يحميهم من الثلاثة معا.

مدمر تأثير الصوت المرعب على معنويات الإنسان وعقله وجسده. هذا الصوت أقسى من الحرب أحيانا. أثناء حصار ناﭘوليون ڤيينا سنة 1809 ارتعب بيتهوڤن من أصوات المدافع، وأوقف تأليف "السيمفونية الخامسة" مدة سنة. أختبأ في قبو سحيق عند شقيقه ووضع على أذنيه وسادات سميكة. وهنت أعصابه موقتا، فكان يتوجه إلى مقهى يرتاده ضباط فرنسيون ويشتمهم. ولاحقا كتب إلى ناشر مؤلفاته الموسيقية يقول: "خسرت فرحي ومعنوياتي. أصوات المدافع الرهيبة لا تزال تطن في رأسي. تغيرت حياتي. فقدت لذة العيش في الريف أيضا. أنظر إلى الآلات الموسيقية كأنها الآت حربية، فأخشى لمسها".

كلنا بيتهوڤن، بخاصة أهل بيروت. يخافون النظر إلى وجوههم في المرايا. انتقلنا من "الشهداء الأحياء" إلى "الضحايا الأحياء". انتهى التفجير لكن الانفجار يتردد في آذانهم والعيون والمخيلة. نفسيتهم مدمرة مثل المرفأ. تعرضت الشخصية اللبنانية التاريخية إلى فالق عمودي أعمق من الصدمة الأفقية التي أصابت النفسية الذاتية. ارتطم المواطن اللبناني بهاجس الخطر الدائم. تهيأ له بأنه على موعد مستدام مع الموت ومتجدد مع الدمار. تفشى في ذهنه قلق أن مستقبله ليس في لبنان وليس للبنان مستقبل. في حرب السنتين هاجر اللبنانيون خوفا من "اللاأمن". اليوم يهاجرون خوفا من "الأمن". لم يعودوا يثقون حتى بـ"الأمن المنزلي".

نشأ "صراع الإرادتين": الصمود الجماعي والانهزام الفردي. استعانت الجماعة بتجارب التاريخ فآثرت الصمود، وفزع الفرد على مستقبله فنزع نحو الرحيل. وراح الفرد يتأرجح بين "صراع الحنينين": الحنين إلى بيروت ما قبل التفجير، والحنين إلى لبنان ما بعد الهجرة. إذا كان البقاء هنا مشكلة، فالهجرة ليست الحل. عذاب أن يعيش شعب بين مجهولين: لبنان المجهول المصير، والغربة المجهولة الطالع.

يرافق هذه الحالات النفسية والعصبية، الفردية والجماعية، اعتقاد بأن إعمار بيروت ولبنان ممنوع. القدر وضع "ڤيتو". إذ كلما حاول اللبنانيون إعادة الإعمار يأتي من وما يعيدهم إلى نقطة الصفر: حروب، اجتياحات، حركات تمرد وعصيان، اغتيالات، أعمال إرهابية، حوادث شغب، تحطيم الأسواق التجارية، أزمات سياسية ودستورية أشبه بمؤامرات. وأخيرا أتى تفجير المرفأ وتوابعه ليسدد الضربة القاضية على الأمل بلبنان. مهلا، مسار لبنان يختلف عن مسار القدر. نحن أبناء الإرادة لا أبناء الصدفة و"المكتوب".

لو هيمنت هذه المشاعر المشككة بقدرة المواجهة على اللبنانيين عبر التاريخ، لما كانوا تجاوزوا جميع الغزوات منذ ستة آلاف سنة. ولو سيطرت هذه المشاعر زمن إمارة الجبل المجيدة لما صمدت أربعمائة سنة في وجه العثمانيين. ففي عهد الأمراء المعنيين فقط، غزا العثمانيون الجبل واجتاحوه سبع مرات فقتلوا وذبحوا وهدموا وأحرقوا وانسحبوا، لكن الإمارة استمرت إلى أن اغتيلت سنة 1920. ولو وجدت هذه المشاعر سنة 1975، لما كنا تمكنا من الصمود والمقاومة ودحر قوى التوطين والاحتلال واليسار الدولي (تحاشيت ذكر إسرائيل لئلا أشوش على مفاوضات ترسيم الحدود معها ومسار الاعتراف المسبق بها).

رغم الكارثة والصدمة والاضطراب وكل المرادفات، ورغم عمق المأساة ومشهدية الدمار الشامل، لا بد من لملمة معنوياتنا من بين الأنقاض ورد العدوان. أكان التفجير نتيجة إهمال أم عملا إرهابيا، هو عدوان على وجودنا. ولا يرد العدوان بالمراسلة، بل بالمواجهة. الضحايا الذين سقطوا يحثوننا على الصمود لا على الرحيل. يناشدوننا أن نحول حبات دموعنا حجارة غضب وثورة. يطالبوننا أن نثبت هنا ونزور أضرحتهم ونصلي. وطننا حيث يرقد أحبتنا. وأحبتنا أحياء ينتظرون اليوم الثالث. من يصدق أن ألكسندرا وكريستال وإيلي وطه وجو ورالف وإلياس وسحر وعلي وجان-مارك وأحمد وشربل والآخرين... غابوا إلى الأبد؟

سلاح الوجود هو أمضى سلاح. كثر يتمنون أن نرحل. بقاؤنا بحد ذاته انتصار عليهم وعلى المآسي. تجارب التاريخ أثبتت أن الهزيمة تبدأ في النفوس قبل الجبهات، والانتصار يبدأ في المعنويات قبل الحسم النهائي. أخطر انهيار هو انهيار المعنويات. ما كان القائد الروماني ﭘومﭙيوس ليهزم أمام يوليوس قيصر في معركة أثينا (48 ق.م.) لو لم يخف من الهزيمة فتراجع في بدء المعركة تاركا أربعين ألف جندي لقدرهم المحتوم... كل دمار بيروت يعمر إذا بقيت المعنويات، لكن دمار غرفة واحدة يعصى على البناء إذا سقطت المعنويات.

أيها المذهولون بالكارثة الكبرى، يا أبناء وطني، يا بنات الوعد وبنيه، يحق لكم أن تفكروا في الهجرة، وقد عنت على بالي أيضا. لم أصب بالجسد. أصيب منزلي ومكتبي وخسرت صديقات وأصدقاء من كل فصول الحياة. لكنها كانت "فشة خلق". قوة خارقة تنهرنا جميعا وتنهانا عن الرحيل: صوت بشير هتف، وسيف فخر الدين لاح، ونداء الشهداء صدح: "لم نقاوم لتحبطوا، ولم نستشهد لتهاجروا". أجمل المعارك تلك التي نخوضها والجروح تنزف. ماذا سيبقى من لبنان الكيان والشراكة والفكر والثقافة والرقي والحضارة إن رحلتم؟ ماذا سيبقى من لبنان الفن والموسيقى والتراث والطوائف المتعددة إن رحلتم؟ أنتم القيمة الأساسية والمضافة في هذا الشرق. أنتم التوقيع الأول والأخير في هذه الأمة. الهجرة جزء من الانتحار الآني، والبقاء جزء من الانتصار الآتي. لا تحولوا الكارثة المادية هزيمة للإنسان. لا تدعوا اليأس يتجذر فيكم رغم القرف الكبير والحزن الأكبر. رددوا أنشودة "جان سيباستيان باخ" الموسيقية: "يسوع، ليبقى فرحي"... آلامنا اليوم هي مخاض الولادة لا حشرجة الموت. "خذوا الناي وغنوا... الصمود سر الوجود". معا سنكمل السمفونية اللبنانية مثلما أكمل بيتهوڤين سيمفونيته الخامسة.