خليل صويلح يلخص تجربته المريرة مع الكتب والمكتبات

الكاتب السوري: ارتحلتْ مكتبتي خمس رحلات قسرية، وفي كل مرّة أتخلّص من بعض عناوينها بلا مغفرة.
ما حاجتنا إلى كتب صارت متوفرة في دكان جوجل المفتوح ليلاً نهاراً ؟
هناك كتب لن أعود إليها مجدّداً، أو هكذا كنت أظنُّ
الروائي السوري يبحث عن مكتبة مُختزَلة تتجوّل في الرأس
نحتاج إلى الكتب التي تقوم بتغيير مصائرنا

القاهرة ـ من أحمد رجب
"ليست المكتبة بحجمها، إنما في نوعية محتوياتها، فنحن نحتاج إلى الكتب التي تقوم بتغيير مصائرنا". هكذا يلخص الروائي السوري خليل صويلح تجربته المريرة مع المكتبات، فقد اضطرته ظروف الحياة وصروفها إلى تنقل دائم من بيت إلى بيت، ولاختلاف مساحات البيوت وظروف الانتقال كان يضطر دائما للاستغناء عن الكثير مما لديه من كتب. 
يحكي الكاتب: "هكذا ارتحلتْ مكتبتي خمس رحلات قسرية، وفي كل مرّة أتخلّص من بعض عناوينها بلا مغفرة، فهناك كتب لن أعود إليها مجدّداً، أو هكذا كنت أظنُّ حينها".
ولم يكن الانتقال هو السبب الوحيد للاستغناء عن الكتب، هناك أيضا ضيق ذات اليد الذي قد يحرمنا من نفائس وليس فقط من كتب نراها زائدة عن الحاجة، يتذكر صويلح "كما سأتخلّص لاحقاً من مجلدات (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني، بنصف ثمنها، لأسباب تتعلق بالإفلاس هذه المرّة".
جرب كثيرا مرارة وحيرة المفاضلة التي تتطلبها عملية الاستغناء عن الكتب الفائضة عن الحاجة، وحتى يهون على نفسه مكابدة تلك الحيرة المرة التي ربما لم ينج منها كاتب عربي، يستعيد تجربة الشاعر الكبير الراحل محمود درويش عندما غادر بيروت إثر الغزو الإسرائيلي لها في عام 1982 نحو منفى آخر، فاضطر أن يتخلّى عن مكتبته. احتفظ بكتابين فقط: "ديوان المتنبي"، و"الأناشيد الكنعانية".
كذلك يطرح فكرة "اللا مكتبة" كحل يتيح التخفف من عبء المكتبة بشكلها التقليدي ذو الرفوف الخشبية الثقيلة التي تعوق نقلها، فيتساءل: "ما حاجتنا إلى كتب صارت متوفرة في دكان جوجل المفتوح ليلاً نهاراً ؟".
سيرة ناقصة
تشكل هذه التجربة موضوعا لأحدث كتب خليل صويلح "ضد المكتبة"، (دار أثر السعودية - 2018)، حيث يبين أن موقف الضد هنا يتخذه من شكل المكتبة وليس من الكتب نفسها، لذا يدلف من العتبة الأولى للكتاب متأبطا أمبرتو إيكو، ومستعيرا مقولته "منْ لا يقرأ يعيش حياة واحدة حتى لو اجتاز السبعين عاماً. أما منْ يقرأ، فيعيش خمسة آلاف عام. القراءة أبدية أزلية"، لذا يؤكد منذ السطر الأول "هذه النصوص كتبت من موقع القارىء في المقام الأول" ويتحدث عن حيرة أخرى يجربها القراء بين رفوف المكتبات بحثا عن كتاب "يقودك إلى ألفة غير مسبوقة، إلى اضطراب وريبة وشكوك، إلى ارتواء وشبع كما لو أنك حيال وليمة دسمة من الكلمات والصور والنبوءات".

المكتبات أفقدت الكتب دورها الفعلى فى التفاعل الحيوي مع القارىء

والكاتب الذي لم يوضح غلافه تجنيسا أو توصيفا لمحتوى الكتاب، يصارح قارئه قبل أن ينتهي من الصفحة الأولى أنه سيجد في الصفحات "سيرة ناقصة للكتب" سيرة لن تكتمل أبدا لأن كاتبها يدلف إلى المكتبة (أو خلاء الكتب بحسب تعبيره) باعتبارها متاهة، يدخلها على أمل أن يقع في فخ كاتب مجهول، مفتونا بدور الطريدة لا الصياد، بحثا عن حكاية لم تحكها شهرزاد، ولما لم يجدها يفتش عنها في متاهة كتب أخرى، مثل لعنة أبدية، في تجوال طليق يطيح هندسة رفوف المكتبة رأسا على عقب.
تهجين الفوضى
يتذكر الكاتب: "كان عليّ أن أنتبه جيداً، إلى مقاييس حجم المكتبة التي أنوي تفصيلها، بما يتناسب مع ارتفاع وعرض الباب الخارجي للمنزل المستأجر، وذلك لإدخالها لاحقاً بلا رضوض، نصحني النجّار بخشب الزان معتبراً إياه أفضل أنواع الخشب، مكتبة بسبعة رفوف وارتفاعات مختلفة تتقاطع بأشكال هندسية، وفقاً لحجوم الكتب المقترحة. كنت أصنّف الكتب تبعاً لأجناسها بترتيب أنيق، لكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً، خصوصاً بعد تراكم المجلات الدورية ذات الأحجام المتنافرة، بالإضافة إلى مجلدات الكتب التراثية، وكتب الشعر بحجم كف اليد".
كان لا بد أن تحدث الفوضى مع تراكم الكتب، أيضا تلك الصورة النمطية التى  تشكل انطباعنا الأوحد عن المكتبات أفقدت الكتب دورها الفعلى فى التفاعل الحيوي مع القارىء، لذلك يقول صويلح "أتساءل بجديّة عن جدوى كل هذه الرفوف من المجلدات الضخمة التي تخصّ تراث الأسلاف".
ويضيف "سأجازف أكثر بأن أدعو إلى فكرة اللامكتبة، وبإسراف نقدي أكبر، تعزيز فكرة ضدّ المكتبة، كنوعٍ من تهجين الفوضى، فهناك مكتبة مُختزَلة تتجوّل في الرأس، ذهاباً وإياباً، بعبارة مؤثرة، أو شخصية في رواية، أو فكرة فلسفية، أو صورة شعرية، ستلح علينا، تبعاً لقوة تأثيرها، أو حاجتنا الآنية إليها، وهذا ما يتطلب العودة إلى كتاب ما من أجلها، والتفتيش عن مكانه بين الرفوف المتراصّة ككتيبة جنود"، لكن ذلك يحتاج إلى مكتبة أخرى بخطط ومتاهات لا نهائية.
وليست كل الكتب تصلح لتلك المكتبة البديلة، لذلك يشير إلى كتب أقرب ما تكون إلى ذبيحة لغوية بأحشاء مكشوفة ورائحة عطنة، تدعوك إلى النفور من محتوياتها، ورائحة أفكارها، بمجرد تصفحها على عجل، وكتبُ تجذبك إليها من السطر الأول.
ويؤيد صويلح فكرته بما قاله غارسيا ماركيز عن كافكا، فحين بدأ بقراءة "المسخ" أُصيب بالذهول والدهشة. كانت الرواية تبدأ هكذا: "استيقظ غريغور سامسا صباح ذلك اليوم من كوابيسه، ووجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة ضخمة".
يعلّق ماركيز "لم أنم بعدها أبدًا بسكينتي السابقة، لقد حدّد الكتاب اتجاهًا جديدًا لحياتي منذ السطر الأول". هذا الدرس سيحفظه ماركيز جيّداً، فهو كان يعتبر أن السطر الأول، إن لم يكن صحيحاً، فإن كل ما يليه سيكون بلا فائدة.
سيّد الكتب                                                                                                                                                     
يراجع الكاتب موقفه من المكتبة التقليدية بشكلها النمطي الجغرافي، فيشير إلى تجربة "سيد الكتب" وهو خوسيه ألبرتو غوتيريز وهو مواطن كولومبي يعمل سائقاً لشاحنة تجمع القمامة، تمكّن من جمع الآلاف من الكتب محوّلا بيته إلى مكتبة عامة مجانية، تغيّرت حياة سيّد الكتب بعد اكتشافه أن الناس يلقون عدداً كبيراً من الكتب في المهملات.

بعد اكتشافه أن الناس يلقون عدداً كبيراً من الكتب في المهملات.
أول الكتب التي عثر عليها كان آنا كارنينا، وقد عثر عليه في خزانة مع العشرات من الكتب الأخرى. وهكذا بدأ بجمع الكتب وتخزينها في منزله. وبمرور السنوات، أصبح بيته مليئاً بالكتب.
هنا يقارن صويلح سيد الكتب بعمال النظافة في بلادنا، على الأرجح، لئن عثر على كتب فسيبيعها بالكيلو لمطعم فلافل، أو عربة لبيع الذرة، أو إحالته إلى جهة أمنيّة، تنفيذاً لتعليمات صارمة بتسليم أية أوراق يجدونها في النفايات، فربما تحتوي على منشورات خطيرة. (وكالة الصحافة العربية)