خوليا نبارو: ليس عدلا أن يدفن ديكتاتور مع ضحاياه

الروائية الإسبانية تقدم في 'لا تقتل.. مدريد' عملا مشحونا بالتوثيق الدقيق والإطار التاريخي المتقن لأحداث فترة ما بعد الحرب الإسبانية ودوامة الحرب العالمية الثانية وتأثيراتهما على المواطن الإسباني الحياتية على العائلة والحب والصداقة، تقول القصيدة.

تفتتح الروائية الإسبانية خوليا نبارو روايتها "لا تقتل.. مدريد" بمقطع من قصيدة "إيثاكا" للشاعر اليوناني السكندري "قسطنطين كفافيس"، والتي تشكل عتبة مهمة في قراءة الرواية المشحونة بالتوثيق الدقيق والإطار التاريخي المتقن لأحداث فترة ما بعد الحرب الإسبانية ودوامة الحرب العالمية الثانية وتأثيراتهما على المواطن الإسباني الحياتية على العائلة والحب والصداقة، تقول القصيدة:

حين تتهيأ للرحيل إلى إيثاكا..

تمنَّ أن يكون الطريق طويلًا..

حافلًا بالمغامرات، عامرًا بالمعرفة..

لا تخشَ الليستريجونات والسيكلوبات..

ولا بوزايدون الهائج..

لن تجد أيًّا منهم في طريقك..

إن بقي فكرك ساميًا..

إن مست عاطفةٌ نبيلةٌ روحك وجسدك..

فلن تقابل الليستريجونات ولا السيكلوبات..

ولا بوزايدون العاتي..

إن لم تحملهم في روحك..

إن لم تضعهم روحُك أمامك..

تدور أحداث الرواية التي ترجمها عبد الحليم جمال وحررتها سهيلة دويدار وصدرت عن دار العربي حول فرناندو المحرر الأدبي الشاب وابن الجمهوري الإسباني المعتقل"لورينثو جارثو"، الذي يقرر الفرار من إسبانيا التي دمرتها الحرب الأهلية ودكتاتورية فرانسيسكو فرانكو الوحشية. يرافقه في مغامرته صديقاه "كاتالينا" و"أولوخيو"، كل منهما يهرب من ظروفه الخاصة.. يعيش الأصدقاء الثلاثة الشباب قصة رائعة من الصداقة والولاء الذي لا يتزعزع، وهو ما يأخذهم في رحلة عبر الإسكندرية خلال الحرب العالمية الثانية، وباريس المحتلة، ولشبونة، وبراغ، وبوسطن، وتشيلي. نشأ فرناندو وكاتالينا وأولوجيو معًا في أحد أحياء مدريد بالقرب من دير "لا إنكارناثيون".. لقد انتهت الحرب الأهلية الإسبانية للتو، ويحاول الثلاثي الشاب التعافي من تأثيرها المؤلم على حياتهم وحياة عائلاتهم.

فرناندو يعيش مع والدته "إيسابيل"، في انتظار إطلاق سراح والده - المعتقل بسبب مُثُله الجمهورية - على أمل الحصول على العفو الذي لا يأتي أبدًا. وتعيش كاتالينا في نفس الشارع؛ لقد دمرت الحرب الأهلية عائلتها، ومن أجل مواجهة ديون العائلة، يخطط والدها لتزويجها من "أنطونييتو" وهو تاجر تحتقره ويثير اشمئزازها، إنها تحب الأمريكي "مارفن"، الشاعر الذي عمل في بداية الحرب مترجمًا لبعض صحفيي أمريكا الشمالية. تحبه لدرجة الهوس دون أن تدرك أن هوسها بالرغبة في إجباره على الزواج منها مطابق لهوس والدها بالزواج من أنطونيتو. لم يعجبها ذلك ولهذا هربت وتفاجأت بهرب مارفن. أما "أولوخيو" فقد ناله من الخسائر جراء الحرب الكثير، فقد توفي والده في القتال وعاد هو نفسه من الحرب مقعدًا بعد عمل بطولي أنقذ فيه حياة الشاب الأمريكي مارفن، الذي وصل إلى إسبانيا عام 1936 لدراسة الأدب، وعندما اندلعت الحرب قرر البقاء وتصوير آلام الصراع في البلاد.

لقد كانت وجهات النظر المستقبلية بالنسبة للأصدقاء الثلاثة تزداد قتامة كل يوم، من هنا كان أن قرروا توحيد مصائرهم والبدء في حياة جديدة بعيدًا عن مدريد لإنقاذ ما بقي لهم من إنسانيتهم التي أهدرتها السياسة والحرب والديكتاتورية، وقد نجحت الروائية في تقديم سرد سلس عبر لغة بسيطة تحمل ذلك التوتر الإنساني والعاطفي والتحولات الدرامية المؤلمة لحيوات الشخصيات، هذه الحيوات التي تستحضر انعكاسًا للوجود الفردي الذي يتردد صداه قويا في الحوارات والنقاشات وعلاقات الحب والصداقة المخلصة.

تقول نبارو في حوار معها حول الرواية "اخترت مدريد لأقول كيف كانت فترة ما بعد الحرب في إسبانيا: بلد مقفر بالكامل حيث لم يخسر الخاسرون الحرب فحسب ، بل خسروا المستقبل". وعن اختيارها لنص كفافيس "لقد وقعت في حب الإسكندرية دون أن أعرف ذلك ، وقد قرتأ رباعية الإسكندرية لدوريل. باريس هي المرحلة الأخيرة من الرحلة: عندما يعتقد الأبطال أنهم أقرب إلى إيثاكا الداخلية ".

أما عن عنوان "لا تقتل.. مدريد" فله دلالاته الأخلاقية تماما، تضيف "تفكيري هو أنه لا يمكن لأي إنسان أن يكون هو نفسه مرة أخرى إذا قتل رجلا آخر". وحول ما إذا كان يمكن للمرء - أو ينبغي - الكتابة بموضوعية عن الحرب الأهلية؟ "دعونا نرى، لقد كتبت الحرب الأهلية بموضوعية: لقد فعلها المؤرخون. الرواية شيء آخر، فهي تنتمي إلى العالم الشخصي لكل كاتب، ويجب ألا يكون هناك طلب لتكون موضوعيا. لست أنا. لا يمكن أن يكون هناك شريعة لكتابة رواية: شخصياتي على الجانب الجمهوري وهذا كل شيء، ولكن صحيح أيضا، لكن لا يمكنك أن تكون صحيحا سياسيا بشكل دائم، لأنك بهذه الحالة تتخلى عن الحرية". وبالمناسبة، مات فرانكو؟ "فرانكو مات ودفن لحسن الحظ والمجتمع الإسباني يتطلع إلى المستقبل. نحن نفعل ذلك منذ سنوات. شيء آخر هو أنه من العدل تماما أن يتم إخراجه من وادي الشهداء وهو وعائلته لدفنه في مكان آخر. لا أعتقد أنه من الطبيعي أن يدفن ديكتاتور قاتل مع ضحاياه، إنها حالة شاذة تحتاج إلى تصحيح في أقرب وقت ممكن. أجد أنه من غير المحتمل أن يكون فرانكو في ضريح عام".

مقتطف من الرواية

في الوقت نفسه استغرق "مارفن" في التفكير وهو يطالع جدار الغرفة الضئيلة التي شغلها في سندرة "إولوخيو". ليس عليه مواصلة العيش هنا، ولا حاجة إلى أن يعاني الفقر المدقع برفقة "إولوخيو" وأمه. لديه ما يكفي من المال لاستئجار غرفة في أي مكان آخر، بوسعه الإقامة في أحد الفنادق أو في نُزلٍ ما. لكنه خشي العودة. لم يقاتل مع فرقة "لنكولن"، لكنه شهد في إسبانيا كيف يقاتل أبناء بلده، وكانت طريقته للإسهام في قضية الجمهوريين هي العمل مترجمًا. ربما كان "فرانكو" والمتمردون على علم بالأجانب الذين اتخذوا صفهم ومَن لم ينضموا إليهم. وإن قبضوا عليه! لن يخدع نفسه بشأن شجاعته. هو يدرك أنه جبان. لكن والديه ذوا شأن، لدرجة أن الإسبان لم يجرؤوا على القبض عليه. لديه خطابات توصية عديدة، إضافةً إلى حماية سفارته. لن يواجه "فرانكو " الأمريكيين، ومع ذلك كان من الغباء البحث عن سكن مع "إولوخيو"، لكنه أراد أن يكون من جديد إلى جوار صديقه الذي أعجب به أثناء الحرب، وأنقذ حياته. تجانس كلاهما روحًا وطبعًا حين تعارفا على الجبهة. لم يدهشه لطفه فقط، وإنما أيضًا البهجة الدائمة التي يبديها ذلك الرسام الطموح. بدا لـ"مارفن" أنه فنان متوسط، لكنه لم يخبره بذلك قط.

لماذا عاد؟ ربما لأنه لم يغفر لنفسه أنه لم يقاتل. خلال الحرب، وخاصةً حين غادر إسبانيا، حاول إقناع نفسه أن الحرب ليست بالسلاح فقط، بل يمكن لقصيدة أن تفعل الكثير لقضية طيبة، تمامًا كإلقاء قنبلة يدوية، أو إطلاق النار من بندقية، أو مهاجمة خطوط العدو. لكنه لم يستطع إقناعها، ما سبب له نوبة قلق. منذ رحيله عن إسبانيا لم يكتب شيئًا ذا قيمة. أصرت عائلته في نيويورك أن يعود إلى وطنه. عمل والده في تجارة الصلب، ومن خيبة أمله أن ابنه الأكبر نشأ شاعرًا. من حسن الحظ أن "تومي"، أخاه الأصغر، كان هناك لتحقيق حلم والده بالحفاظ على تجارة العائلة. أرسلوا إليه مصروفًا شهريًّا سمح له بالعيش في يسر، ولم تكن والدته، التي حملت روح فنانة، لتسمح بخلاف ذلك. وفي نهاية المطاف، هي مَن ورثت مصنع الصلب الذي يديره زوجها.

أطلت "بييداد"، والدة "إولوخيو"، برأسها في غرفة "مارفن" الذي بدا مستغرقًا في القراءة.

- أتريد بعض القهوة؟

تساءل في دهشة:

- قهوة حقًّا؟

حاولت المرأة تبرير سرقات "إولوخيو":

- نعم. أخذها "إولوخيو" من السيد "أنطونيو". فيما يبدو أن بضعة كيلوجرامات وصلت المخزن أمس، وأنت تعرف كيف حال ابني. حسنًا، السيد "أنطونيو" أيضًا بالكاد يدفع له..

أجاب "مارفن" مبتسمًا:

- أوافق على فنجان من قهوة.

ـ ماذا تقرأ؟

ـ كتاب أعارني إياه "إولوخيو"، أعتقد أن والد "فرناندو" هو مَن حرره. "لاس ريماس ساكراس" من تأليف "لوبي دي بيجا".

قرأ "مارفن" بصوت عالٍ:

ـ "إن كان الجفاف والبرودة هما أساس الموت الضاري القاسي، فإن قلبي الصلب بجليده الداخلي علامات يجب أن أخشاها".

ابتسمت "بييداد"، وأحس  أنه يحب هذه المرأة. هي جميلة للغاية، لكن يبدو أنها لم تنتبه إلى ذلك. فقدَت زوجها على الجبهة، وكادت تفقد ابنها الذي رأته ذات يوم عائدًا يستطيع المشي بالكاد. يدين "مارفن" بحياته لـ"إولوخيو" لأنه هو مَن حمله على كتفه عندما أصيب، ومَن ركض معه خلال إطلاق النار حولهما، وهو مَن هدد الطبيب كي يترك المصابين الآخرين ويجري له عملية جراحية هناك. كان ثمن إنقاذ "إولوخيو" له هو أنه أصبح أعرج، وتلك الجروح الخطيرة أبعدته عن الجبهة طوال العامين الآخرين من الحرب.

لم تشتكِ "بييداد" قط. قبلت قدرها دون أن تلقي باللوم على أحد. ما جرى قد جرى. هكذا اعتادت أن تردد حين يأسف "مارفن" و"إولوخيو" لفوز أنصار "فرانكو". عمل "خيسوس خيمينيز"، والد "إولوخيو" مدققًا لغويًّا لإحدى الصحف في مدريد، ومترجمًا عن الفرنسية، وعمل لساعات إضافية مترجمًا في دار النشر التي أدارها "لورينثو جارثو" والد "فرناندو". كان رجلًا صالحًا وخجولًا ومتواضعًا. هكذا وصفته "بييداد"، وأضافت أن زوجها رغم شخصيته السمحة لم يتنصل من مسؤوليته تجاه الجمهورية، وذهب للدفاع عنها على جبهة القتال حيث فقد حياته.

قبل الحرب، عاشت الأسرة بعض الرفاهية. وأما عن موهبة "إولوخيو" فقد تمتع بها منذ الطفولة. أمضى ساعات أمام ورقة يرسم. تمنى أن يصبح رسامًا عظيمًا، وقد دعم والداه هذا الحلم من خلال إمداده بالوسائل اللازمة لذلك في أكاديمية "سان فرناندو" الملكية للفنون. راقب "مارفن" بفضولٍ العائلات المختلفة التي تتلاقى في ذلك المبنى في شارع "لا إنكارناثيون". كلها عائلات برجوازية صغيرة. حسنًا، كانت برجوازية صغيرة لأن الغالبية الآن يقاتلون من أجل البقاء على قيد الحياة!

استعرض قائمة الجيران: عائلة "جارثو" المقيمون في الطابق الأول، عائلة "خيمينيز" المقيمون في اليسار الثاني حتى انتقلوا إلى العيش في إحدى السندرات، عائلة "جارثيا" المقيمون في الخامس ورب أسرتهم يعمل محاميًّا، وعائلة "جوميز" الذي تنافس ابنهم الوحيد "بابلو" مع "أنطونييتو" في كل شيء.

في المبنى المجاور، عاشت عائلة "بيلامار" في منزل أكثر فخامة. ولإزعاج السيد "إرنستو" كانت ابنته "كاتالينا" تتسكع مع الشباب في عمرها، ويعيشون في الشارع ذاته. والدتها، السيدة "أسونثيون"، امرأة صالحة، ودائمًا مستعدة لتقديم يد العون إلى مَن يحتاج إليها.

دخلت "بييداد" بفنجان قهوة ووضعته على المنضدة الصغيرة حيث برزت فوقها بضع ورقات فارغة. سألت "مارفن":

ـ ألا تشعر بالإلهام؟

لم يرتح لمثل هذا السؤال المباشر فقطب جبينه، رغم علمه أنه لا نية سيئة في كلمات هذه المرأة.

ـ ربما تساعدني القهوة.

- هذا البلد ميت يا "مارفن". ألا تلاحظ ذلك؟ لا يمكن للمرء أن يشعر بالإلهام وسط الموتى. هنا لن تجد الإلهام. أنت في حاجة إلى الابتعاد. حسنًا، لا أريد أن أتدخل فيما لا يعنيني، لكن أعتقد أنه يجب أن تسامح نفسك، ليس لديك ما تلومها به. سمعتك تتحدث إلى "إولوخيو"، وأعلم أن عدم بقائك في الحرب يؤرق نومك. لماذا تعَّين عليك أن تفعل ذلك؟ لقد جرحوك، وتلك لم تكن معركتك يا "مارفن"، ولا معركة معظمنا.