خيرسون وما بعد خيرسون

الواقعية السياسية، وليس القرار العسكري، هي ما دفع بوتين إلى الانسحاب إلى شرق نهر دنيبر.

إذا تركنا للمحللين العسكريين الأبعاد العسكرية للإنسحاب الروسي من مدينة خيرسون إحدى أهم مدن الأقاليم الأربعة التي قررت روسيا ضمها في 30/9/2022 وحاولنا فهم الدلالات السياسية لهذا الإنسحاب الكبير فيمكن أن نرى في المقدمة سياسة روسية أكثر واقعية، وأقل ادعاء مما كان عليه الحال في بداية الاجتياح العسكري لأوكرانيا في شهر فبراير/شباط من العام الحالي.

وبلغة السياسة يمكن أن يترجم قرار الإنسحاب الذي اتخذ بالتأكيد من قبل الرئيس بوتين - وليس من قبل وزير الدفاع والقائد الجديد للقوات الروسية في أوكرانيا الجنرال سيرجي سوروفيكين – باعتباره محاولة أولى للنزول من الشجرة. فهو ليس قرارا عسكريا فقط، والطريقة التي عرض بها اتخاذ القرار مثلما الطريقة المنظمة التي تم بها تنفيذه على الأرض بما في ذلك تدمير الجسور التي تربط ضفتي نهر دنيبر بما يوحي بعدم وجود نية قريبة للجيش الروسي للعودة للضفة الغربية التي تركت للقوات الأوكرانية، ولأن الإنسحاب العسكري فاجأ المحللين العسكريين كونه لا يتسق مع المنطق العسكري الذي يفترض إيقاع أكبر خسارة ممكنة بالطرف المهاجم قبل الإنسحاب على الأقل، ولا مع من كان ينذر بأن روسيا لن تتخلى عن خيرسون حتى لو اضطرت لاستعمال أسلحة دمار شامل.

من أجل ذلك كله يحتاج قرار الإنسحاب إلى تفسير من خارج المنطق العسكري البحت، أي تفسير سياسي على وجه التحديد.

والتفسير السياسي لا يرتبط فقط بتطور سير المعارك العسكرية، لكنه يتعلق بالرؤية السياسية الشاملة للحرب، بما في ذلك وضع الإقتصاد ومدى قدرته على الإستمرار في دعم المجهود الحربي، وموقف الأطراف الدولية الداعمة لأوكرانيا، ووضع القوى البشرية ومدى شعبية الحرب داخل روسيا، وأثر العقوبات الاقتصادية على المدى المتوسط والبعيد.

كما لابد أن تأخذ الرؤية السياسية بالإعتبار الخسائر البشرية والعسكرية والاقتصادية التي تكبدتها روسيا حتى اليوم وما يمكن أن تكون عليه الخسائر في المستقبل بالمقارنة مع ما يمكن أن تربحه من استمرار الحرب.

فإذا وصلنا إلى استنتاج مفاده أن لقرار الإنسحاب بعدا سياسيا واضحا فذلك قد يعني بداية مراجعة روسية للموقف من الحرب.

وفي المقابل ثمة مؤشرات أولية لتغير في موقف الولايات المتحدة من الحرب الأوكرانية، وربما تشعر الولايات المتحدة الآن أن روسيا قد نالت نصيبها من الإستنزاف المطلوب، وأن قوتها العسكرية لم تعد كما كانت عليه في بدء الحرب، كما أن هيبة ومكانة الجيش الروسي قد أصابها الكثير من الضرر، وانكشفت نقاط ضعفه التي لم تكن معروفة ليس أمام العسكريين المحترفين فقط ولكن أمام العالم بأسره.

ومنذ البداية لم يكن هدف الغرب إلحاق هزيمة كاملة بروسيا، ولا حشرها في زاوية لا مخرج منها، لكن كسر جناحها، وإعادتها إلى حجمها الذي كانت عليه قبل أن يحاول بوتين التمرد على "النظام العالمي" واستعادة الامبراطورية القيصرية، وفرض مكانة شريك للغرب عن طريق ممارسة القوة والتهديد بالقوة.

بالإنسحاب من خيرسون ربما تكون قد طويت صفحة التهديد النووي، فإذا لم يستخدم بوتين أسلحة الدمار الشامل ليمنع سقوط أهم مدن الأقاليم الأربعة التي قرر ذات يوم أنها أصبحت روسية، فمتى سيستخدم ذلك السلاح؟

وأكثر من ذلك فهو بقراره الإنسحاب من خيرسون وتدمير الجسور مع الضفة الأخرى لنهر دنيبر يعطي إشارة لاستعداده للإنسحاب من أجزاء أخرى من الأراضي التي احتلها وضمها لروسيا وأن قرار الضم ليس سدا لا يمكن تجاوزه في الرحلة نحو الحل السياسي.

على أية حال فالشتاء الأوكراني قادم، ومعه الثلوج التي ستعرقل الأعمال الحربية للطرفين. ومعنى ذلك أننا سنشهد خط هدنة واقعية عبر نهر دنيبر بالنسبة لخيرسون، وبقاء تلك الهدنة طيلة فصل الشتاء حتى لو تخللتها أعمال عسكرية هنا وهناك سيكون فرصة للديبلوماسية لفتح ملف المفاوضات، فإذا لم تسفر تلك المفاوضات عن اتفاق لإنهاء الحرب، فقد تسفر عن هدنة طويلة الأمد، مثلما حصل بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية عام 1953 وعندها يبرر بوتين حربه بتدمير أوكرانيا وضم الأجزاء التي بقيت بيده من إقليم الدونباس، مقابل وقف آلة الحرب الرهيبة التي ما زال سيفها مسلطا فوق رؤوس الأوكرانيين. أما أوكرانيا فستبقى ترفع شعار تحرير إقليم الدونباس لكنها ستنصرف لبناء ما هدمته الحرب.