دانييل هوز شاعر لا يشبه أحدًا

شعر هوز ينتمي إلى عالم واسع من التراث والفولكلور والتاريخ المتداخل في جزء منه، مع التراث الإنكليزي.
هوز شاعر كبير، ومهتم بالتراث الويلزي وبالأخص موسيقاها ومخطوطاتها التاريخية
الشاعر هوز عمل لأكثر من ثلاثين عامًا في مكتبة ويلز الوطنية، كحافظ ومسئول ومحقق للمخطوطات

دانييل هوز شاعر ويلزي وإنكليزي في آنٍ واحد، ولد في لندن 1932 لأبٍ ويلزي وأمّ إنكليزية، ساهمت نشأته المتكوِّنة من ثقافتين كبريين، في جعله موسوعة فنية وشعرية وثقافية، وذلكم ما انعكس على شعره، وتجسّد في بلورة شعر مليء بهاجس التنوع، والتفرّد، والشغف بالمعرفة. وهذه المختارات التي ترجمها وقدم لها الشاعر والمترجم هاشم شفيق تحت عنوان "قطرة الصمت صارت بحيرة" لافتا إلى أن شعر هوز ينتمي إلى عالم واسع من التراث والفولكلور والتاريخ المتداخل في جزء منه، مع التراث الإنكليزي للمملكة المتحدة التي تضم أربعة بلدان متحدة، فويلز وشعبها ثنائي اللغة، يتكلم الويلزية والإنكليزية، فالديانة الأولى في البلاد الويلزية هي المسيحية، ذات الطابع البروتستانتي، وثانيها الديانة الإسلامية، فالشمال والغرب يتكلمان الويلش، أو الويلزية، وجذر هذه اللغة سلتي، غالي، والجنوب والشرق يتكلمان الإنكليزية.
ورأى أن قارئ هوز أنّى كانت هُويته وأرومته وتحدُّره، سوف يلاحظ ذلك الهارموني بين هاتين الثقافتين، والتماهي والاندغام والحلول في نسيج كليهما، ليصنع الشاعر في المحصّلة، صوته الخاص، والنبرة الغنية، والمعبأة بمٓدَيات الآخر، القريب منه، وليس البعيد والقصي، والمحجوب عنه وراء التخوم والـمٓدَيات البعيدة. 
وأضاف "ذلك أنّ الفوارق التي نتحدّث عنها، قد لا تجدها اليوم، لا في عالم الحياة العامة، ولا في حياة الشاعر، والفوارق هذه شبه ممحوّة، بين الثقافتين الآن، نتيجة تطوّر العلم، والوعي والتفكير، ونتيجة الحريات التي طفتْ على سطح الحياة الجديدة في العالم الأوروبي، ونتيجة التحرر الفكري، والعقلي، وطغيان مبادئ التنوير، لهذا نجد أن ذلك لا يمنع هذه البلدان المتحرّرة من سطوة بريطانيا العظمى كالشعب الويلزي، أنْ ينبذ الكولونياليات، والتفرّد بالشعوب الصغيرة والفقيرة والمجاورة، أو الحديثة ذات الثروات المادية والتاريخية والحضارية، كما هو شأن ويلز الغنية بالمعادن والثروات الطبيعية، المتجلية في كل ربوعها الخصبة، وشواطئها، وموانئها البحرية".
وقال شفيق في تقديمه للمختارات الصادرة عن مؤسسة أروقة أن هوز ينتمي إلى هذه الثقافة الإنكليزية المعاصرة، المتنوّعة، والمنفتحة، والغنية بتراثها ومكنونها الجمالي، فهو شاعر كبير، ومهتم بالتراث الويلزي وبالأخص موسيقاها ومخطوطاتها التاريخية، فلقد عمل الشاعر هوز لأكثر من ثلاثين عامًا في مكتبة ويلز الوطنية، كحافظ ومسئول ومحقق للمخطوطات، بكل ما تحتوي عليه من تاريخ، وثقافات، ومأثورات مختلفة ومتباينة، تمس الكيان الويلزي وثقافته عمومًا. 

عالم هوز الشعري يبهج بصوره، ومَشاهده، ورموزه، واستعاراته المأخوذة من واقع عيني، مأخوذة من طبيعة ملموسة، ومن أشياء تسيل في الأمداء، ومن غدير متدفق بالكائنات

جزء من التاريخ نلمحه في بعض القصائد، وجزء لا يستهان به يظهر في شعره، غبَّ تشرُّبه للطبيعة وجمالها الأخاذ في تلك البقاع الساحرة، والمثيرة للخيال، بلده بلد الشعراء، وأرضه تسمى بـ "أرض الأغاني" وسيرته الشعرية لا تخلو من تأثّره بشاعر أيرلندا العظيم ييتس، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، وكذلك هو شأنه مع شيموس هينه، جائزة نوبل أيضًا، ومن هنا أبدى ولعه في فصول كثيرة من أشعاره، بالطبيعة الفاتنة لتلك البلاد النائمة على سُهُب خضر، وعلى هضبات من الزهور لا تحصى، بلاد جبالها مرايا خضر، حوافّها مترعة بالشلالات، والنوافير الربانية، والغابات التي تغلِّف البلاد بطولها وعرضها. 
ولفت إلى أن الناقد الإنكليزي هوغو وليامز قال عن هوز إنه "شاعر متفرّد، لا يشبه أحدًا، وشعره شعر حساسية مؤثرة وحادة، في تدابيرها الفنية ومعالجتها الصورية للحياة، قصائد لها مستوى خاص، وشكل منفصل عابر للزمن. أما الشاعر تيد هيوز وهو أحد أقرب الأصدقاء إليه فيقول: شعر دانييل هوز، شعر شامل وكامل على جميع الصعد، وبخاصة على صعيد الإيقاع الموسيقي، وعلى صعيد الحس المولع بالإيقاع الإنساني كذلك، فهو شعر يتميّز بالبساطة المستمدة من تراث الشعب الويلزي، شعر إيقاعي وغنائي، وهذه النبرة غالبًا ما تذكِّرني بنبرة ييتس الشعرية.
وأوضح شفيق أن هوز درس في جامعة كامبردج كبرى الجامعات البريطانية، وحصل على علومه العالية في حقلي الأركيولوجي، علم الآثار، شهادة عليا إلى جانب أخرى في الأنثروبولوجيا، علم الاجتماع، فضلا عن حصوله على شهادة أخرى، تختص بعلم الأرشيف من جامعة لندن، وإلى ذلك فقد برع إلى جانب الشعر الذي كان حياته كلها، بتاريخ ويلز عامة، فحصل نتيجة ذلك عام 1992 على شهادة تختص بتاريخ ويلز، تاريخها في القرون الوسطى.
ورأى أن كتابات هوز غير الشعرية، انصبتْ حول الماضي الحضاري لويلز التي تعرّضت للاحتلالات الرومانية، ومن ثَمَّ البريطانية، وعلى مدى قرون سالفة، فهنري الثامن البريطاني ضمّها إلى بريطانيا منذ عام 1500، ولكنها تحرّرت، غير أنها وقعتْ مجددًا ضمن نطاق النير البريطاني، أي نطاق بريطانيا العظمى، إلى أن تحرّرت من جديد في مطلع العقد الثاني من الألفية الثانية، كالعراق بالضبط الذي تحرّر من النير البريطاني في هذا التاريخ. 
وبذا نجد الشاعر منغمسًا في تاريخه القلق سابقًا، يَدْرُسُه ويُدَرِّسُ ويُعلي من شأنه في دراساته وفي ترميم مخطوطاته التاريخية. ونتيجة لذلك الانكباب والانغماس والتبحّر، في تاريخ ويلز عامة، فقد أنجز الشاعر كتابًا مهمًا يتألف من ثلاثة أجزاء حول تاريخ ويلز الاجتماعي والثقافي والحضاري، ليكون بمثابة الهُوية المعاصرة للأجيال الويلزية الجديدة، ساندًا إياها بدعامة للمستقبل، وقد نال الشاعر على هذا الكتاب درجة دكتوراه علمية وعالمية. في ظل هذا النتاج الإبداعي والكتابي والشعري المنطوي على ثلاثة مجلدات شعرية، أنتج أيضًا كتبًا لافتة حول الموسيقى الويلزية التي تتميز بالغنى والتفرّد والأصالة.
وأشار شفيق إلى أن شعر دانييل هوز ينحو نحو الطبيعة، والأشياء والحياة بكل مناقبها وتحولاتها ومراميها الجمالية، والإنسانية، والكائناتية، وهنا يمكن حصرها في هذه الأنساق الثلاثة:
أولا؛ الطبيعة كهدف شعري: حقًا سيجد القارئ مراسم الطبيعة كيف تتجلى في شعر دانييل هوز، وكيف تنتسج وتتعشّق كالضفيرة في معمار قصيدته، فبلاده الغنائية، تؤهله لغزو الطبيعة، والتعريش بين جنباتها كطائر، أو كشاعر فلا فرق بين الطائر والشاعر، فالشاعر أيضًا يحلِّق، ويخفق بجناحيه، وينتهب الفضاءات والأجواء، ويخترق الآفاق البعيدة، ويغزو السماوات ناقرًا زرقتها، ومغرِّدًا فوق نجمة، أو شجرة، مانحًا الحياة نغمة أخرى، وصوتًا مختلفًا، وسحنة مميّزة، سحنة شاعرية، سيماؤها الغناء والترحُّل فوق عالم غابيّ، تحتله الأشجار وتتزوّجه الأنداء، وتدمغه الأهواء، والأرياح العذبة، والأماليد الفيروزية التي تنزُّ بالرحيق، والشهد فوق أرض ثريّة بالماء. هذا الذي أرويه هو الحقيقة بعينها، ذلك أن المرء، حين يشاهد الأرض الويلزية المعشبة على الدوام، والعسلية طوال الوقت، والندية بعمق لا يضاهى، سيغبط ساكنها، لأنه يسكن أرض الغناء:
هي ذي حقولُكَ
مجروفةٌ بالثلوج، 
إنسَ الذهاب إلى الهضبة، 
فمنظر الهلال
بدا كالمتزحلق فوق البحر، 
عُدْ إلى البيت
وتدفَّأْ بأنفاسِ ماشيتك التي بصَمَتْ
خشبَ البوَّابة.
يستنزح دانييل هوز من خزانة الطبيعة، جواهره الشعرية، ساعيًا في الوقت ذاته، إلى رسم صورته الذاتية هو بين مشاهد الطبيعة، وصورها المائجة، وهي تتدفَّق بالرؤى السيميائية، فـ "حقولك مجروحة بالثلوج فأنسَ الذهاب إلى الهضبة، وعد إلى البيت وتدفَّأ بأنفاس ماشيتك" تلك التي تركت دمغتها البخارية على خشب بوابة منزلك الريفي". هنا الطبيعة تمنح الشاعر هيئات موازية له، هو الريفي والشاعر، ابن الطبيعة المدلل، الابن الحالم بالأكوان البريئة، والبكوريّات الأولى، ولنقرأ معًا ماذا يقول في قصيدة " طريدة " 
"السكون تبعثرَ، 
وسط متاهاتٍ
من نباتات الوزّال
وشرائحَ للصخور".
ها هي ذي الطبيعة الأخاذة، تهبه مثالها، وجوهرَها، وتمنحه الإكسير لكي يحيا في هذه المتاهة الخضراء، سارحًا، منعّمًا بالهدأة التي تنزل عليه كملاك، وهو سادر في هذه الجنان الأرضية، يتلقى الآيات، والمزامير، والأناشيد، والعطايا السحرية من لدنّ الخليقة وكرمها الباذخ. 
ثانيا؛ شبكة الأشياء: يتقصى الشاعر بحدسه الشعري، والفني، والجمالي، مُناخات العذوبة والنشوة، والرغاب المسفوح بين الأشياء، فهي عناصر بنائية لمعمار قصيدته المتعالية في سماء من اللغة الصافية، سماء السلاسة، والرقة، والهشاشة الكامنة في نسيج الأشياء، وشبكتها المنتسجة، تلك الملتفة ما بين الأشياء، والطبيعة، والكائنات الرخوة والشفافة، وهي بذلك لم تكن قصيدة وصف، بل قصيدة كشف، وتقدم في المجهول والغامض، ومن هنا تغمَض بعض الأبعاد في القصيدة، وهو الغموض الشفيف المحمول على موجة من الصفاء، والجلاء، والضوء المصبوب في الجهات الأخرى من القصيدة:
"ما كان الماءُ وفيرًا
ولا الخبزُ مديدًا، 
إنما كانت هناك
قشورُ رغيفٍ
وقنينةُ ماء"
تبنى قصيدة "إنها ثلاثة" من مفردات الماء والخبز وقشور ورغيف، قصيدة في منتهى الصدق والعفوية والبراءة التي تطبع الشعر غير المتكلف، الشعر المُحدِّق في الأشياء، وشبكتها الواسعة، المطلة على شغفٍ مأخوذٍ بالحياة، وتجليها في كل شيء صغير، وبسيط وغامض، وهذا لعمري هو جوهر الشعر وإكسيره الأبدي.
ثالثا؛ جمهرة الكائنات: للكائنات في قصيدة دانييل هيوز منزلة كبرى، تنضاف إلى الأبعاد التي سلف ذكرها، والكائنات هنا تموج في مروحة متداخلة ومتشعّبة، من العناصر الموحية، لبناء وتشيّيد القصيدة الهُوْزِية إنْ صح التعبير، كائنات ترتع في جو القصيدة، وتنشد موالها وغايتها وكورسها، كقوله: "غادرت الشمسُ السماءَ مرة ثانية، تجاه كورس الخبز والماء". إذَن يعلو الكورس في قصيدة هوز ويتصاعد النشيد الثلاثي الأبعاد، في صيغته البوليفونية، عاليًا ممجدًا الكينونة والطبيعة، والكائنات، والأشياء وهي تسعى في الكون، لتكوِّن الكورال الشعري المُجسَّد في نواتها، ونواة الحياة، وهي تمرح بين كل هذ التجلي للكون، المصبوب في ساقية طويلة تموج بالكائنات، وليس لها من نهاية، ولكنها تصب في مجرى الأبدية:
"أزهار المنتور البحرية 
في الجيب
ووردُ القرنفل الأبيض
في شقِّ صخرة
في الأسفل
ثمة إكليل من الطحلب البحريِّ
وبقعة رملٍ 
مغسولةٍ ونظيفة ".
وأضاف شفيق أن عالم هوز الشعري يبهج بصوره، ومَشاهده، ورموزه، واستعاراته المأخوذة من واقع عيني، مأخوذة من طبيعة ملموسة، ومن أشياء تسيل في الأمداء، ومن غدير متدفق بالكائنات، تلك التي تجعل الحياة قابلة على الابتسام، والعيش، والمرح، وتَقبُّل حتى المأساة القادمة منها، كونها بالآخر هي حياة، وعلينا أن نعيشها كما تبدو وتلوح، لأنّ قطرة الصمت حقًّا صارت بحيرة.

شعر
عندي المزيدُ من الطيورِ التي لا أعرفُ أسماءها

نماذج من المختارات:
موعد
سيدتي
الموعد ينبغي أنْ يكون اليومَ
وليس غدًا، 
فالغد يعني لي
بعد ثلاثينَ عامًا، 
كمن يمزجُ 
جوهرَ الوقت ليقطرَه/
وبذا
كم من صلوات
عشيّة العيد
سنوفي للمخَلِّص،
وكم من المثيرِ
أنْ نكونَ غافرينَ
ومُصْفِحينَ، 
خلال تلك الأعوام، 
لعلنا نحلّقُ
في الآخر، 
وما علينا
إلا أنْ نتخيَّلَ المزيدَ، 
حتى لو كنّا
متزعزعينَ
قلقينَ، 
فالحياةُ في الآخر
هي كيف سنغدو
وكيف سنكون؟

باليه الحب

قاعةُ الأوبرا
وصلت الذروة
حين أضيئت الصالة، 
كانت مكتظةً
والكلُّ يُغمْغِمُ
ويندفعُ بقوَّة
لحظة الإستعراض، 
ثمة شيءٌ يدورُ
مثل قدحٍ
في الهواء، 
هواءُ الإنتصار، 
في الظلِّ هناك...
جوار محيطِ الرؤوس القلقة، 
تُرى سيدةٌ
وعبر موسيقاها، 
وهي في مكانها، 
تُرقِّصُ طفلها، 
تهدهدُهُ
لكيما ينام.

هروب

عليكَ
أنْ تسيرَ 
في المساءِ المضيءِ، 
بقدمينِ منهكتينِ، 
وأدهشنا بالمسرَّة، 
اعبرْ دروبَ البستان
حيثُ شجراتِ الكرزِ 
الخضراءِ المثقلةِ الحبّاتِ، 
وهناك خلف الجادةِ،
مُرْ 
بدكاكينِ الحلاقينِ التي تفوحُ بالعطورِ، 
فالنوارُ هناكَ يورقُ
ويفورُ برغوةٍ بيضاء...
سوف لن يكونَ
هنالكَ ليلٌ، 
وأنتَ تغذ الخطى
في الغابةِ، 
هذي التي تبدو كأنها بيتكَ، 
فثمة شجراتُ البتولا
والبلوطِ
وثمراتُ الحقيقةِ
بأوراقها المتساقطةِ
ذات العمق الداكنِ الأخضر، 
هذا العمق الذي يبدو 
مثل ستائرَ ممتدَّةٍ وكثيرة...
حيثُ كان عندي المزيدُ
من الطيورِ التي لا أعرفُ أسماءها.