درس من الحرب في أوكرانيا

الأحلام القومية باستعادة الماضي الامبراطوري قد تكون أخطر على البلاد من أي توجه سياسي – فكري آخر.
أليس لدى الناتو قواعد في تركيا المجاورة لروسيا منذ أمد بعيد
لا أحد يصدق أن اوكرانيا بقوتها المحدودة كانت بصدد الهجوم على روسيا أو تهديدها

لم ينقشع بعد غبار المعارك في أوكرانيا عن المنتصر فيها والمهزوم، ومن السابق لأوانه بناء الأحكام حول تلك الحرب التي ما تزال نيرانها تتأجج وتنذر بحريق يتجاوز حدود أوكرانيا إلى أوربة، ويتجاوز استخدام الأسلحة التقليدية إلى أسلحة الدمار الشامل، ومع ذلك فربما كان بالإمكان اليوم استخلاص بعض الدروس من تلك الحرب الكبرى التي فاجأت أوربة والعالم، وأحدثت صدمة أيقظت الأجيال التي كانت تظن أن زمن الحروب قد انتهى في أوربة، وأن الغرب يمكن أن ينام مطمئنا حين تلتهب الحروب في أماكن بعيدة عنه في الجغرافيا والثقافة وحتى في الأعراق.

أحد تلك الدروس المرتبطة بالفكر والسياسة هي أن الأحلام القومية باستعادة الماضي الامبراطوري قد تكون أخطر على البلاد من أي توجه سياسي – فكري آخر.

لقد أصبح واضحا اليوم أن الدافع الرئيسي لحرب روسيا - بوتين لم يكن بسبب وجود خطر حقيقي يهدد البلاد، ولا أحد يمكن أن يصدق أن اوكرانيا بقوتها المحدودة التي لا تقاس بالقوة العسكرية الروسية كانت بصدد الهجوم على روسيا أو تهديدها، ولنفرض أنها دخلت في حلف الناتو، وأن الناتو قد جلب لأوكرانيا صواريخ يمكن أن تهدد موسكو، أليس لدى موسكو الرادع النووي والصاروخي الذي قيل إنه قادر على إغراق الجزيرة البريطانية خلال دقائق وتدمير أوروبا وأميركا؟

أليس لدى الناتو قواعد في تركيا المجاورة لروسيا منذ أمد بعيد، وكثيرون يتذكرون حين اشتعلت أزمة الصواريخ الكوبية وانتهت باتفاق بين أميركا وروسيا على ازالة الصواريخ السوفيتية من كوبا مقابل ازالة الصواريخ الأميركية المنصوبة في تركيا.

أليس لدى بوتين من لعبة سياسية يمكن أن يضغط فيها على الغرب لوقف زحف الناتو إلى جواره باستخدام أوراق اقتصادية وسياسية وعسكرية متعددة يمتلكها سوى شن حرب شاملة على أوكرانيا لاحتلالها والقبض على حكومتها "النازية" وفرض حكومة صديقة وتابعة بعد تدمير كل المقدرات العسكرية للبلاد حسب الأهداف المعلنة بداية الحرب؟

كلا، الأمر بلا شك يتجاوز الأخطار المحتملة من توجه الحكومة الأوكرانية نحو الغرب ولايمكن تفسير شن مثل تلك الحرب الشاملة التي جندت لها روسيا خيرة القيادات العسكرية ونخبة الجيش الروسي وأحدث أسلحته ومئات ألألوف من المقاتلين، بخطر داهم يحيق بروسيا، بالتالي لابد من وجود عامل آخر قام بتضخيم خطر التوجه الأوكراني نحو الغرب، وجعله عذرا ومبررا في خدمة استراتيجية أبعد ترتبط بحلم روسي في استعادة الامبراطورية التي فرط بها البلاشفة، وكان من جملة أخطائهم الكبرى منح الاستقلال الذاتي لأوكرانيا وضم أقليم الدونباس الروسي اليها كهدية أو رشوة للقوميين الأوكران. ثم جاء خروتشوف الأوكراني وفصل شبه جزيرة القرم عن روسيا وألحقها بأوكرانيا، وسبق أن ألحقت بأوكرانيا أيضا أراض كانت ضمن بولندا بعد الحرب العالمية الثانية حين تم رسم الحدود في اوروبا في ضوء نتائج الحرب.

وفي حين تحدث أستاذ بوتين ومعلمه وملهمه المفكر الروسي دوغن بصراحة تامة وبتفصيل عن روسيا الكبرى التي تضم أوكرانيا وبيلاروسيا ودولا أخرى في الغرب، وتخضع لهيمنتها المباشرة آسيا الوسطى التي خرجت من رحم الاتحاد السوفييتي ثم بدأت تتدرج في الإنفلات من القبضة الروسية والتوجه نحو الغرب، فإن بوتين أيضا لم يخف حلمه باستعادة الامبراطورية الروسية وبالتالي إجبار الغرب على الاعتراف بروسيا العظمى كقطب عالمي شريك للغرب في الهيمنة على العالم.

ومثل ذلك الحلم يتطلب استعمال القوة حال الاستغراق فيه، ويتحول من مجرد حلم إلى عقيدة تستحق التضحية مهما عظمت، فالغاية هنا كبيرة وسامية وأية تضحية في سبيلها تهون وترخص.

لكن الوقائع أثبتت أن الاستغراق في مثل تلك الأحلام يمر عبر إهمال طبيعة العصر وحقائقه المستجدة، فالحالم هنا حين يستغرق في النظر للماضي لا يدرك أن مياها كثيرة قد مرت في النهر، وأن حقائق جيوسياسية تشكلت وترسخت بحيث تجعل أي مشروع لاستعادة الماضي بالقوة مشروعا مفتوحا للانتحار الذاتي. وعلى سبيل المثال فالشعب الاوكراني لم يستقبل الفاتحين السلافيين الروس بالورود، ولم تخرجت المظاهرات لتطلب ضم أوكرانيا لروسيا ومحاكمة الحكومة الحالية ذات التوجه الغربي، لكن الشعب الأوكراني استقبل الجيش الروسي بالرصاص، وأظهر اتحاده حول مقاومة الروس الذين اعتبرهم مجرد غزاة ومحتلين.

فما أهمله الحلم الامبراطوري هو ذلك المسار الطويل للشعب الاوكراني منذ الحرب العالمية الثانية والذي ترسخت فيه هويته الوطنية المستقلة بحيث أصبح من شبه المستحيل القفز فوقها لإقناع الأوكرانيين بالاتحاد ثانية في روسيا الكبرى.

وهذا مثال حي يظهر مدى خطورة الإستغراق في حلم استعادة أمجاد الماضي الامبراطورية التي اندرست ونشأت فوقها وقائع راسخة لايمكن تغييرها سوى بالتدمير الشامل أو الانتحار.

والسؤال الآن: هل بوتين فقط متورط بحلم استعادة الماضي الامبراطوري؟

وهل سيستيقظ أصحاب الأحلام الامبراطورية الآخرون من حلمهم بعد الهزيمة المدوية لحلم دوغن – بوتين. أم أن الأحلام الإمبراطورية الأخرى ستمضي لتقع في الهاوية ذاتها قبل أن تستيقظ الشعوب التي تدفع غاليا ثمن تلك الأحلام.