"دروب الريح" مختارات لكبار الشعراء العالميين

المختارات التي ترجمها الشاعر والروائي محمد علي اليوسفي تنفتح على جماليات النص الشعري في تألق أفقه وخصوصية نسيجه.
كل مختارات تبقى ناقصة، لأنها إلى ظل تتكئ، تحت برج الاختيار
الشاعر غارس، والقارئ بستاني ظروف. وكما يختلف غارس عن غارس، يخوننا أكثر من بستاني

تنفتح المختارات التي ترجمها الشاعر والروائي محمد علي اليوسفي - وضمت قصائد لعدد من كبار الشعراء "أوكتافيوباث، خورخي لويس بورخيس، رينيه شار، بيار إيمانويل، أوجين غيللفيك، ألان بوسكيه، ياروسلاف سيفرت، جورج سيفيرس، أوديسيوس إيليتيس، يانيس ريتسوس" - على جماليات النص الشعري في تألق أفقه وخصوصية نسيجه لدى هؤلاء الشعراء الذين أثروا التجربة الشعرية العالمية وانعكس ثراءهم على الشعر.
يقول اليوسفي في تقديمه التي تحمل روح الشعر ووهجه للمختارات التي صدرت عن دار خطوط وظلال الأردنية "كل مختارات تبقى ناقصة، لأنها إلى ظل تتكئ، تحت برج الاختيار. وما من حاجة إلى حيرة ها هنا: ما الاختيار؟ فكل مختارات هي انحياز. لكن ما يشفع يبقى. أن تختار يعني أنك أمام أكثر من وردة ولون ورائحة وإقليم.. وأن تنحاز يعني أن وراء يديك المضمومتين تراكما للدهشة.. وللعثرات أيضا". 
ويضيف "الشاعر غارس، والقارئ بستاني ظروف. وكما يختلف غارس عن غارس، يخوننا أكثر من بستاني: ففي البدء كانت الزهرة. ثم جاء البستاني (الخائن) ذلك الذي سماه العالم، على لسان الوردة، ترجمانا. لكن.. ماذا نسمي القارئ الآخر؟ ذلك الذي لا يتجول أو لم يتح له أن يتجول في كل الحقول؟ هل يكتفي بأريج، يعود به بستاني الريح والرحيق في طيات ثيابه؟ هل يكتفي بريح، جابت الثنايا، وجاءت إليه؟".
ويختم اليوسفي "ما يبقى يشفع؛ وأمام الذي لا يرضى لنفسه بالقليل: قد تهب الريح؛ عائدة إلى الأقاصي، فتأخذه معها، من البساتين الأهلية، إلى مجاهل أخرى، تينع في العزلة، منتظرة خطى "العابر الكبير بنعال من ريح".

نماذج من المختارات
أوكتافيوباث

** هنا
خطايَ في هذا الشارع 
تدوي
في شارع آخر
وهناك
أسمع خطايَ
تمر في هذا الشارع 
حيث وحده الضباب حقيقي.

** يقين
إذا كان حقيقيا هذا النور الأبيض
المتدفق من هذا المصباح، حقيقية 
اليد التي تكتب، فهل هما حقيقيتان
العينان اللتان تنظران إلى ما هو مكتوب؟
من كلمة إلى أخرى
ما أقول يتلاشى
أعرف أنني أعيش بين قوسين.

** لمس
يداي تفتحان ستائر كيانك
تُلبسانك عريا آخر
تكتشفان أجساد جسدك
يداي
تبتكران جسدا آخر في جسدك

** تكامل
في جسدي تبحثين عن الرابية،
وشمسها المدفونة في الغابة،
في جسدك أبحث عن المركب
جانحا في ظلام الليل.

خورخي لويس بورخيس

** يوم سبت
رجل أعمى في بيت خال
أتعبته الاتجاهات المحدودة.
يتلمس الجدران الممتدة،
زجاج الأبواب الداخلية
وأغلفة الكتب الخشنة،
الممتنعة عن حبه،
والأواني الفضية المطفأة،
حنفيات الماء، وزينة الأثاث الناتئة،
القطع النقدية الغامضة والمفتاح. "

Poetry
ألان بوسكيه

إنه وحيد. وفي المرآة لا أحد. 
يذهب ويجيء. يده تلامس حافة الرف الأول
في الخزانة. ومن دون أن يفكر
يتمدد على سريره الوحيد
ويحس بأن الأفعال التي يقوم بها
بلا انتهاء، في غسق عمره،
تستجيب للعبة غير مفهومة
يديرها إله لا تفك له رموز.
يكرر بإيقاع عال
مقاطع كلاسيكية، يجرب أنواعا
من الأفعال والصفات،
ويكتب بنجاح أو فشل، هذه القصيدة.

** شكلان للأرق
ما الأرق؟
السؤال متكلف، وأنا أعرف الإجابة جيدا. هو الخوف من أجراس الغيب القاسية وعدُّها في الظلام العميق، هو محاولة التنفس المنتظم بسحر عبثي، هو ثقل الجسد الذي يغير مكانه متقلبا فجأة، هو إغلاق الجفنين، هو حالة تشبه الحمى التي ليست أرقا بالتأكيد، هو ترديد فقرات سبقت قراءتها منذ أعوام عديدة، هو الإحساس بذنب السهر بينما ينام الآخرون، هو إرادة الاستغراق في الحلم وعدم القدرة على الاستغراق في الحلم، هو هول الوجود ومواصلة الوجود، هو الفجر المريب.
ما التقدم عتيا في السن؟
هو الهول من الوجود في جسد بشري تضعف ملكاته، هو أرق يقاس بالعقود لا بالعقارب المعدنية، هو ثقل البحار والأهرام، المكتبات القديمة والمماليك، مطالع الفجر التي شاهدها آدم، هو ألا أجهل بأنني محكوم بجسدي، بصوتي الكريه، باسمي، برتابة الذكريات، باللغة القشتالية التي لا أجيد التحكم فيها، بالحنين إلى اللاتينية التي لا أعرفها، بإرادة الاستغراق في الموت وعدم القدرة على الاستغراق في الموت؛ الوجود ومواصلة الوجود.

رينيه شار

** مد وجزر
هل تخلت الأرض والسماء عن مفاتنهما الموسمية، ومماحكاتهما البارعة؟ هل استسلمتا؟
يبدو أنه ليس لهذه أو تلك، حتى الآن، مشاريع لهما، وسعادة لنا.
يستيقظ غصن على كلمات المصباح الذهبية، غصن من ماء سئ، فرع بلا مستقبل. يتشبث به النظر، يسافر. ومن جديد يذوي كل شيء، يصبر، يتأرجح ويكابد. نبتة "الأقنثا" تتظاهر بالموت، لكننا في هذه المرة، لن نسلك الدرب سوية.
الحبيبة خلف بابي؟

** الحرية
جاءت عبر ذلك الخط الأبيض الذي يمكن أن يدل على منفذ الفجر كما على شمعدان الغسق.
عبرت الاضرابات العفوية، عبر الذرى المطعونة.
وكانت نهاية الوشاية ذات الوجه الخسيس، وقداسة البهتان وكحول الجلاد.
لم تكن كلمتها كبشا أعمى، بل اللوحة التي ارتسمت عليها أنفاسي.
بخطوة لا يرتبك اتجاهها سوى خلف الغياب، جاءت، إوزة على الجرح، عبر ذلك الخط الأبيض.

أوجين غيللفيك

** أشياء
1 ـ كانت الخزانة من خشب السنديان
ولم تكن مفتوحة
ربما سقط منها موتي
ربما سقط منها خبز.
الكثير من الموتى 
الكثير من الخبز.

2 ـ أيتها الصحون الخزفية المستعملة
التي ذهب عنها بياضها
جئت جديدة إلى بيتنا.
لقد تعلمنا الكثير
خلال هذا الزمن.

3 ـ زجاجتان فارغتان
في زاوية من تسقيفة البيت.
الريح تهز القرميد
وعوارض الخشب.
زجاجتان خضراوان
يجذبهما مركز الأرض
ويمسك بهما الضوء.