دفتر شروط "لبنان الكبير الجديد"

من الآن حتى الوصول إلى مؤتمر دستوري، علينا تشكيل حكومة.
لبنان كان بين المحيط والخليج فإذا به بين مجرى وساقية
الحالة المواطنية استثناء في لبنان وهي القاعدة في العالم
ثلاث حالات تقترب من لبنان: الفراغ أو السيطرة أو التقسيم

لا يختلف لبنانيان على ضرورة تطوير النظام، لكن جميع اللبنانيين يختلفون على تعريف النظام الذي يريدون تطويره، وعلى توقيت إطلاق هذه الورشة المفعمة بالمغامرات والمفاجآت. نحن نعيش في ظل نظام ديمقراطي برلماني لا غبار عليه، وفي ظل صيغة تعايش مسيحي/إسلامي نموذجية، وفي ظل ميثاق وطني رعى النظام والصيغة. عاش لبنان مراحل نشوئه واستقلاله واستقراره على ثلاثية النظام والصيغة والميثاق. لم تكن الديمغرافيا معيار هذه الثلاثية بل الشراكة. وكانت الخلافات ذات طابع قومي مستقل عن الديمغرافيا. وكانت التعددية والفدرالية واللامركزية، حتى السبعينات الماضية، مفردات غريبة عن قاموسنا السياسي والدستوري. كان العدد تعبيرا حسابيا لا وطنيا. وكانت الوطنية تختال بين اللبنانية والعروبة.

كان للفكرة اللبنانية فلاسفتها، تعجب بهم وإن لم تقتد بفكرهم. وكان للعروبة روادها، تندهش بهم وإن لم تؤمن بعقيدتهم. كان الصراع بين عظماء. وحين وجدنا الـملتقى، ترنحت الفكرة اللبنانية وهوت العروبة. صرنا يتامى الكيان والقومية والفلاسفة والرواد والعظماء. كنا بين المحيط والخليج، فإذا بنا بين مجرى وساقية.

أتذكر هنا كتابا قرأته منذ عشر سنوات: "رجل بلا قيم" للكاتب النمساوي روبرت موزيل Robert Musil (1880-1942)، يصف فيه واقع الإنسان الأوروبي بعد الحرب العالمية الأولى، وقد أضاع قيمه القديمة وتاه في عالم لم يولد بعد بانتظار حرب جديدة. والضياع في مثل هذه الحالات التاريخية يـجر ضياعا آخر فآخر إلى أن يطال جميع مقومات الحياة. غير أننا في لبنان، ولـجنا هذه الحال من دون ضياع لأن الذين يقوضون جميع مقومات الحياة كاملو الوعي.

حين كنا مواطنين لم ندر وظننا أنفسنا أبناء طوائف فقط. ولما بـتنا أبناء طوائف فقط راودتنا العودة مواطنين. لكن التاريخ لا يرحم من يسيء تقدير النعمة والنعيم. الحالة المواطنية استثناء في لبنان، وهي القاعدة في العالم. والغريب أن "تطوير" النظام يتجه نحو مزيد من الطائفية عوض مزيد من المدنية (بالمعنيين)، ويعيدنا إلى عصور الخلافة عوض الرسوخ في رحابة الجمهورية. هذا يؤكد أن غاية البعض هي السيطرة على البلد وليست تحديث النظام. يوم يصبح العدد والطائفة معيار التقدم تموت الحضارة. وحين يصبح تطوير النظام انتزاع الحكم تولد الحرب الأهلية. أكلما وضعت أم مولودا نغـيــر النظام والصيغة؟ أكلما تعدل سجل النفوس نعدل سجل الوطن؟ هذا منطق الغزوات وليس منطق الأوطان.

الحقيقة أن بعض الذين يطالبون بالتغيير الدستوري يرمون إلى توسيع سلطتهم في إدارة الدولة لا إلى تحسين الدولة. ولأن كل توسيع يتم على حساب مساحة ما أو طرف ما، لا نرى فائض سلطة لدى أي طرف لبناني لكي يتنازل عن جزء منها. والخشية ألا يجد الباحثون عن فائض سلطة مبتغاهم الدستوري في إطار الدولة القائمة فيعبثون بأسسها. بتعبير آخر، لا يبقى سبيل لتغطية الديون الدستورية المزعومة سوى الـمس بالرصيد الـمجمد أي: الكيان. المطلوب اليوم أن تتنازل الطوائف للدولة لا الدولة للطوائف، وأن يحضن الطرفان المواطنين الباحثين عن دولة مدنية. فدور المواطن هو الغائب في دولة لبنان.

منذ عقود، والطوائف اللبنانية تسعى إلى تعديلات دستورية، واحتكمت إلى السلاح وقوى خارجية لإقرارها أو للحؤول دونها. وفيما اعتبرت فئات متعددة الطوائف أن "اتفاق الطائف" هو خاتمة التعديلات، تطالب فئات أخرى متعددة الطوائف أيضا ببدء تعديلات جديدة. لكن المشكلة أن فريق المطالبين بالتعديل ليسوا متفقين على البدائل وحدود التعديل وشكل النظام وهوية الجمهورية، كما أن أنصار اتفاق الطائف ما زالوا منذ ثلاثين سنة يخفقون في تقديم أوراق اعتماده إلى الشعب اللبناني وإقناعه بأنه صالح للتطبيق الحسن. لذلك، بين تعديل يـمس بالكيان وآخر يطيح الطائف، بدأت تبرز طروحات اللامركزية الموسعة والفدرالية. وما عزز هذه الطروحات أمران:

1) كون الاختلاف لا يقتصر على صلاحيات المؤسسات الدستورية، بل يشمل أنماط حياة المجتمعات اللبنانية وثقافاتها. مشوار بالسيارة يختصر التعددية المجتمعية المتناقضة.

2) كون توزيع السلطة المنتظر لا يقتصر على إعطاء دور أوسع لبعض الطوائف، بل يمنح دولا خارجية دورا شريكا في حكم لبنان ونظامه وشؤونه الاستراتيجية والتفصيلية بسبب تعدد ولاءات هذه الطوائف.

بقدر ما إعادة النظر في وجودنا الدستوري والمجتمعي هي حاجة دورية طبيعية تنهجها جميع الشعوب، هكذا اختلاط الطموحات الداخلية بالأطماع الخارجية يجعل التورط حاليا في ورشة تعديل النظام أمرا خطيرا للغاية قبل تأمين شبكة حماية للكيان والشراكة الوطنية. إذا ترك اللبنانيون وحدهم الآن يخوضون معركة تغيير الدستور سيدفعون بلبنان إلى ثلاث حالات: الفراغ، أو السيطرة، أو التقسيم. لذلك، ونحن المطالبين بالحياد واللامركزية الموسعة والدولة المدنية، نؤمن أن إعادة النظر بوجودنا الدستوري يتطلب مسبقا ما يلي:

تعطيل مفعول السلاح غير الشرعي، وتحديدا سلاح حزب الله، عن أي مفاوضات سياسية للبحث بمصير لبنان وجودا ودورا ودستورا وشكلا كيانيا. لا وطن بالإكراه.

الاتفاق بين اللبنانيين على حسم مصير وجود اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين، بحيث يعاد انتشار اللاجئين على دول أخرى، وعودة النازحين إلى سوريا. فلا لبنان واحدا مع شعبين إضافيين. صراحة ما بعدها صراحة.

رعاية دولية مباشرة ورسمية للمفاوضات بين اللبنانيين بحيث تضمن الأمم المتحدة والدول الكبرى "لبنان الكبير" الجديد. فالضمانات الداخلية ناقصة ومرحلية ومخادعة استنادا إلى التجارب السابقة. وأصلا، منذ القرن السابع عشر، جميع الاتفاقات التاريخية بين المكونات اللبنانية نتجت عن قرارات دولية أو رعاية دولية.

ومن الآن حتى الوصول إلى مؤتمر دستوري، علينا تشكيل حكومة؛ وإذا لم نكن قادرين على تشكيل حكومة، وهو عمل روتيني، فكيف لنا أن نغير النظام، وهو حدث تاريخي؟ والخوف أن يكون دستور "الطائف" آخر تعديل دستوري يحصل من ضمن الكيان اللبناني.