دلالات أفعال الحركة في المسرح الشعري عند الشرقاوي

الدراسة الحائزة على الدكتوراة للباحثة جيهان بركات تستمد أهميتها من أهمية عبدالرحمن الشرقاوي كاتبا متعدد المجالات اتسم بالإخلاص والأصالة والجدة والدفاع عن الحق.

تأتي أهمية هذه الدراسة "دلالات أفعال الحركة في المسرح الشعري عند عبدالرحمن الشرقاوي.. دراسة أسلوبية / مسرحية الفتى مهران أنموذجا" والتي نالت بها الباحثة جيهان بركات على درجة الدكتوراه من قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة المنصورة، من أهمية عبدالرحمن الشرقاوي كاتبا اتسم بالإخلاص والأصالة والجدة، فبالرغم من تعدد المجالات الأدبية التي أبدع فيها، إلا أنه قد جعل غايته في كل منها الدفاع عن الحق، وعن الحقيقة، وعن الإنسان وحريته في كل زمان ومكان. إلى جانب أهميته في مجال المسرح الشعري خاصةً، إذ كان صاحب النقلة المؤثرة من المسرح الكلاسيكي (شوقي وأباظة وغيرهما) إلى مَن بعده؛ حيث قوّى حركة انتقال المسرح إلى الشعر الحر.

تقول بركات "الشرقاوي أحد أهم الكتَّاب متعددي الإسهامات في الثقافة المصرية والإبداع العربي؛ حيث أبدع في مجالات عدة قلَّما جمَع بينها أديب واحد. فقد كتب الشعر، والقصة، والرواية، والمسرحية الشعرية، والتراجم والسيَر الإسلامية، وكان متفرِّدًا في كلٍّ، إلا أنه كان من أكثر الشعراء الذين كتبوا المسرحية الشعرية في فترة الستينيات وما بعدها، وكان رائدًا في هذا المجال؛ حيث إنه أول من رسّخ لشعر التفعيلة في كتابة المسرح، بعد محاولة علي أحمد باكثير بترجمة مسرحية "روميو وجولييت"، ثم بتأليف مسرحية "إخناتون ونفرتيتي".

وتلفت أن المَلمح الغالب على مسرح الشرقاوي الشعري أنه مسرح سياسي ووطني في الوقت ذاته؛ حيث إنه يستلهم الأحداث التاريخية ليسقطها على الواقع السياسي المعاصر له. وتتسم مسرحياته كلها بالوطنية، والثورية، والمقاومة، على المستوى الاجتماعي، والوطني، والقومي، كما تتسم بالاستبصار التام للعصر، والالتزام المبكر بقضايا التقدم الاجتماعي. أما أبطاله فكانوا ينبضون حرارةً وأسًى ورغبةً في التحرر والعدالة والمساواة.

وترى بركات أن المستعرض لعناوين مسرحيات الشرقاوي الشعرية (مأساة جميلة، الفتى مهران، النسر الأحمر، وطني عكَّا، عرابي زعيم الفلاحين، الحسين ثائرًا، والحسين شهيدًا)، يتبين له ما تحوي من حياة وحركة ورغبة في الحرية؛ لذلك فحين قراءتي هذه المسرحيات التي تدور كلها حول الثورة والجهاد، لفتَني هذا الملمح الحركيّ فيها؛ حيث المقاومة، والبطولة، ورغبة الشعوب في التحرير. وهذا ما أثار شغفي لدراسة دلالة أفعال الحركة -تحديدًا- في هذا المسرح الشعري الذي يفيض حركةً وحياة، عبر شخصياته المفعمة بروح الثورة والبطولة والكفاح والجهاد.

وتؤكد أن الحرية في القالب الذي اتخذه الشرقاوي لإبداع مسرحياته الشعرية، تناسبت مع روحها الحرّ المفعم بالحيوية. وكل ما في هذه المسرحيات من حركة، دفعني إلى البحث في أسلوبية الشاعر عبر دراسة دلالات أفعال الحركة في نسيج العمل. ولأن اللغة نظام محكم البناء أساسه الكلمة، ولأن الكلمة هي المنطلق الرئيس لأشهر النظريات الدلالية؛ حيث انصبّ اهتمام اللغويين على الأثر الدلالي (المعنى) الذي تحدثه الكلمة، ولِما لـ (الكلمة) كذلك من أهمية في فكر الشرقاوي وعقيدته «... الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور»؛ لأجل ذلك كله اخترتُ إحدى الوحدات المشكِّلة للنظام اللغوي، وهي (الفعل)، وخصصت (الفعل الحركي) دون غيره؛ لما أشرتُ إليه من قبل من حركة وحيوية في مسرح الشرقاوي الشعري.

وتوضح أن الدراسة اتخذت مسرحية "الفتى مهران" أنموذجًا لمسرح الشرقاوي الشعري، وكان مصدرها في ذلك: نسخة دار الشروق، ط 2، 2018م، بتقديم د.أحمد عبد الرحمن الشرقاوي، مارس 2007، وعدد صفحاتها: (216) مائتان وست عشرة صفحة. وقد انتهجت المنهجَ الوصفي، مستخدمةً آليات الإحصاء والرصد والتحليل والاستنباط. فبعد استخراج أفعال الحركة الواردة في المسرحية، صنفتُها مجموعاتٍ بحسب الحركة الدالة عليها، ثم درستُ كل فعل على حدة. وكان منهجي في دراسة الفعل هو أن أذكرَ دلالته الواردة بالمعاجم، مع ذكر آية من القرآن الكريم، أو بيت شعر يرد فيه؛ لتبيُّن دلالته الحركية، سواءً أستُخدمَ استخدمًا حقيقيًّا أم مجازيًّا، ثم أُحصي صورَ الفعل الصرفية التي وردت في المسرحية، بدءًا بالماضي فالمضارع فالأمر، ثم أعرض لبعض شواهده في النص وأحلَّلها، ثم أعقب ذلك كله بعرض لأهم ملامح الفعل الدلالية.

جيهان بركات
'مسرح سياسي ووطني في الوقت ذاته' يغلب على مسرح الشرقاوي

بعد مقدمة عرضتُ فيها بركات للموضوع وحددت منطلقات الدراسة ومسالكها، قسمت الدراسة ثلاثة أبواب، تضمنت عددًا من الفصول والمباحث. وأتبعت بركات ذلك ببيان بعدد أفعال كل مجموعة، وأنشأت جدولًا لكل فعل، ذكرت فيه صيغه الواردة في النص وعدد مرات تكرارها، ثم أدرجت جداول بأفعال الدراسة جميعها بأرقام صفحات ورودها في المسرحية. وبعد استقراء إحصاءات أفعال الحركة في بنياتها المختلفة، توصلَت بركات إلى العديد من النتائج، من بينها:

ـ رصدت الدراسة (154) مائة وأربعة وخمسين فعلًا من أفعال الحركة. تكررت (1104) ألفًا ومائة وأربع مرات في المسرحية.

ـ بلغت أفعال الحركة الانتقالية (115) مائة وخمسة عشر فعلًا، بنسبة تقريبية (75%) خمس وسبعين بالمئة من مجمل أفعال الحركة في المسرحية، وتكررت في النص (1012) ألفًا واثني عشر مرة. في حين بلغت أفعال الحركة الموضعية (39) تسعة وثلاثين فعلًا بنسبة تقريبية (25%) خمس وعشرين بالمئة، وتكررت في النص (92) اثنتين وتسعين مرة. ولا شك في أن لشيوع أفعال الحركة الانتقالية في مقابل الحركة الموضعية دلالته؛ حيث إن فعل الحركة الذي يُحدث انتقالًا من مكان إلى آخر، هو أظهر للحركة وأجلى للدلالة من الفعل الذي يُحدِث الحركة في موضعها دون انتقال.

ـ في مجموعة أفعال الحركة الانتقالية أفقية الاتجاه، كان عدد أفعال الحركة الدالة على الذهاب مساويًا لعدد أفعال الحركة الدالة على الإياب، وبلغ كلٌّ منهما 15 فعلًا. وأفعال حركتي الذهاب والإياب من أكثر أفعال الحركة الانتقالية -بل أفعال الحركة جميعها- إشعارًا بالحركة؛ حيث يبرز في دلالتها ملمح المسافة والبعد المكانيّ بين موضع بدء الحركة وموضع انتهائها. وهو أكبر عدد من الأفعال حصرته الدراسة؛ مما أضفى على النصّ حركيّةً ملحوظة ومتجددة.

ـ بلغت أفعال الحركة الانتقالية رأسية الاتجاه المتجهة إلى أعلى (7) سبعة أفعال، والمتجهة إلى أسفل (12) اثني عشر فعلًا. وبالتأمل في أفعال هاتين المجموعتين، يتضح أن الحركة المتجهة إلى أسفل تكون -في الأغلب- أسرع من الحركة المتجهة إلى أعلى، ويتضح ذلك من النظر إلى فعلَي: (نزل، صعد)، وفعلَي (هوى، سما)، فالصعود والارتفاع يستغرق زمنًا أطول، ويحتاج إلى بذل جَهدٍ أكبر من النزول والسقوط؛ وذلك لما تضيفه الجاذبية الأرضية من قوة تساعد الشيء المتحرك على الوصول إلى أسفل. فكثرة أفعال الحركة المتجهة إلى أسفل مقارنةً بأفعال الحركة المتجهة إلى أعلى أضفى على النصّ سرعةً في حركيته؛ تلك السرعة التي كان يتطلبها السياق في النصوص الشواهد. بالإضافة إلى بُعْدٍ آخر يحسُن الانتباه إليه، هو أن النصّ يعالج مرحلةً متعثرة من تاريخ البلاد، وفي مثل هذه الأوقات تسود ملامح السقوط والانهيار، وتغلب على أفراد الشعب روح الهبوط المعنويّ، وإن كان الأمل والرغبة في تغيّر الأوضاع يؤدي إلى الحُلم ببعض الغايات العليا، التي تعبر عنها أفعال الحركة رأسية الاتجاه المتجهة إلى أعلى، ولكنْ تظلّ نسبة أحلام أبناء الوطن أقل من الواقع المحيط بهم.

ـ بمقارنة عددَي أفعال الحركة السريعة بأفعال الحركة البطيئة، تبيّن أنّ أفعال الحركة السريعة بلغت (12) اثني عشر فعلًا، وأفعال الحركة البطيئة بلغت (5) خمسة أفعال. ولا تخفي مناسبة السرعة لروح الثورة، والرغبة في إنقاذ البلاد مما هي فيه من أوضاعٍ متردِّية.

ـ أكثر أفعال الحركة الانتقالية البطيئة ورودًا في المسرحية هو الفعل (زحف)؛ حيث تكرر (11) إحدى عشرة مرة، في حين ظهرت باقي أفعال المجموعة الأربعة مرةً أو مرتين، وهو وإن كان من أفعال الحركة البطيئة، إلا أن من دلالاته التي ورد بها في المسرحية وصف بدء القتال في المعارك الحربية، والحرب في ذاتها فعل سرعة وفعل قوة.

ـ بلغ عدد أفعال الحركة الانتقالية المرتبطة بموضع محدد مثل: (اجتاز، عبر، فات) (8) ثمانية أفعال، وهو عدد غير قليل بالنسبة إلى عدد الأفعال في المجموعات الفرعية. ويدل هذا -في رأيي- على الرغبة في تجاوز النقطة الزمنية الراهنة واللحظة الآنيّة، وتخطيها للعبور إلى زمن آخر، تتحقق فيه أحلام الشرقاوي ببلد ينعم بحاكم واعٍ بالأخطار التي تحيط بها، قادرٌ على حمايتها مما يهددها بالخارج من هجوم، وبالداخل من فساد.

ـ بلغ عدد أفعال الحركة الانتقالية التي تنتهي إلى ثبات واستقرار 12 فعلًا، ويعدُّ عددًا كبيرًا نسبيًّا بالمقارنة بعدد أفعال باقي المجموعات الفرعية، وهي أفعال تعبر -في الأغلب الأعمّ- عن الحركة التي يتخذها جسم الإنسان، كالوقوف، والقعود، والاستلقاء؛ إلى جانب بعض الأفعال التي تَحدث للأبواب والنوافذ كالفتح، والإغلاق. وأرى أن شيوع الأفعال التي يُحدثها جسم الإنسان تمنح النصّ حركيّةً على المستوى الجسمانيّ، لا على المستوى المكانيّ وحده.

ـ العدد الأكبر في الأفعال محددة الصفة -سواء أكانت حركة انتقالية أم موضعية- سُجّل في صفة القوة، فأفعال الحركة التي تتسم بالقوة أكثر انتشارًا في المسرحية من غيرها من الصفات، كالانحناء في الانتقالية مثلًا، والاحتكاكية في الموضعية. وذلك يتناسب مع الجوّ العام للمسرحية وهو جو المقاومة؛ فجاءت معالجة الشرقاوي للنص متماشية مع قوة الفتيان من جهة، وقوة الفساد الذي يواجهونه من جهة أخرى.

ـ العدد الأكبر للأفعال في المجموعات الفرعية لأفعال الحركة الانتقالية كان لمجموعة أفعال الحركة الانتقالية المطلقة، مثل: (تحرك، سار، سحب)، كذلك فإن العدد الأكبر في مجموعات أفعال الحركة الموضعية كان لأفعال الحركة الموضعية المطلقة، مثل: (اضطرب، تلوّى، نبش). وهذه الأفعال تفيد مطلق الحركة، دون أن تتحدد بصفة أو اتجاه، أو أن ترتبط بمكان ما، وانتشارها في النصّ يعني أهمية الحركة لذاتها، أي لمجرد كونها حركة، لا دخل لشيء آخر في تحديد دلالتها.

ـ لاحظَت الدراسة أن أكثر صيَغ الأفعال تَكرارًا هي صيَغ المضارع والأمر؛ حيث تزيد نسبة تَكرارها بشكل ملحوظ عن الصيغة الماضية، ولا يخفى ما في الصيغة المضارعة من دلالة على تجدد الحدث (وهو الحركة)، وما في صيغة الأمر من نقل الحركة إلى زمن الاستقبال؛ ممّا يشي باستشرافيّة نظرة الشرقاوي، وتطلعه إلى المستقبل من خلال عيش اللحظة الراهنة والتحرك منها إلى المستقبل.

ـ كانت الصيغة الماضية أكثر من باقي الصيغ في أربعة أفعال، هي: (عاد، جاء، راح، مضى) -على الترتيب-؛ حيث: بلغ عدد تَكرار الصيغة الماضية للفعل (عاد) (63) ثلاثًا وستين مرة من إجمالي (166) مائة وست وستين مرة. وعدد تكرار الصيغة الماضية للفعل (جاء) (49) تسعًا وأربعين مرة من إجمالي (62) اثنتين وستين مرة. وعدد تكرار الصيغة الماضية للفعل (راح) (28) ثماني وعشرين مرة من إجمالي (54) أربع وخمسين مرة. وعدد تكرار الصيغة الماضية من الفعل (مضى) (13) ثلاث عشرة مرة من إجمالي (57) سبع وخمسين مرة. وواضح من أعداد مرات الورود أن أربعة الأفعال التي زاد شيوع صيغتها الماضية عن باقي الصيغ تنتسب إلى مجموعتين فرعيتين هما: مجموعة أفعال الحركة الانتقالية أفقية الاتجاه الدالة على الإياب، ومجموعة أفعال الحركة الانتقالية أفقية الاتجاه الدالة على الذهاب؛ ومن ثَمَّ يتضح أن الخطاب الماضَوِيَ إن غلب على بعض الأفعال في النصَ، فإن الغلبة فيه تكون للأفعال التي تحمل دلالة الإياب والرجوع على حساب الأفعال التي تحمل دلالة الذهاب والمُضِيّ، وفي هذا ما يدلل على النظرة التفاؤلية وروح الأمل التي أراد الشرقاوي بثها في نصّه.