دلخواز إبراهيم يركض برسوماته إلى حدود التماثل

أعمال التشكيلي عاشق الريشية يمكن اعتبارها ترجمات لنصوص وصور الآخرين، ولها علاقتها بواقعه الاجتماعي، وعلى أساسها يجري ترتيبات مسلوقة وجاهزة.

أعرفه مذ كان صغيراً، وأعرف عشقه المبكر للريشة والألوان وشغفه الكبير بهما، وكنّا نستعين به كثيراً في رسم بعض الصور لشخصيات ثقافية كان لها وزنها في إضاءة الطريق، كنّا نعقد عنهم وعن أعمالهم لقاءات وحوارات ثقافية خلسة في بيوت طينية بعيدة عن أعين الرقيب، وعن أعين المخبرين، كان وما يزال يتقن النقل جيداً، ويدخل في كل رسمة جديدة يقرر رسمها في تحدّ مع نفسه حتى تخرج النسخة مشابهة تماماً، نعم يتقن دلخواز النقل جيداً حتى باتت جدران مرسمه مزينة بلوحات معروفة للعامة كثيراً، وكذلك بصور القادة التي لا يمكن أن تلتقي إلا في مرسمه، وكذلك بصور لفنانين وشعراء ورموز ثقافية تشكل قائمة باتت عناوين مهمة لجيل كامل، كما لم ينس في رسم صور لعادات وتقاليد بيئية فولكلورية تستحق أن تزين كل بيت، كان يملك دقة الالتقاط كثيراً، ويبدع في النقل قد يدفعك إلى الشك لكثرة ما بينهما من تشابه، فالمحرك الرئيسي لريشته هي الرؤية لا الرؤيا، وهذا ما أبعدته عن تحولات كان من الممكن أن تصيب تجربته وتدفع بها إلى إتجاه آخر، الإتجاه الذي كان سيمسك بريشة دلخواز ويمضي بها إلى مقام كان يليق بدقته وبروح الرسام الذي ينبض فيه، فإستخدامه لعمليات النقل وإتقانه لها سمحت له وعلى نحو لافت بترجمة مجموعة من الصور لفنانين ومثقفين وكتاب وموسيقيين، ولتكتمل الترجمة وتكون المعادلة صحيحة ومتوازنة كان لا بد من الإهتمام بالتراث والسير الشعبية كميدان آخر فيه يمارس دلخواز يقظته مع ريشته، متجاوزا المشاكل كلها، البسيطة منها والمعقدة والتي قد تعترض ترجماته، فهو يجمع بداية جماليات لمجموعات تشكل العامل المركزي لمشروعه (ترجماته)، والتي ستصبح ذخائره فيما بعد، في سياق زمني ما على الأقل، وهنا كان من الواجب عليه أن يبقى يقظاً للحفاظ على مصداقية الترجمة وأمانتها.

نعم نستطيع أن نعتبر أعمال دلخواز ترجمات لنصوص وصور الآخرين، ولها علاقتها بواقعه الإجتماعي، وعلى أساسها يجري ترتيبات مسلوقة وجاهزة، ترتيبات شديدة الوضوح نقلاً، مرتبطة بمقياس خارجي وبأحوال وشروط إقترانها، فنظرته الخارجية هي التي تحدد له معياره الذي ينطلق منه، وهي التي تجعل لكل مقاييسه إطاراً مشبعاً بمتعة الرسم، وبتلك التذكارات الجميلة، إطاراً بدوره يحدد إستهلالاته الثابتة الملامح وإن بدرجات، البعيدة الطيف وإن بمقولاتها، فهو يركض برسوماته نحو حدود التشابه أو التماثل إذا صح التعبير مع رصد التوافر والانتماء في التأمل والحضور، فهو سرعان ما يقطع الجذور فالأمر لا يحتاج إلى ذلك، كما لا يحتاج إلى هذا الفيض من الألوان التي تحيك تلك الملامح الثابتة، فهو غارق في زغاريد مغلقة ليس ما يحيط بها غير عناوين وموضوعات باتت واضحة جداً، تكرارها قد تكون لعبة قصيرة الأجل، أو تقليداً لواقع تم تجاوز مراحله كلها، فالأصابع المشدودة على الفرشاة ستتعب سريعاً، وقد تشوه العمل الفني، الفرشاة يجب أن تملك تقرير مصيرها، أو إدارتها الذاتية على الأقل، فلها الحق كله في سرد مقولاتها في الإتجاه التي تشاء، وترفض الأوامر والتكبيل، ودلخواز يكبل فرشاته كثيراً بل يمارس كل ديكتاتوريته عليها، فتمهيداً لخلق هدنة بين ممارساته القمعية مع أدواته، وبين ما يناسبها من رغبات يلجأ إلى حيلة سردية ضمن حقائق شائعة لا وجود للإشارات فيها ولا دلالات، حيلة جميلة ينبغي التعامل معها، لا كمجال فيه تظهر الأشياء وكأنها متشابهة، بل بما تثري رسوماته وتجيب عن ذائقته التي تجعل الحقيقة موجات تتلاطم على نحو ما، وتطرح ما يرضي المتلقي لا ما يترك الأثر فيه.

ثمة تباين وإختلاف واضحين، في المعنى وفي المبنى ما بين الصفة التشكيلية التي ترتبط بالتيارات الفنية وبين ما ينتجه دلخواز الذي يستعيد الإضاءات المسبقة بمقاماتها على متتاليات نقلية، فيه حاسة النظر تكون في أوج رؤيتها، فهو يملك عدستين لا تخيبا في الالتقاط مهما كان المشهد مغموراً، فهذه الدقة في قنص الحياكات اللونية ومسك عنانها تمنحه القدرة على طوق الحالات بمشيئته المشبعة بالحرارة ومشتقاتها، فيمنحها درجات ذي طابع بالغ التحكيم، فلمسات فرشاته سرعان ما تبرز جدائل رسوماته بكل قوامها وأمواجها، بكل حرارتها ووهجها، بكل برودتها وصقيعها، بكل وديانها ومسافاتها، بكل مرتفعاتها وزركشتها، وكأنها فسيفساء تزين المكان وتحلق فيه، ولعل وفرة اللحظات التي فيها تثمر ملازماته النقلية تجعل إنضمامه إلى مجموعة الرسامين الذين ينافسون الكاميرا حق مشروع، الحق الذي قد يشل حركاته إذا رغبت يوماً ما في الإنعطاف نحو لجة التشكيل وصياغاته، اللجة الضرورة التي على دلخواز خوضها.

المساحات التي يشتغل عليها دلخواز مساحات محددة، بل مغلقة في أكثر الأحيان، وله اليد الطولى في ذلك، فهو مكتف وراض بما توصل إليه رغم الطاقة النائمة فيه، والتي تحتاج فقط للشرارة حتى يهب اللهيب، عليه أن يكون يقظاً لذلك ومدركاً للتوالدات التي تنتظر منه التدخل بعيداً عن النشوة التي يعيش فيها، نشوة الوصول التي تنعدم عند الفنان الحقيقي الذي يكون في حالة بحث وتجريب وسير دائم، بل في حالة سبر مستديم للأشياء دون أن ينتظر النتائج التي ستظهر على السطح على نحو تلقائي عفوي، فالرؤية المتكررة للمشهد ومن منظور فنان يغيب الأفق عنده تماماً، بل يكاد الإقتراب من المتخيل يكون بالنسبة له جرح عميق، سيثير لديه الكثير من القلق والتوتر واللذين سينتقل عدواهما إلى المتلقي أيضاً، والذي سيفقده الكثير من أثر ووقع ذلك عليه وبالتالي سيفقده الكم الأهم من المتعة، أقصد متعة المشاهدة، وهذه بمثابة جرس إنذار لدلخواز لينعطف بريشته نحو فضاءات أكثر جذباً له، وهي مهيأة له فيها تمارس ريشته كل حريتها لتروي عنه سيرته الفنية.