"دماء جائعة" عندما تسكن رُوح التاريخ جسدَ الفن

نشأت المصري يستلهم شخصيَّة تاريخية، في لحظة تاريخية معينة، وفي ظلِّ ظروف فارقة في التَّاريخ العربي والإسلامي.
من الممكن لقارئ هذه الرواية أن يسجل ملاحظتين عامَّتين على شخصيات هذه الرواية
الشخصية الرئيسة في الرواية، وهي شخصية المهدي؛ تأتي لتكون الإطارَ التاريخي الذي استدعاه الكاتب

مقدمة:
- لماذا يلجأ الروائي إلى التاريخ؟
سؤال شغل النقاد كثيرًا فضلا عن المبدعين أنفسهم، وحاول كلٌّ منهما الإجابةَ عنه وَفْق رؤيته، وتمشيًا مع تصوُّرِه لطبيعة الأدب عموما، والفن الروائي خصوصًا.
ومهما يكن من الأمر، فإنَّه عندما يُسْكن الروائيُّ رُوحَ التاريخ جسدَ روايته، فهو ينطلق من "اتخاذ التاريخ وسيلة لمعالجة قضايا معاصرة، أغلبها يرتبط بالغايات الحضارية والسياسية، دون التزام صارم بوقائع التاريخ. وقد يستدعي الكاتب الروائي شخصية تاريخية، ويبعثها في الواقع، ويحركها، ويواجهها بالناس والأحداث؛ ليفسر موقفه من قضية ما، أو يشرح كيفية معالجتها والتغلب عليها، والتخلص منها، أو بلورتها، وتطويرها وإثرائها..".
والكاتبُ الروائيُّ عندما يلجأُ إلى التاريخ؛ ليتخذَ منه قناعًا لطرح القضايا الإنسانيَّة المصيريَّة الملحَّة، فإنَّ ذلك لا يمكنُ تفسيرُه بالضرورة على أنَّه هربٌ من المساءلة، أو تنصُّلٌ من المسئولية، وإنما يُحْمَلُ على أنَّه يريدُ أن يُؤطِّر - بهذا اللجوء، وتلك العودة - صورةَ الحاضر؛ ليقدِّمَ لنا من خلالها معالمَ المستقبل، وتوقعاته تجاهه.
إذن، فاستلهامُ التاريخ لكتابة رواية ما، ليس "فقرًا فكريًّا" عند الكاتب؛ ولكنَّه ضرورةٌ ملحة تُمكِّن الكاتبَ من رصد الحاضر، ورسم صورة المستقبل.
وهذا بعينُه هو ما فعله الكاتب المبدع نشأت المصري في روايته "دماء جائعة"؛ حيث استلهم شخصيَّة تاريخية، في لحظة تاريخية معينة، وفي ظلِّ ظروف فارقة في التَّاريخ العربي والإسلامي، تتشابهُ إلى حدٍّ كبير مع واقعنا المعاصر، وما يَمرُّ به من تحوُّلات على جميع المستويات.
وتنطلق هذه القراءة النقديَّة لهذه الرواية، من خلال السعي الجاد إلى:
- فهم المضامين الفكرية، التي بثَّها هذا الكاتب في شرايين روايته. 
- تحليل البنية الفنية، التي خلَقَ لها جوًّا روائيًّا امتلأ بالشخصيات، والأحداث، والصراع.. وغيرها من العناصر.

رواية "دماء جائعة" إضافة ممتازة لمسيرة الرواية العربية بعامة، والرواية التي تستلهم روح التاريخ بصفة خاصة

أولا- الشخصيات:
من الممكن لقارئ هذه الرواية أن يسجل ملاحظتين عامَّتين على شخصيات هذه الرواية، وهما:
1- أنَّ معظمَ شخصياتها (شخصياتٌ جاهزةٌ)، بمعنى أنَّ كلَّ حياتها معروفة لنا؛ فهي مبثوثة في كتب التاريخ، والأدب، والسياسة، واستدعاها الكاتبُ من تلك المصادر جميعًا؛ لينطقها برؤيته، في أسلوب فنيٍّ يُلمِّح ولا يُوضح، ويُكنِّي ولا يُصرِّح.
2-  أنَّ كلَّ شخصية من هذه الشخصيات تَعْرِفُ تماما ما تُريد، ولديها الحافز العميق الذي يدفعها إلى (الفعل)، والاستعداد التام لـ (رد الفعل)، وكذلك خوض معركة الحياة بثبات وإصرار، فإمَّا الفوز، وإمَّا الموت، وهذه ميزة تحسب للكاتب.
وتأتي الشخصية الرئيسة في الرواية، وهي شخصية المهدي؛ لتكون الإطارَ التاريخي الذي استدعاه نشأت المصري؛ ليعالج من خلاله ليس واقع الأمة العربية فحسب، بل واقع العالم أجمع، هذا العالم الذي سيطرت عليه كله "دماءٌ جائعة".
ومن خلال رحلة غوص في نفس هذه الشخصية الرئِيسَة، التي لم تعد تُمثِّل نفسَها فقط، وإنما أصبحت رمزًا لكلِّ حاكمٍ في أي زمان أو مكان - يمكننا الحديث عنها، وعن علاقتها بشخصيات الرواية الأخرى، وكيف أن هذه الشخصيات تسعى ماديًّا ومعنويًّا للتخلص منها. 
* المهدي:
حاكمُ الدَّولةِ العباسيَّة، ابن أبي جعفر المنصور، تولَّى الخلافةَ رغم أنَّ ابن عمه محمدَ بن أبي العباس كان أحق بها، ومنذ هذه اللحظة بدأت الاضطرابات والصراعات والأزمات، تلك التي نجح الكاتب في أن يمسك منها خيطًا روائيًّا واضحًا في حياة هذه الشخصية، واستطاع ببراعة أن ينسج منها لُحمة الرواية وسِداها، وهذا الخيط هو "الصراع النفسي" - أو إن شئت فقل: الصراع الوجودي - الذي ظل يعاني منه المهدي حتى وفاته مسمومًا، وأخذ يُطعِّمُ هذا النسيج ببعض خيوط الحاضر، ويصبغها بألوان العصر الحالي الذي نحيا فيه، ويتجلى هذا الصراع النفسي/ الوجودي، في ثنايا الرواية، على لسان المهدي، ومن نماذجه:
- "الدم أقصر الطرق، وإن كان أقذرها" [ص، 145].
- "هاجس الدم الذي يفترس أمني، ويسجن أشعاري في صدري"[ص، 152].
- "الدم طريق النصر" [165].
وتنشأ أزمة أخرى تؤرِّق المهدي بعد تولي الخلافة، وهي "العدل"، أو تحقيق العدل، ولكن في سعيه لتحقيقه يصدمه سؤال: هل من العدل أن أقتنص حق غيري في الحكم؟
هذا هو السؤال الرئيس في الرواية "العدل"، وهل العدل هو العلاج الناجع، والدواء الشافي من داء الكَلِب الذي أصيبت به الدماء، فأصبحت بسببه "دماءً جائعة"؟
وفي ظنِّي أن هذا السؤال هو الذي يفسر لنا "الموقف السلبي" من جانب المهدي تجاه الخلاف الذي نشأ بين ولديه - الهادي وهارون - على الخلافة، وإحجامه عن التفكير في وضع الضوابط والأسس التي على أساسها يتم تنصيب الخليفة، وأن الأمر بالكفاءة وليس بالتمني أو بالقوة.
هذه الشخصية الفريدة، كان كل من حولها يسعى إلى التخلص منها ماديًّا، أو معنويًّا، ويتضح ذلك من خلال الحديث عن بعض شخصيات الرواية الأخرى، مثل:
* عيسى بن موسى: ابن عم المهدي، يسعى للحصول على الخلافة بأي وسيلة: "ها هو القصر البهي.. قصر الخلد.. في قلب بغداد، تسلقت عينا عيسى جدرانَه المنيعة في شيء من الحسرة:
- أما كان هذا القصر لي؟ ربما غدا، وغدا عساه يكون قريبًا" [ص: 14]. 
* ريطة: زوجة المهدي الأولى وابنة عمه، كانت تحب المهدي وتكرهه في آن واحد،" زوجها المحبوب يأسرها الآن فقط، حين ينفرد بها فتكون قطعة منه، حين تغادره تراه كائنا مضادا لا يستحق الحياة" [ص: 77]، ويظهر ذلك أيضا في الحوار الدائر بينها وبين أخيها محمد: "أمنت ريطة على كلامهما، وأفصحت عن ألمها الخاص الدائم:
- ما دامت هناك الخيزران الفاتنة، فلن تجد خيرا، لقد نسيت أن المنصور اشتراها من سوق الرقيق في مكة.
قاطعها محمد متعاطفا مع ألمها:
- كيف استولت على المهدي، وأنت زوجته الأولى وابنة عمه؟
لملمت حسرتها:
- إنها مسميات بلا معنى.
اتسعت حدقتا محمد ساخطا:
- بل حياته هي التي بلا معنى، وعلى حساب حياتنا جميعًا!
اضطربت ريطة:
- أخفض صوتك.. هس.. هس" [ص: 26، 27].
هذا الحقد والغضب جعلاها لا تتورع في أن تخطط مع أخيها لقتل المهدي، بل تنام هادئة قريرة العين رغم احتمال فشل هذه المحاولة.
وهنا تجدر يشار إلى أنه كان من الأولى، أن يصور لنا الكاتب ردة فعلها لما فشلت محاولة القتل، ويجسد مشاعرها النفسية، وما الذي أحست به.
* سلافة: جارية ريطة، تضمر له كل الحقد والغضب والإصرار على الانتقام منه، بسبب ما حدث لأبيها وأخيها من قتل على يديه أثناء إخماد الثورة في خرسان، تحدث نفسها قائلة: "لقد أخطأ المنصور حين رشحني جارية لزوجة ابنه ريطة، كيف تأتمن صاحب الثأر على نفسك وأولادك؟ وأنا صاحبة ثأرين كلا منهما يهز الجبال ويوجع وطنًا بأكمله... كل يوم يمر يزداد السواد في قلبي.. يدي جاهزة لتعانق يد الشيطان، وهي تعتصر رقبته الطويلة السمراء، فتسلبه الحياة، فلا ملك، ولا جاه، ولا شباب، ولا انتصارات فجة دامية، هي مجرد جرائم بلا قلب" [ص:66].
*خالد:
من الشخصيات المهمة في الرواية، فإذا كان المهدي يمثل الطرف الأول من ثنائية التاريخ، وهو (السلطة/ الحكام)؛ فإن خالد هو الذي يمثل الطرف الثاني من هذا الثنائية، وهو (الشعب/ المحكومين)، ويوضح علاقته بالحاكم، وكيف يمكن أن يحدد الشعب مصيره المناسب له، ويرغم الحاكم على إطاعته. 

رواية
نشأت المصري

ويتجلى ذلك في إشارة خالد إلى أنه بدأ معركة الانتقام لصديقه شبيب، ولكن سلاحه في هذه المعركة ليس السيف، وإنما المكر والدهاء، وهو السلاح السريِّ الذي يجب أن يتسلح به كل شعب يسيطر عليه حاكم لا يفكر إلا في الحفاظ على عرشه سالما آمنا.
وبالفعل استخدم خالد هذا السلاح فبدأ بمعاوية، ولكن لم تحسم المعركة بين طيات هذه الرواية وظلت مفتوحة، إشارةً إلى استمرارية هذا الصراع في كل زمان ومكان.
* العراف:
في هذه الرحلة الروائية الشائقة استطاع الكاتب ببراعة أن يمزج التاريخ بالواقع المعيش الذي تحياه الأمة العربية وذلك من خلال شخصية "العراف"، التي استطاع أن يوظفها ببراعة بامتياز؛ لتكون همزة الوصل بين الماضي والحاضر، بين الأحداث التاريخية والوقائع المعاصرة.
ثانيًا- الصراع:
كان المشهد الأوَّل في الرواية نقطة انطلاق ممتازة؛ حيث سلَّط فيه الكاتب الضوءَ على ذلك التَّحوُّل الجذري في حياة الشخصية الرئيسة فيها، وهو (المهدي)، هذا التحول الذي ولدت من رَحِمه باقي المشاهد الروائية الأخرى، وجعلت الصراع صراعًا صاعدًا متدرجًا، في إيقاع سردي مكثف، يشد القارئ، فلا يعطي لذهنه حق الشرود، ولا يسمح لنفسه بالإحساس بالملل.
هذا، ولقد تمثل الصراع في الرواية في صورة مستويات عدة، هي:
1- صراع المهدي مع نفسه، (أنا وأنا).
2- الصراع على الخلافة، بين المهدى ومحمد، وبين هارون والهادي.
3- الصراعات العامة التي كان يموج بها العصر العباسي من حركات سياسية، وحروب.. وغيرها.
4- الصراع داخل قصر الخلافة كالصراع على قتل المهدي وغيره.
لكن كل هذه المستويات تنبع من المهدي - الشخصية المحورية - فهو الذي يثير الصراع فيها، ويخلقه سواء بقصد أو بغير قصد، فالمهدي الموصوف بأنه "طيب، عطوف، رقيق المشاعر، حبيب الفقراء، ألست شاعرا؟ ألست فارسًا؟ هنيئا لكم أيُّها الناس، وهنيئًا لي حبكم". [ص:9]، لم يحقق من هذين الأمرين شيئًا؛ فلا هو كان بردا وسلاما على الناس، ولا الناس أحبوه بصدق وإخلاص.
ومن الملاحظ على الصراع في هذه الرواية أنه صراع نفسيٌّ بالدرجة الأولى؛ ولا يزال يشتد ويزداد؛ ليكشف للقارئ عن أعماق مشاعر الشخصيات، وكذلك عن الدوافع التي خلقته، وجعلت الشخصيات تفعل ما تفعل، بل تحدد مصيرها الذي تتجه إليه، سواء أكانت راضية عنه، أو غير راضية. فكان لكل شخصية منها صراعها النفسي الخاص بها، حتى الصراعات الواقعية في الحروب وغيرها، كانت مجردَ مرآة تنعكس عليها صورة الصراعات النفسية، أو مدخلًا تَلِجُ من خلاله؛ لتظهر وتعبر عن نفسها، وأفضل دليل على ذلك الحوار الذي دار بين خالد ونفسه ومنعه النوم في مشهد "أحزان خاصة"، وكذلك كل الحوارات النفسية التي دارت على مدار الرواية في نفس المهدي من بداية المشهد الأول في الرواية (أنا وأنا).
إذن، يمكننا القول: إن الصراع في هذه الرواية بحر متلاطم الأمواج، كلما ذهبت موجة دعت أختها، ولا تنفك ترتفع وترتفع إلى الذروة التي تتمثل في أن كل هذه الدماء التي أريقت، لم تذهب هباءً بل تحولت إلى "دماء جائعة" تصرخ بأعلى صوتها: هل من مزيد؟
ثالثًا- الحبكة، والتقنيات الفنية:
تكونت بنية رواية "دماء جائعة" من ثلاثة وعشرين مشهدًا، كل مشهد يحمل في طيَّاته تقدمًا في البنية السرديَّة التي جاءت متكئة كثيرًا على بعض التقنيات الدِّراميَّة، وأُسس كتابة السيناريو؛ وهنا يجب أن أشير إلى أن هذه الرواية مؤهلة بنسبة ممتازة لأنْ تكونَ عملا دراميًّا تاريخيًّا.
أمَّا بالنسبة للحبكة، فقد استطاع الكاتب بمهارة أن يجعل روايته "دماء جائعة" مبنية على ما يمكن تسميته بـ "الإيهام بالتاريخ"، وهذا الإيهام، أنقذه من الوقوع في براثن فخٍّ كثيرًا ما يقع فيه الروائيون عند كتابة الرواية التي تستلهم التاريخ، وهو: تشويه الجوِّ التاريخي أو الأحداث أو الشخصيات لهدف بعينه، الأمر الذي يُسْقِطُ العملَ الروائي موضوعيًّا وفنيًّا؛ فلقد نجح نشأت المصري في أن يقدم لنا جوًّا تاريخيًّا شديد الشبه لما كان في العصر العباسي، واستطاع أن يخلق أحداثًا، ويرسمَ شخصيات لا يمكن إلا أن نسلم بأنها بالفعل كانت موجودة حتى ونحن نعرف جيدا أنها من محض خيال المؤلف؛ وذلك من خلال توظيف مفاتيح العصر العباسي بعهديه الأول والثاني، فمثلا اشتهار هذا العصر بكثرة المتنبئين، فنجد شخصية صاحب القناع أو المقنع، نجد أيضا وثوق عِلْيَة القوم خاصة والناس عامة في اتباع أقوال العرافين والمنجمين، وكذلك أيضا انتشار الألفاظ العربية السائدة في هذا العصر على لسان الشخصيات والرواة سواء في الوصف أو الحوار، من خلال وصف الحياة العامة بين الناس في البيوت والأسواق، وكذلك الفتوحات التي كانت تقوم بها الدولة العباسية.. وهكذا.
وفي ظني أن البطل الحقيقي في الرواية - أو "بيت القصيد" كما يقولون - هو العنوان "دماء جائعة"؛ فهو يحمل في طياته:
1- الفكرة الأساسية، وهي لماذا تراق كل هذه الدماء على مر العصور؟ لماذا الدماء وحدها تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم؟ هل من الممكن أن تقوم دولة ما دون أن تراق دماء من الحكام والمحكومين؟ هل الدم وقود النصر؟ هذه الأسئلة وغيرها، هي التي تنطلق منها الفكرة الأساسية. 
2- وهذه الفكرة الأساسية هي التي دفعت الكاتب إلى استحضار روح التاريخ، ليس من أي عصر، ولكن من العصر العباسي! وهكذا تحدد "الزمن الروائي"، الذي استدعى بدوره "المكان الروائيط؛ فكانت (بغداد) حاضرة الدولة الإسلامية في هذا العصر.
3- وبعد اختيار الزمان والمكان، جاءت "الشخصية الروائية"، التي كان لا بُدَّ أن من تكون لها خصوصية وتفرُّد بين خلفاء العباسيين وأمرائهم، فكانت شخصية "المهدي"، تلك الشخصية التي تجسدت فيها هذه التساؤلات المستفادة من الفكرة الأساسية، التي جسدها العنوان.
4- ومن خلال الأحداث التي نتجت من اجتماع هذه العناصر نشأ "الصراع الروائي"، بنوعيه: الداخلي والخارجي، الداخلي الذي يدور داخل نفس المهدي، ونفوس الشخصيات الأخرى، والخارجي بين الشخصيات الروائية بعضها البعض.
ولكن على الرغم من ذلك، يستطيع القارئ للرواية أن يرصد بعض الملاحظات على هذه الحبكة، منها:
- ذكر الكاتب أن خالدًا أراد أن يقتصَّ من قاتل صاحبه شبيب، وعرف أنه معاوية، يقول: "إذن هو معاوية، وكيف عرف أنه مؤمن أم لا.. هل يعمل بالتنجيم؟" [ص126]، ثم يقول على لسان المهدي: "من حقه أن أراعي أنه فارس دافع عني وعن البلاد، له أن يمضي إلى حال سبيله، أما غريمه يعقوب، فهو مسجون في بيته، ولا خوف عليه" [ص128]. فأين ذهب معاوية؟

novel
الكاتب برع في توظيف الحوار بنوعيه

- نفذت سلافة جريمتها بطريقة جزافية، إذ كان من الممكن فشل خطتها في وسط هذا التجمهر وستكون أول المشتبه بهم، فهي بمثابة مخاطرة ولكن القدر خدمها كما أنها نوهت إلى إمكانية الاستعانة بالربيع على قتل المهدي لثقته في طيبتها وبلاهتها أحيانا، ولو فعلت ذلك لكانت مخاطرة أكبر؛ إذ إن السر لو خرج من بين جوانحك لأصبح هو ألد أعدائك، إذن فلم كانت هذه العبارة؟ وإذا كان مخططها هو دس السم، فهل لم تحصل على فرصة لوضع السم إلا في رحلة الصيد هذه؟
- شدة كره محمد لابن عمه المهدي كان من المتوقع أن تدفعه مرات ومرات لقتل المهدي، ولكن هذا لم يحدث، فبمجرد أن فشلت المحاولة الأولى لقتل المهدي، صرف محمد النظر عن إعادتها مرة أخرى، وهنا نتساءل: هل هدأت نار الكراهية بعد هذه المحاولة الأولى والأخيرة؟ إذ إن هذا الفشل كان من الممكن أن يصبح وقودًا يؤجج نار الكراهية أكثر فأكثر، ويجعله أكثر إصرارا؛ لاقتناعه بأنه يدافع عن أحقيته بالخلافة.
أمَّا بالنسبة للتقنيات الفنيَّة، فقد نجح الكاتب في استخدام بعض التقنيات الفنيَّة، منها:
- الأسلوب الدرامي (السيناريو): قامت الرواية كلُّها على تقنية الأسلوب الدرامي (السيناريو)، المقسم إلى مشاهد ولقطات، ومنها: مشهد الاحتفال بتنصيب المهدي (قطع)، والذهاب إلى كوخ الرجل الفقير الضرير مما يوحي بالتناقض الذي يحدث في هذا العصر، وهذا يؤكد ما ذكرته في بداية قراءتي هذه من أن هذه الرواية تصلح لأن تكون عملا دراميًّا مكتمل الأركان.
- التمهيد للأحداث: جاءت الأحداث في الرواية متسلسلة، يؤدي بعضها إلى بعض؛ حيث كان الكاتب يمهد ببعض عناصر الطبيعة، للأحداث التالية، مثل قوله: "عادوا إلى الدكان تلاحقهم عاصفة ترابية مفاجئة" [ص:33]، فهذه العاصفة تنذر بما سوف يكون من أحداث، مثل: ما كان يدور أولا في ذهن خالد من محاولة إزالة شكوك أبيه تجاه شبيب وأخته زينب، وأيضا بما كان يدور في نفس "عم إسماعيل" من خوفه على ابنه، وذهابه إلى الحرب، وبالفعل حدث ما كان متوقعا من قبل خالد؛ حيث أتى الجنود للقبض على شبيب مع غيره من المتهمين بالزندقة.
كذلك استخدام المعادلات السمعيَّة والبصرية، مثل: "تكسر وتحطم الإناء" [ص95]، فهذا التكسر والتحطم يعادل تكسر المشاعر وتحطمها.
رابعًا- اللغة والحوار:
هناك عدة سمات اتسمت بها اللغة في الرواية، ونستطيع رصدها في النقاط التالية:
- كانت لغة الكاتب لغة عذبة سلسة؛ إذ خدمت النص بسرعة فهمه وتذوقه، وابتعدت عن الألفاظ التراثية القاموسيَّة، حتى أنها اقتربت كثيرا من لغة الكتابة والأدب في هذا العصر، كذلك اتسمت أيضًا بالشعريَّة؛ حيث احتوت على جرس موسيقي داخلي وخارجي.
- جاءت اللغة الروائية منتقاة بعناية سواء على مستوى السرد، أو الوصف، أو الحوار.
- لم تخل الرواية من الأخطاء اللغوية، والأسلوبية، والطباعية، التي يمكن أن تتدارك في الطبعات اللاحقة للرواية.
أما فيما يتعلق بالحوار، فنجد أنه قد كانت له مكانة كبيرة في بنية الرواية؛ حيث ظهر فيها من أول كلمة بها، وبه بدأ الصراع، وتواترت الأحداث، وقدم بعض الشخصيات.
هذا، ولقد برع الكاتب في توظيف الحوار بنوعيه: حديث النفس/المنولوج، وحديث الآخر/ الديالوج؛ حيث اتسم بسمات الحوار الجيد، من ملاءمته للشخصيات الصادر عنها، والتعبير عما يدور في نفوسهم.
خاتمة:
من خلال ما سبق ذكره في هذه القراءة النقدية الموجزة، نستطيع أن نقرر ما يلي:
1- أن رواية "دماء جائعة" إضافة ممتازة لمسيرة الرواية العربية بعامة، والرواية التي تستلهم روح التاريخ بصفة خاصة.
2- استخدم الكاتب بمهارة ما يمكن تسميته بـ "الإيهام بالتاريخ"، والذي أنقذه من الوقوع في براثن فخ: تشويه الجوِّ التاريخي أو الأحداث أو الشخصيات لهدف بعينه.
3- نجح الكاتب في أن يقدم لنا جوًّا روائيًّا تاريخيًّا شديد الشبه لما كان في العصر العباسي، عن طريق خلق أحداث، ورسم شخصيات لا يمكن إلا أن نسلم بأنها بالفعل كانت موجودة.