د.محمد التسولي: الذكاء الاصطناعي داعم للإبداع وليس بديلاً عن اللمسة الإنسانية
إنّ علاقتنا بالفنون، وخصوصًا المسرح، تعكس تطوّرنا كأفراد ومجتمعات. وكما قال الفيلسوف الفرنسي رولان بارت: "المسرح هو مساحة تتداخل فيها الإشارة والرمز والتقنية لخلق معنى جديد". في عصرنا الحالي، أصبح الذكاء الاصطناعي إحدى تلك الرموز الجديدة، وأداةً تُعيد تشكيل التجربة المسرحية على مستويات غير مسبوقة.
إن الحديث عن التكنولوجيا الحديثة وتأثيرها على الفنون المسرحية ليس وليد اللحظة، بل هو تطور طبيعي لمسيرة الإبداع الإنساني. وكما قال الكاتب والمفكر المسرحي جيرزي غروتوفسكي "الفن المسرحي هو مرآة تعكس روح العصر، وكلما تغيرت أدوات الإنسان تغيرت انعكاساته الإبداعية".
في عصرنا الحالي، بات الذكاء الاصطناعي هو الأداة الجديدة التي تفتح آفاقًا لم يكن للمسرح أن يتخيلها في الماضي. فأصبح المسرح مختبرًا حيًّا تتفاعل فيه الإبداعيات الإنسانية مع القدرات التكنولوجية لتقديم عروض تدهش الحواس وتخاطب العقول، وباتت التكنولوجيا شريكًا إبداعيًا قادرًا على تغيير قواعد اللعبة وإطلاق العنان لخيال لا حدود له.
في ورقته في القسم الثاني للمؤتمر الفكري والذي خصص لعلاقة الذكاء الاصطناعي بالمسرح، وذلك ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي في دورته الـ 15 واستضافته العاصمة العمانية مسقط، تناول الباحث المغربي د.محمد رضا التسولي محورين أساسيين يعكسان هذا التحوّل: الأول حول التصميم الرقمي للأزياء والديكورات المسرحية: كيف يُسهم الذكاء الاصطناعي في خلق تصاميم مبتكرة ومتكاملة، تدعم رؤية المخرج وتُعزز تجربة الجمهور. والثاني حول الإسقاط الضوئي استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحسين المؤثرات البصرية، وخلق مشاهد ديناميكية تُثري التجربة المسرحية.
أكد التسولي أن الذكاء الاصطناعي أصبح موضوعًا شائعًا في المجالات الإبداعية. لكن قبل الخوض في التفاصيل، يجب أن نفهم أن الذكاء الاصطناعي هو فرع من علوم الحاسوب يركز على تطوير أنظمة قادرة على محاكاة قدرات الإنسان، مثل التعلم، التحليل، واتخاذ القرارات. في السياق الإبداعي، يمثل الذكاء الاصطناعي أداة فعالة تعزز الابتكار وتوسع آفاق الإبداع. فهو يوفر حلولًا مبتكرة في مجالات التصميم، حيث يمكنه معالجة البيانات بسرعة فائقة وإنشاء تصميمات تتماشى مع متطلبات معينة، مما يمنح الفنانين والمصممين إمكانيات جديدة لتحويل أفكارهم إلى واقع ملموس.
وقال "نعلم جيدا أن التصميم يلعب دورًا جوهريًا في نقل رسالة العرض المسرحي وتجسيد أجوائه. إذ تساعد الأزياء المسرحية على تقديم هوية الشخصيات وإبراز أبعادها النفسية والاجتماعية، بينما تعمل الديكورات و فن الفيديو على خلق البيئة المكانية والزمانية التي تسهم في إيصال الفكرة العامة للعرض. من خلال الجمع بين هذين العنصرين، يتم تعزيز تجربة الجمهور وتحقيق التكامل بين النص، الإخراج، والأداء".
واستعرض التسولي من خلال ورقته تأثير الذكاء الاصطناعي على التصميم، بما يشمل الأزياء، الديكور، وفن الفيديو، متناولا الجوانب التقنية من خلال تقديم أدوات مبتكرة تساعد في عملية إنشاء تصاميم متطورة، بالإضافة إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي الداعمة لعملية التصميم. كما ناقش الفوائد التي يتيحها الذكاء الاصطناعي والتحديات التي ترافق استخدامه، مع تقديم أمثلة عملية تسلط الضوء على دوره الحالي واستشراف مستقبله في مجال الإبداع المسرحي.
حول تأثير الذكاء الاصطناعي على المسرح في مجال التصميم، رأى التسولي أن الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًا في تصميم الأزياء المسرحية والديكورات، حيث يمكن من تقديم تصورات مبتكرة وسريعة تتناسب مع رؤية المخرج وتوقعات الجمهور. في النقطة الأولى، سنتناول تأثير الذكاء الاصطناعي على تصميم الأزياء المسرحية والديكورات، وكيف يفتح آفاقًا جديدة للإبداع والتجريب. فمثلا في تصميم الأزياء المسرحية يوفر الذكاء الاصطناعي إمكانيات متعددة في مختلف مراحل التصميم. وذلك انطلاقا من التشاور مع المخرج والفريق الفني: في البداية، يبدأ مصمم الأزياء بتبادل الأفكار مع المخرج والمصممين الآخرين (مثل السينوغراف ومصمم الإضاءة)، لفهم الرؤية الفنية للعرض. يتم مناقشة العناصر الأساسية مثل: الشخصيات، البيئة المسرحية، الزمان والمكان، والعواطف أو الرسائل التي يجب نقلها عبر الأزياء. فمثلا مصمم الأزياء بقراءة النص المسرحي بعمق لفهم تطور الشخصيات، وتحديد متطلبات الملابس لكل شخصية بناءً على تطورها خلال العرض. ومن المهم تحديد الميزانية المتاحة لتصميم الأزياء في هذه المرحلة، حيث سيؤثر ذلك على اختيارات المواد والأدوات.
وأضاف "أما بالنسبة لدور الذكاء الاصطناعي في هذه المرحلة فهو تحليل النصوص: حيث يمكن استخدام أدواته لتحليل النص المسرحي واستخراج التفاصيل المهمة مثل خصائص الشخصيات، العواطف، والأحداث المهمة التي قد تؤثر على تصميم الأزياء. يساعد ذلك المصمم في فهم أعمق لاحتياجات كل شخصية.. ومن جانب آخر يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل عناصر المسرح مثل الإضاءة والديكور وتقديم اقتراحات لتصميم الأزياء التي تتماشى مع هذه العوامل.
وأشار التسولي إلى أنه إذا كان العرض يتطلب تصاميم مستوحاة من فترة زمنية أو ثقافة معينة، يبدأ مصمم الأزياء في البحث عن مراجع تاريخية وفنية "مثل الأزياء من تلك الحقبة أو الثقافة"، فإن مصمم الأزياء يمكنه استخدام جميع هذه المعلومات بشكل فعال عبر الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي التي توجهه في اتخاذ القرارات التصميمية. مثلا، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل قواعد البيانات التاريخية والثقافية لاستخراج مراجع دقيقة تتعلق بفترة زمنية معينة أو ثقافة محددة. هذه القدرة تُمكن المصممين من استلهام عناصر من الأعمال الفنية أو الملابس التقليدية أو العناصر المعمارية، وتجنب الأخطاء التاريخية أو الثقافية من خلال تقديم اختيارات تصميمية دقيقة وموثقة. مثال: يمكن لمسرحية تدور أحداثها في عصر النهضة الإيطالية استخدام الذكاء الاصطناعي لتوليد أنماط وتصميمات متوافقة مع تلك الحقبة..
وحول تطوير الأفكار قال "يبدأ المصمم برسم تصميمات أولية للأزياء باستخدام الأسلوب الذي يتناسب مع شخصية كل ممثل. يمكن أن تكون هذه الرسومات تخطيطية أو باستخدام تقنيات الرسم الرقمي. وبناءً على الفكرة الإبداعية، يتم اختيار الأقمشة المناسبة، وتحديد الألوان التي تتناسب مع المشهد العام، الجو والمزاج الذي يجب أن ينقله الزي. بالنسبة لدور الذكاء الاصطناعي في هذه المرحلة، فإنه يمكن للمصمم إنشاء تصاميم أولية للأزياء بناءً على النصوص والأبحاث التي قام بها. يمكنه الاعتماد على أدوات تستخدم الخوارزميات لتوليد الأنماط، واختيار الألوان، وتحديد الأشكال التي تتناسب مع الفكرة الإبداعية للمسرحية.، وأيضا اختيار المواد باستخدام الذكاء الاصطناعي: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل خصائص الأقمشة المختلفة (مثل الوزن، والمتانة، والمظهر) لتقديم خيارات للمصمم بناءً على احتياجات العرض. كما يمكن للذكاء الاصطناعي إنشاء أفكار جديدة بسرعة بناءً على أوصاف نصية أو رسومات أولية. يساعد ذلك المصممين على استكشاف أنماط متنوعة، واقتراح خلطات غير تقليدية من المواد أو الألوان أو القوام. مثال: لمسرحية خيال علمي، قد يصمم الذكاء الاصطناعي أزياء تمزج بين الأقمشة المعدنية والأنماط العضوية.
ولفت التسولي إلى أنه في مرحلة تصميم الأزياء فيمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في تصميم نماذج ثلاثية الأبعاد للأزياء 3D، مما يسمح للمصمم بمحاكاة الأزياء على الشخصيات الافتراضية (الممثلين الرقميين) في بيئة مسرحية مشابهة لتلك التي سيتم استخدامها في العرض. وباستخدام تقنيات الواقع المعزز أو الواقع الافتراضي، يمكن للمصمم اختبار كيف ستظهر الأزياء على الممثلين في بيئة مسرحية، مع الأخذ في الاعتبار الإضاءة، والتفاعل مع الديكور. وبالأتمتة ودعم العملية الإبداعية يمكن للذكاء الاصطناعي تولي المهام المتكررة أو التي تستغرق وقتًا طويلاً، مثل: إنشاء تنويعات لتصميم أولي. تطبيق الأنماط تلقائيًا على أجزاء مختلفة من الزي. إنشاء لوحات ألوان تتماشى مع الأجواء المطلوبة. مثال: في عرض يتضمن شخصيات ثانوية متعددة، يمكن للذكاء الاصطناعي إنتاج تنويعات للملابس مع الحفاظ على انسجام بصري شامل. كما يمكنه تصميم أزياء تتناسب تمامًا مع شكل جسم الممثلين، مما يحسن راحتهم وأدائهم. مثال: يمكن لممثل يؤدي دورًا يتطلب حركات معقدة الاستفادة من زي مصمم خصيصًا لتعزيز الحركة.
وأكد أن تعزيز التفاعل يسمح الذكاء الاصطناعي بتصميم أزياء ذكية تفاعلية تستجيب لمحفزات خارجية مثل الضوء أو الصوت أو الحركة عبر إضافة مستشعرات متحكم بها بواسطة الذكاء الاصطناعي لتحقيق تأثيرات بصرية متزامنة مع العرض المسرحي كتغيير الألوان و أنماط ضوئية أو تأثيرات أخرى.
وأوضح التسولي أنه بعد أن يتم التوصل إلى التصميم النهائي، يتم إنتاج الأزياء وتنفيذها وفقًا للمقاسات المحددة. فمن خلال البروفات، قد يلاحظ المخرج أو الممثلون بعض التعديلات اللازمة على الأزياء من أجل تحسين مظهرها أو راحتها. وبعد تصميم الأزياء، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في تطوير أنماط دقيقة لقص الأقمشة. فباستخدام أدواته، يمكن إنشاء تصاميم تساعد على تقليل الفاقد من المواد وتحقيق أقصى استفادة من الخامات. كما يمكنه ـ الذكاء الاصطناعي أيضًا ـ التنبؤ بالمشاكل المحتملة في عملية التصنيع (مثل المشكلات مع التطريز أو الخياطة) بناءً على البيانات التي تم جمعها من المشاريع السابقة، وبالتالي يمكن تصحيح الأخطاء قبل البدء في الإنتاج.
ورأى أن استخدام الذكاء الاصطناعي في عملية تصميم الديكور يبدأ من قراءة النص المسرحي وفهم السياق الزماني والمكاني للقصة، بالإضافة إلى دراسة الشخصيات والأحداث. يتجلى دور الذكاء الاصطناعي في هذه المرحلة من خلال تحليل النصوص واستنتاج الرموز والمفاهيم البصرية المرتبطة بالحبكة. يمكن أيضًا استخدام أدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتوفير تصور أولي للبيئة المناسبة بناءً على نوعية النص وأجوائه. وبعد تحليل النص، يتم وضع تصور أولي لتخطيط الديكور بناءً على أبعاد المسرح وحركة الممثلين. يمكن استخدام برامج تصميم ثلاثية الأبعاد مدعومة بالذكاء الاصطناعي لمحاكاة الترتيبات المختلفة وتقييمها من حيث الجمالية والوظيفية. تتيح هذه الأدوات تجربة تنسيقات متعددة بسرعة، مما يختصر الوقت ويوفر رؤية دقيقة قبل الشروع في التنفيذ. كما يوفر الذكاء الاصطناعي حلولاً ذكية لاختيار المواد بناءً على متطلبات مثل المتانة والوزن والتكلفة والاستدامة. يمكن أيضًا الاستفادة من نماذج الذكاء الاصطناعي لتقديم بدائل صديقة للبيئة أو إعادة استخدام مواد قديمة بطريقة إبداعية. ويمكنه المساعدة في محاكاة تأثيرات الإضاءة والصوت على الديكور، وضمان توافق الألوان والقوام بين مختلف العناصر.
وخلص التسولي إلى أن التكنولوجيا كداعم للإبداع وليس بديلاً عن اللمسة الإنسانية، وقال "في خضم التطور السريع للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، من الضروري أن نعيد التأكيد على دور هذه الأدوات كوسائل دعم للإبداع الإنساني وليس بديلاً عنه. يجب على المصممين والفنانين أن يتعاملوا مع التكنولوجيا بعقلانية، متجنبين النظر إليها كطريق مختصر للإبداع أو حلاً سحريًا، بل كأدوات تُثري العملية الإبداعية وتفتح آفاقًا جديدة. إن تبني هذه الأدوات يتطلب دراسة متأنية وفهماً عميقاً لإمكاناتها وحدودها، بما يتيح للمصممين استخدامها بأفضل طريقة لتحقيق رؤيتهم الفنية. فعلى الرغم من الإمكانيات المذهلة التي تقدمها التكنولوجيا في مجال التصميم المسرحي والفيديو مابينغ، فإنها لا يمكن أن تحل محل العنصر البشري في الإبداع. فالتكنولوجيا تظل أداة يتحكم فيها الإنسان، وهو الذي يحدد كيفية استخدامها وتوجيهها لخدمة العملية الإبداعية. المسرح، في جوهره، هو عملية إنسانية موجهة للبشر، تعتمد على العواطف والأفكار والخيال الذي لا يمكن للتكنولوجيا محاكاته بالكامل. ومع ذلك، لا يمكننا تجاهل تأثير التكنولوجيا المتزايد على حياتنا اليومية. في عصر الرقمنة، من الضروري أن نواكب هذا التغيير ونتكيف معه بطريقة إيجابية. إن استيعاب التكنولوجيا واستخدامها بوعي في السياق المسرحي يمكن أن يُثري التجربة الإبداعية، دون أن يفقد المسرح جوهره الإنساني. المفتاح يكمن في تحقيق التوازن بين الاستفادة من الإمكانات التقنية والحفاظ على اللمسة البشرية التي تجعل من المسرح فناً فريداً يخاطب الإنسان بعمق وصدق.