دولة تصرف أعمالها

باتت الحكومات في لبنان تعديا على النظام الديمقراطي. حتى الاصدقاء توقفوا عن النصح.

هل تأليف حكومة سياسيين هي "داوني بالتي كانت هي الداء"، وتأليف حكومة أخصائيين هي "داوني بالتي كانت هي الدواء"؟ ماذا لو تألفت أيضا حكومة من وزراء روبوتات آليين؟ إنهم أكبر كتلة سياسية. إن نجحوا يقدم لبنان نموذج حكم جديد للعالم يعوض فشل نموذج صيغته الطائفية. وإن فشلوا، ضررهم أخف من الوزراء المكونين من لحوم وعظام. وأصلا، الوزراء البشريون هم أيضا أشخاص آليون تحركهم أحزابهم ومذاهبهم ومرجعياتهم المحلية والخارجية. الأحرار أقلية.

ما عادت الحكومات تشفي داء لبنان مهما كانت مكوناتها. وما عادت هيئات الحوار الوطني تنعشه مهما كانت توصياتها. صرنا في مرحلة "انحلال دولتي" متقدم، حتى أن الدول الصديقة أوقفت، تعبا، نصائحها. التحولات الكبيرة تجري بوجود حكومة أو بغيابها المقصود. حكومتنا، بل حكومة الطبقة السياسية، تفصيل لا تفطن إليه أي حاسة من الحواس الخمس: لا النظر ولا السمع ولا اللمس ولا الشم ولا الطعم. باتت الحكومات في لبنان تعديا على النظام الديمقراطي.

إلى الضعف الكياني بالولادة، دخل المجتمع اللبناني، منذ بدء تسعينات القرن الماضي، مرحلة كساد واضطراب وانحراف وانحدار وفساد. صار مجتمعا قشريا. تدجن على العملة والعمالة والوصاية والاحتلال، واقترن بمفاهيم دينية ووطنية وأخلاقية وثقافية وبأنماط حياة مخالفة الثوابت اللبنانية التاريخية الدينية والمدنية. "لبنان" انتماء حضاري قبل أن يكون ولاء وطنيا. أهل الوطنية قلوا، وأهل القضية انكفأوا، وأهل الفجور تناسلوا، والمتحدرون من أصل ميلشيوي ظلوا مخلصين لأصولهم. الدولة فقدت كرامتها.

وحده مؤتمر دولي على غرار مؤتمرات باريس وڤرساي وسان ريمو، بعد الحرب العالمية الأولى، قادر بعد على تجديد الكيان اللبناني وتنقية دولته من الزوائد اللاصقة بها، وحسم دور لبنان في المنطقة. في غياب الإرادة الوطنية، لا تنشأ الدول، متحدة أو منقسمة، إلا بقوة دولية. وأصلا، لو لم تلتق إرادة الكنيسة المارونية وإرادة مؤتمر "سان ريمو" سنة 1920 لما نشأت دولة لبنان. وحاليا، نعيش ظرفا مماثلا. وحده قرار دولي، محصن بآلية تنفيذية حاسمة، يوقف انزلاق لبنان نحو شركة تجارية مساهمة ويحول دون تحول مكوناته من شعب في وطن إلى مساهمين في شركة.

ومن يتابع مسار تأليف الحكومة، يلاحظ أن الاتصالات بشأنها هي أقرب إلى مفاوضات تأليف شركة استثمار مغفلة منها إلى تأليف حكومة وطنية للدولة وللشعب. نشهد تأسيس شركة ذات رأسمال مشترك (مؤتمر سيدر)، يملكها مساهمون (الطبقة السياسية)، يحق لهم بيع حصصهم (بعد جني الأرباح) أو نقلها إلى فريق آخر (بداعي الوراثة). وما يعزز هذا الواقع هو الصراع على الثلث المعطل والثلثين الضامنين، فيما معطل الحكومات وضامنها، أي المحاسب والمراقب، هو المجلس النيابي وليست الحكومة نفسها.

لذلك دعا البطريرك الماروني إلى تأليف حكومة أخصائيين. ما طرح هذا المخرج شغفا بالأخصائيين، بل خيبة من السياسيين. وما كان البطريرك ليطلق هذا النداء لو لم يتيقن من أن دخول جمل في خرم إبرة أسهل من دخول الطبقة السياسية اللبنانية ملكوت الوطنية والنزاهة. رفع صوته وهو يدرك سلفا أن نداءاته قد تكون صرخة في البرية، لكن البطريركية، وهي أم الصبي لبنان التاريخية والشرعية، تشعر بمسؤولية تكرار النداءات واتخاذ المبادرات حتى تستجاب. لن تدع هذا الوطن يموت أو يصادر.

تشكيل حكومة أخصائيين (وهم أدرى من غيرهم بإدارة الشركات) سبق أن عرفه لبنان مرارا قبل "الطائف". وغالبا ما تركت تلك الحكومات الـ"إكسترا برلمانية" بصمات ناصعة على الإدارة اللبنانية. آنذاك، كان رؤساء الجمهورية يتمتعون بصلاحيات اختيار رؤساء الحكومات وتعيين الوزراء. فلجأوا في بدء عهودهم، إلى تأليف حكومات "إكسترا برلمانية" واختاروا لها، بالاتفاق مع رؤساء الحكومات، أهم النخب اللبنانية وأنزهها.

لكن تلك الحكومات تمتعت بصلاحيات استثنائية من مجلس النواب مدة ستة أشهر أو سنة، لكي تصدر مراسيم اشتراعية لإصلاح الدولة وتحديث المؤسسات والإدارات وتسريع تنفيذ المشاريع التنموية والعمرانية. هكذا نجحت عهود ما قبل دستور "الطائف" في بناء دولة عصرية بعيدا عن ابتزاز القوى السياسية.

أما اليوم، لا أهل السياسة يسمحون بتأليف حكومة أخصائيين، فهم يمارسون السياسة ليحكموا. ولا المجلس النيابي في وارد التنازل عن صلاحياته التشريعية للحكومة ولو اضطر إلى القيام بـ"6 شباط آخر"، ولا دستور الطائف يحبذ هذه الحكومات إذ باتت السلطة السياسية التنفيذية محصورة في مجلس الوزراء وليس لدى رئيس الجمهورية. وتاليا لن تتمتع حكومة أخصائيين لا بالشرعية السياسية ولا بالحق التشريعي الاستثنائي.

علاوة على ذلك، من سيعين الوزراء الأخصائيين؟ إنهم أرباب الطبقة السياسية الذين يسعى الشعب إلى التخلص من غالبيتهم من خلال حكومة تكنوقراط. أي أنهم سيختارون الأكثر طواعية وخضوعا واستجابة وإذعانا، وعبرهم يحكمون بأسماء مستعارة.

سقى الله ذاك الزمن الذي كانت فيه المؤسسات الدستورية ملك الدولة، ولو كانت موزعة طائفيا. اليوم، أصبحت هذه المؤسسات ملك الطوائف لا الدولة، وبالتالي: أي تنازل عن صلاحياتها، ولو ليوم واحد، هو اعتداء على حق الطائفة.

سابقا، كنا مختلفين على الوطن ومتفقين على الحياة المشتركة، اليوم تعمم الخلاف. عوض أن نحل مشاكلنا حللنا لبنان. فليست الحكومة من تصرف الأعمال بل دولة لبنان بكليتها تصرف الأعمال. وإذا كان تأليف حكومة جديدة ينهي تصريف أعمال الحكومة المستقيلة، فمن ذا ينهي تصريف أعمال الدولة المنحلة؟