دويّ الحكاية ولغة الخطاب في 'نساء هيبو وليال عشر'
يقول البعض أن تقرأ يعني أن تغادر نفسك إلى عالم آخر، وكلّ الأسئلة تبدأ بعد ذلك: سؤال الشّكل عن حركته وسكونه، سؤال المعنى عن موضوعه، سؤال الذّات عن قدرتها على المغادرة إلى أخرى عند نهاية النصّ...
أسئلة تجعل من القراءة حدثا فريدا. والعالم النصيّ لرواية "هيبو ونساء عشر" هو الآخر موجة لا تتكرّر. مررت به، فأخذني إلى عالم قلق. وإذا بي أتساءل عن:
- العتبات و علاقتها بالنصّ
- معمار الحكاية ولغتها التناصيّة
- مدى حضور الشخصيّة والمكان، وقد بني عليهما العنوان، في متن الحكاية
- وعن أبعاد النصّ الدّلاليّة
1 - عتبات النصّ:
ما من نصّ إلاّ ويأتي مسيّجا بنصوص مصاحبة، قد ترد على شكل علامات لغويّة أو بصريّة.
تضمّنت العلامات اللغويّة في هذا النصّ العنوان والإهداء والتصدير.
أمّا العنوان: فقد ورد مركّبا عطفيّا: حمل المعطوف عليه على الإضافة (نساء هيبو) فنسب الشّخصيات إلى المكان وجذّرها في ذاكرته. وحمل المعطوف على النعت تخصيصا (ليال عشر) وهو علامة زمانية دالّة في ظاهرها على القلّة وفي باطنها على الكثرة.
يحتضن المنعوت "ليال" في النصّ الحدث الأزمة (غياب نادر) ويقرن الشخصيات المؤنّثة بدلالات الانتظار والخوف والعطالة والعجز.
وأمّا الإهداء: فهو لدجلة العامري. ودجلة شخصيّة روائيّة في نصّ "العراء" لحفيظة قارة بيبان نشر سنة2013. فإذا دخلنا متن النص وجدناها تقول في الص 93:" سناء ابنة الروائيّة دجلة العامري صاحبة الموقف والقضيّة مؤلّفة رواية العراء" فإذا الحدود ضبابية بين الواقع والخيال. لكن ما الغاية من خلط الأوراق؟ هل هو مكر خيال كما تقول المؤلّفة أم هي الرّغبة في تسليط الأضواء على الضحيّة أملا في اصطياد الحقيقة.
بهذا انطلق التصدير الذي اختارته الكاتبة لابراهيم الكوني. والتصدير ينزاح بنا إلى عالم الجريمة. جريمة لا ترى ولا تحاكم إلاّ في حضور الضحيّة. فكم يلزم من ضحيّة كي يتمّ الاعتراف بالجريمة؟
تثبت النهاية المفتوحة للنصّ أنّ الحقّ لا يعود لأصحابه، لأنّ الحقيقة بألف لون ولأنّ حقيقة السلطة غير حقيقة الشعب.
في هذا النصّ تموت الحقيقة بمسدّس كاتم للصوت، مسدّس القتلة في البداية ثمّ مسدس السلطة وتغيب الضحيّة في المابين.
هذا فيما يتصل بالعلامات اللّغوية. أمّا العلامات البصريّة فقد اقتصرت على صفحة الغلاف وهي عبارة عن تشكيل بصريّ للمكان والزّمان، غابت فيه الشخصيات.
إنّه زمن الغياب والصّمت، ممّا جعل الأشياء والعوامل المناخيّة تستولي على سلطة القول: العاصفة ببروقها ورعودها، البحر بأمواجه الصّاخبة والمنارة بعينها التي لا تنام.
في هذا اللّيل تتحرّك شخصيات "نساء هيبو" شبحيّة لا ترى ولا يسمع لها صوت. هي شخصيات قلقة تحوم في المكان ولا تحقّق هدفا. فأيّ معمار يمكن أن يجسّد هذه الفوضى ويبنيها بناء جماليّا. وبأيّ لعبة هندسيّة يمكن كتابة التيه؟
2 - معمار الرّواية:
جاءت الرّواية على شكل فصول مرتّبة بحسب اللّيالي العشر المشار إليها في العنوان عدا اللّيلة الثانية التي تعود إثر بداية اللّيلة الثّالثة.
يمثّل كل فصل وحدة زمنيّة، قد تتناوب فيها القول شخصيّتان أو أكثر. ففي ليلة 18 ديسمبر نتابع صوت أحلام ومريم ثمّ سناء.أمّا في ليلة 19 ديسمبر فلا نقف إلاّ على صوت مريم.
هذا الترتيب الزمنيّ الذي يتخذ خطّا سرديّا آنيّا يتضمّن أيضا لحظات استرجاعيّة، فيحيل على ماضي الشخصيات. وتتعدّد وسائط الاسترجاع. فنجد شريط الفيديو ص133 وألبوم الصّور في ص50 والتداعي الحرّ للأفكار عبر الذّاكرة ص61. في مثل هذه الأوقات يلاحق الماضي الحاضر، يحاصره ويقطع عليه طريق المستقبل ويجعل الشخصيات تقع في بؤرة من التوتّر ممّا يجعل خيط الزّمن يتقطّع. وقد ينفلت نحو اللاّزمن حيث يسيطر عالم الخيال والوهم. وقد جاءت أحلام تجسيدا للواقع الكابوسي وتكريسا لمناخ قلق مهدّد. تقول في ص59:" إنّه شخص مّا في الظلام، شاهدت طيفه." ثمّ نجدها في ص 125 تحلم بالأب الخائن وزوجته الأمريكيّة. وقد تصل الشخصيّة إلى حدود الهذيان الذي يدفعها إلى الجنون. تقول بعد أن قتلت بنتيها:" سعيد، قد أنقذت أطفالنا وأنت بعيد، أنقذتهم، لن يقتلهم الإرهابي." هكذا يأخذ اللاّوعي الوعي إلى هاوية الجنون.
وإلى جانب النصّ الأصليّ نلاحظ أنّ الرّواية توشّى بمتمّمات نصّية هي عبارة عن مصاحيب داخليّة كالرسائل وقصاصات من الجرائد وورقة مسودّة قد تكون للراوية وبيان إدانة من رابطة الكتّاب التونسيين الأحرار.
وعموما، يقدّم معمار النصّ قراءة للواقع بكلّ تشظّيه وتناقضاته وينقل توتّرات الشّارع وصراع الشّخصيات الفكريّ والنفسيّ. وتجعل الخاتمة المفتوحة النصّ محمولا على اللاّيقين والشكّ.
3 - التناصّ في الرّواية:
واللاّفت في رواية "نساء هيبو" أنّها مكوّنة من مجموعة تناصّات جعلتها خاضعا للتّراكم. والتّراكم ظاهرة تؤسّس لمبدإ الحوار.إلاّ أنّها في الرّواية وظّفت لتكريس ظاهرة التكرار. فيجرف الحاضر الماضي بعلاّته ويتخذ النصّ بعدا لولبيّا خانقا. تمطّطه الساردة فإذا الرّواية رواية عن روايات. وإذا أحلام هي شرود وهي دجلة. وما بينهما صلة استعاريّة تفتح المعنى على التأويل وتعمّق الجرح. تنتج السّاردة شخصيّات مضاعفة، فتعيد كتابة الحكاية بأسماء مستعارة. هي الحكاية ذاتها، حكاية القمع والنفي.
هكذا تصبح السّاردة صدى لما لا يكفّ عن الكلام داخلها. إنّها تفتّت المعنى من حيث تحاول إثباته. ويصبح القصّ اختلاقا لبدايات جديدة لذات الحكاية، حكاية وجوه عشتار التي جعلت منها الحياة وجوها مشوّهة تستنسخ ذاتها وتؤكّد فعل المسخ فمريم المحبطة بخيانة زوجها هي أحلام المحبطة بخيانة والدها وهي سناء المحبطة بخيانة القانون الذي تصوّرته سندا. وكلّ هؤلاء صدى لشخصيّات نصّية غائبة كدجلة وشرود.
هكذا يعود بنا التناصّ في بعديه العمودي والأفقي إلى نقطة الصّفر، إلى سرديّة الخوف والعجز.
4 - الشخصيّة الروائيّة:
تعتبر الشخصيّة في الرّواية شخصيّة مصنوعة من كلام. تبني ذاتها في اللّحظة التي تتكلّم فيها. والشخصيّات النّاطقة في "نساء هيبو" نوعان: شخصيّات إنسانيّة وأخرى طبيعيّة.
أمّا الشخصيّات الإنسانية فبعضها حاضر في النصّ مثل مريم وأحلام وسناء وهي شخصيّات تبحث عن ذاتها وعن بعض انسجام مع قناعاتها.إ لاّ أنّها تواجه بواقع يزعزع مسلّماتها. فتتحوّل إلى شخصيّات قلقة تتخبّط في حبائلها وتلتمس الخلاص لنفسها. فينغلق عليها الشّرك وتتفاقم أزمتها. تقول أحلام في ص197:" يجمّدني الذعر والبرد والوهن الرهيب."
وتقول مريم في ص137:" ينهشني صقيع كاو وإحساس بالوحدة والخوف."
أمّا عن سناء فقد جاء في الص 9 قولها:" أعلن أنّي أنزع ثوب المحاماة وأرميه للموج."
تمتدّ هذه الشخصيات في شخصيات أخرى نصيّة غائبة هي الأخرى ضحيّة الحياة وظروفها، عاجزة عن فهم مصيرها.
والملاحظ أنّ هذه الشخصيات النسائيّة في أغلبها شخصيات منفعلة. في حين تظهر شخصيات مذكّرة فاعلة رغم غيابها – نادر- أو صغر سنّها-زهر-
وفي مقابل هذه الشخصيات الانسانيّة يرتفع صوت بحر هيبو في مفتتح الرّواية ونهايتها صاخبا و تتنوّع أفعاله بين:
_ حسيّة حركيّة: أركض، أدغدغ،أنساب، أتوغّل
- قوليّة: أوشوش، أغازل
- نفسيّة: مضيت هائما بمائي في جيوب هيبو
وبنفس الحدّة نسمع صوت الرياح:" تدعو، تطير تعوي."
5 - المكان في الرواية:
والمكان في الرّواية صورة سرديّة متخيّلة رغم إحالته على الواقع المرجع. وله فيها مكانة، إذ ورد مضافا إليه في العنوان:" نساء هيبو"
ولهذا المكان هويّة. إنّه موضع للكينونة بعناصره:
- التاريخيّة: إذ تأخذ الرّواية جزءا من التاريخ وتبني له متخيّلا سرديّا يرسم مع الواقع علاقة حواريّة. يقول البحر في ص13:" حبيبتي على مدى الدهر، يا معبر الماء، هيبو، هيبودياتيس، بنزرت، يا ابنة الفينيق منذ ستّة آلاف عام، أيّ حزن يحتويك الآن.
- الجغرافيّة: باعتبار مدينة بنزرت فضاء مغلقا ومفتوحا في آن، هو مغلق لأنّه ينقطع عن باقي البلاد بجسر يرفع في ساعة معلومة. وهو مفتوح على البحر. وقد جاء في الص13:" لم يبق غير عشر دقائق ويرفع الجسر المتحرّك على القنال، الجسر الفاصل بين المدينة البحريّة وباقي البلاد ولن يستطيع بعدها أحد الدّخول."
- الرمزيّة: فهو المكان المثير للحواسّ، الخصب بروائحه (روائح الطعام)
وهو المكان القلعة- الحصن وهو أيضا المكان السجن (مدينة تأكل أبناءها. ص193)
ثمّ إنّه بطل صامت ومتكلّم في آن. صامت في شكله البريّ ومتكلّم في صورته البحريّة. وكثيرا ما يكون المكان في هذه الرواية منطلقا لاسترسال تأمّليّ في الذّات والآخر.
6 - الدّلالة:
ونصّ نساء هيبو كتابة في مقام الغضب تعبّر عن اهتزاز الإيمان بالمسلّمات الوطنيّة وعن التشظّي الفكري والسّياسي والثقافي بسبب تمزّق القيم وفساد النخبة الحاكمة.
إنّه صورة عن الوطن الطّارد لأبنائه الذين وجدوا أنفسهم بعد الثورة يقفون على صفيح ملتهب. والثورة تعني في الأصل القطع مع الماضي. لكنّ القطائع في أوطاننا العربيّة خيانة للفساد وللوصوليّة.
كلّ هذا جعل النصّ في مواجهة قلقة مع الواقع فتتالت الأسئلة:
لماذا لا يحمي القانون أبناءه؟
لماذا يصبح الحبّ في مجتمعاتنا جريمة؟
لماذا يستهدف العلماء؟
هذه الأسئلة وغيرها تشي بكون يعمّه الفوضى، كون غير قابل للارتكاز على قيم جماليّة أو إنسانيّة.
كون مخيف، ونحن وإن كنّا نخاف لأنّنا نتوقّع الضّرر. فإنّنا اليوم نخاف لأنّنا لا نستطيع توقّعه. هذا المخيف قد يكون لعبة لا تعرف الشخصيّة مفاتيحها، ولا تعرف كيفيّة الخروج منها.
تلك هي كتابة المتاهة في "نساء هيبو" لحفيظة قاره بيبان.