ديمقراطية.. في سوق العمائم

الاصطفاء المقدس لشخوص يدعون ارتباطهم بالنسل المحمدي جعلهم يعتقدون أنهم قادرون على توظيف الدين والمذهب كيف يشاؤون.

بقلم: هاني سالم مسهور

دخلت عدد من الدول العربية في أنظمة سياسية مستحدثة بتفصيل النظام الديمقراطي بما يناسب التغول لتيارات «الإسلام السياسي» بشقيها السّني والشيعي فيما يمكن أن يكون ظاهرة سياسية بعد حقبة تاريخية من جمهوريات ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الأجنبي، ظاهرة ولا شك أسهمت فيها ظروف متداخلة، أوصلت عدداً من المجتمعات العربية لديمقراطية بنمطية دينية وطائفية.

المحاصصة التي عرفتها عدد من الأنظمة العربية كانت مدخلاً واسعاً لهذا الناتج من الفشل السياسي وبرغم أن شعوباً حاولت ومازالت تحاول كسر هذا المفهوم السياسي كما مازال يحدث في العراق ولبنان، غير أن الواقع يقول بأن المحاصصة السياسية بين القوى المتنفذة في عدد من الجمهوريات العربية تبدو صعبة الكسر ليس فقط لوجود قوى سياسية إقليمية تدعم تلك المحاصصة فحسب، بل بسبب أن ما وصلت إليه القوى الإسلاموية من قوة مستندة إلى سلاح الدولة يمكنها من الصمود، وتثبيت هذا الشكل من النظام السياسي حتى وإن رفضته الشعوب.

في لبنان مثلاً تسلل نواب الشعب سراً إلى مقر البرلمان لمنح حكومة المحاصصة صكاً سياسياً يشرعن وجودها السياسي، نواب الشعب يتسللون لتمرير المحاصصة هذا واقع حال لبنان، وكذلك المشهد في العراق الذي حشدت فيه جماهيره عشرات الآلاف على مدار أشهر طويلة لإسقاط المحاصصة فوجد الشعب نفسه أمام أصحاب قبعات زرقاء انسلخوا من بينهم لتثبيت محاصصة يرى فيها أصحاب العمائم أنها تبقي لهم سلطتهم السياسية وباسم الديمقراطية التي تم تفصيلها على مقاساتهم.

حتى في اليمن الراحل إلى مجاهيل التاريخ هناك شكل فريد من ديمقراطية تتحاصص فيها القبائل مع المذهبية لتتمسك العمائم بالسلطة السياسية في بلد بات رماداً على رماد من جراء اندفاع أولئك الزاحفين من الكهوف ليمسكوا بالسلطة ويخضعوا البلاد والعباد لديمقراطية وإنْ بدت فريدة في فحواها إلا أنها قائمة على تقاليد معقدة للغاية تتداخل فيها القبلية مع المذهبية مع المناطقية لتصنع هذا النموذج الديمقراطي.

كانت الشعوب العربية تعاني خلال عقود زمنية من حكم من طوعوا الديمقراطية ببنادقهم وحديدهم فحكموا البلدان والشعوب تحت شعارات الحرب المزعومة مع عدو افتراضي لم يطلقوا عليه رصاصة واحدة، بل أطلقوا كل الرصاصات لصدور شعوبهم كلما طالبوا بشيء ولو يسير من كرامة الحياة، تلك حقبة انتهت بشكل أو بآخر وبوصف أدق انحسرت لتصعد إلى الواقع سلطة العمائم لتنسج ديمقراطية ترتبط هذه المرة بالسماء.

الاصطفاء المقدس لشخوص تدعي ارتباطها بالنسل المحمدي الشريف وعلى رأسها عمائم وتحيط نفسها بهالات ضخمة من القدسية الدينية تعتقد أنها قادرة على طيّ القرون البعيدة لتوظيف الحاضر لوجودها السلطوي باسم الدين والمذهب في استدعاء لا يبدو طارئاً، لكنه استدعاء مكنون في ضمائر ظلت تتربص بالفرصة حتى جاءت لتصنع هذا الشكل من النظم السياسية وإن كانت غير متوافقة مع العصر.

في هكذا سياق لا يجب الابتعاد عن «ديمقراطية الإخوان» التي بدت مفرطة في السماجة عندما وصل محمد مرسي لحكم مصر وأعفاه المرشد العام لجماعة «الإخوان» من البيعة، هنا تبدو الديمقراطية بلا حول ولا قوة بين يدي المتلاعبين بها، وكأنها مادة زئبقية تتشكل بعوامل الحرارة والبرودة فهي بالنسبة لأصحاب المشاريع «الإسلاموية» مجرد إطار من خلاله فقط يصلون للسلطة، ثم تتحول لشكليات تقدم للشعب من خلال خطابات وشعارات من دون مضمون لنظام الحكم السياسي الذي يستوجب قوة القانون.

الغضب الشعبي لم يكسر المحاصصة برغم التضحيات، وبرغم صوابية المطالب لكسرها، فكل الأنظمة السياسية القائمة على هكذا أساس تعرف أن رضوخها وتقديمها للتنازلات يعني هزيمتها وعودتها إلى كهوفها، ولعل المحاولات الشعبية لكسر هذا النوع من النمطية السياسية، أظهر أيضاً أن السلطوية الإسلاموية مستعدة للتحالف مع قوى الفساد الاقتصادي لتتمكن كل الأطراف من البقاء في سلطة الحكم، هذا تحدٍ آخر أظهرته محاولة الشعوب الأخيرة، وهي ترى هذا التزاوج بين أطراف تمتلك القرار السياسي، وإن كان عبر الاختطاف تحت نظر العالم.

البؤس المعيشي والفساد الاقتصادي والجهل مجرد نتائج تحصدها الشعوب بعد أن اختطفت السلطة السياسية باسم ديمقراطية مشوهة بل هي مجرد مسخ قائم تلوذ به أنظمة الحكم للاختباء عبر سواتر هشة لتمرير سلطتها الحاكمة وإهدار الفرص وإتلاف الطاقات والإمكانيات في ارتهانات خاطئة لم تجلب لشعوب الأوطان المختطفة شيئاً من كرامتها أو قليلاً من حقوقها في الحياة الكريمة.

أمام كل هذا التراكم من الفشل ليس أمام الشعوب سوى مواصلة جهدها لكسر هذه التابوهات، وإن تلبست بالقدسية المزيفة وتحصنت وراء الشعارات الكاذبة التي تسوغ تمرير هذا الشكل من الديمقراطية، الذي لن يؤدي في نهاية مساراته لغير تكرار الفشل والبقاء في قاع الدول، فلا يمكن أن يتزاوج الدين بالفساد فكلاهما يرفضان الآخر إلا عبر المختطفين للنظم السياسية، وإلباسها عباءات الدين لتمرير صفقات الفساد وتكريس الجهل في الشعوب وجرها لأزمات وحروب لا حاجة لأحد بها سوى ثلة فاسدة وجدت في تفصيلها لنظام ديمقراطي شيئاً يستر عورتها لتتسلط على حقوق الناس والحصول على شرعيات سياسية غير مستحقة.

نُشر في الاتحاد الإماراتية