
'ذاكرة الوصال' رحلة بالخيال بين المكان والأدب والفن
تقول د. لنا عبدالرحمن في كتابها "ذاكرة الوصال" (ص 253) "انتمى إلى نوع البشر المؤمنين بأنه إذا كان لديك مكتبة وحديقة فقد امتلكت العالم" وربما تكون هذه الجملة هي محور الكتاب وخلاصة ما ورد به من أفكار، لأن القارئ سوف يجد نفسه أمام مصنف إبداعي يشرح علاقة المؤلف بالورود والأدب والفن، من خلال بعض التحليلات المطرزة بقدرِ ما من الخواطر، حيث تعتمد الصياغة على السرد الحسي؛ واللغة الرومانسية الفريدة، التي ترتبط بالثقافة بمفهومها الواسع، حيث تبدو دلالات المكان والزمان التي بين دفتي هذا الكتاب، كأنه تخبرنا باقتران التناول بالروح النقدية، وقد جاء السرد متدفقًا لصالح عرض الأفكار، وهذا الكتاب يخاطب الإدراك الجمالي في المقام الأول.
وعلى الرغم من أن هذا الأسلوب يُعد تمردًا على الإطار التقليدي للسير الذاتية، إلا أنه جاء فوق مائدة الحواس، مطرزًا بالكلمات المجدولة بالرموز، والجمل التي تعطي مذاقًا بطعم الأحلام الليلية، فالمعاني الرقيقة تطل من بين السطور، لتخبر المتلقي بالكثير من التأويلات التي تمس ذكريات الطفولة والصبا والخريف، والمستقبل، من خلال العلاقة بين المكان والأدب والفن.
علاقة المكان والورد بالسرد: تخبرنا الكاتبة بجمل مختصرة بأنها لبنانية الميلاد ومصرية الهوى، عاشت بواكير الصبا في بيروت، داخل بيت زينته ورود الغاردينيا، ذات اللون الأبيض الناصع الجميل، وأن روحها قد تشبعت بهذا الصفاء الفطري؛ ولكنها عندما غادرت المنزل تحت وطأة القصف خلال الحرب اللبنانية، انتقلت إلى حضن القاهرة بحي الهرم، لم تستطع زراعة وردتها المحببة بالحي المزدحم مرة أخرى، ظل هذا الحلم البسيط يداعب خيالها، إلى أن استقرت في حي الأشجار بمدينة 6 أكتوبر، وحاولت أن تزرع زهرة الغاردينيا بحديقة البيت الجديد، لكنها لاحظت أن الوردة تذبل بسرعة، لأنها لا تتحمل حرارة الشمس أكثر من 4: 6 ساعات، ومع هذا لم يتراجع بداخلها حب الحديقة، لأن عشق الورد عادة فطرية لدى معظم البشر، وقد تجلى عشق الكاتبة للزهور في ثانيا سردها، الروائح الذكية تملأ الوجدان برائحة الفواكه، كذلك عبق الصنوبر في عالم بلا جدران، كل هذا يتدفق باستمرار أمامها، للمقارنة بين الحياة في أحضان شجرة التوت في بيروت، وبين الحياة الحالية داخل الكتل الخراسانية المتلاصقة.
الطعام والمشروبات: تتوالى الذكريات القادمة من الأمس، لاستحضار رائحة الطعام المتصاعدة من مطبخ الأم، حيث تختلط رائحة حبات الهيل؛ التي وضعت بطاجن الدجاج الهندي، مع ذاكرة طعم المذاق الشهي في ذاكرة اللسان، هذه الذكريات القادمة من عالم الطفولة، ما زالت تعيش بداخلها مختلطة بحنان الأمومة.
بعد احتساء ما بداخل فناجين القهوة، توضع فارغة ومقلوبة فوق الصواني، ثم يعاد رفعها إلى أعلى؛ بهدف قراءة الفنجان، وربما تكون مثل هذه العادات مدخلا لفهم طبيعة الإنسان العربي على مدار التاريخ، فقد كان يشعل النار بالصحراء بالليل ليهتدي إليه الغرباء من المارة وأبناء السبيل، حيث تقدم القهوة للضيف، ثم تنحر له الذبائح لمدة ثلاثة أيام للضيافة، ولكن دون قراءة الفنجان.
تقابل عادة شرب القهوة اللبنانية، عادة شرب الشاي عند الإنكليز والمصريين، كذلك عادة ولع الأفراد في الإمبراطورية الرومانية القديمة بشرب الخمور بالكؤوس، وهي نفس عادة الغرب حتى هذه اللحظة، وهذا الأمر جعل الكاتبة تلتقط ما تردد حول قيام أحد المهووسين بسماع كوكب الشرق أم كلثوم، بشرب الخمر في كعب حذائها.
ومن هذا المعنى علينا أن نشارك الكاتبة الحقيقة التي لم تفصح عنها، ألا وأن الحروب تحول شذى الورود، وكل ألوان الجمال إلى روائح كريهة، حيث روائح الموت والدماء والبارود بين أطلال المكان، وعلى سبيل المثال؛ حصدت الحرب الأهلية اللبنانية وما تخللها من عدوان إسرائيلي بالفترة ما بين 1975 و1990 نحو أكتر من 120 ألف قتيل، هذا بخلاف ملايين الجرحى والمشردين.
الأدب والحب والرسائل: تناولت الكاتبة تحت عنوان عشاق بلا رسائل، رائحة الورق الذي يحمل محتويات النصوص الأدبية، كذلك الشكل التقليدي للرسائل الورقية بين انجي وعلي في فيلم "رد قلبي"، المأخوذة عن رواية الكاتب الراحل يوسف السباعي، على اعتبار أن الرسائل المحترقة في عشرات الأعمال في تاريخ الأدب والسينما، كانت وسيلة للتواصل، أو التعبير عن التذبذب في العلاقة بين الرجل والمرأة، وخاصة في الفترة ما بين القرنين السابع والثامن عشر الميلادي، في أوج ما عرف بأدب الرسائل، حيث نقل الفن الروائي تقنية التواصل بالرسائل بين العشاق إلى صفحات الأدب، أو كوسيلة لحفظ الذكريات، بينما كان مصير رسائل أخرى هو الحرق.

لقد استبدل المحبين لغة التواصل الورقي القديمة، بالتواصل عبر الإميلات أو مواقع التواصل الاجتماعي بالعصر الحديث، حيث ورد في رواية "نجمي" ثلاثين رسالة، للتواصل بين الزوج عادل ذو الخمسين عاما، وبين زوجته الألمانية ذات الثلاثين ربيعًا، كبديل عصري لنقل المشاعر العاطفية.
لقد أسفر هذا التطور غير البعيد، عن تغير الوسائل التي استخدمت في الماضي لمعرفة أخبار الأهل والأحباء، وأن أطلال الرسائل التي تحولت إلى جزء من الماضي، أصبحت مادة أثرية تطرح للبيع في المزادات العلنية، كما طرحت إليزابيث تايلور أحد رسائلها الغرامية للبيع بمبلغ يتراوح ما بين 25 و35 ألف دولار.
النساء وأمزجة الرجال العرب: تبدو أذواق الرجل العربي في تحديد الجمال مختلفة، حيث كانت الأمهات العربية تعتقد أن النحيلات مصدرًا لجلب العار لأسرهن، ولذلك تلجأن إلى ظاهرة التسمين القسري للبنات؛ بدس نوعيات محددة الطعام في الأفواه، حتى تملأ الأجساد بالشحوم، على عكس الغربيين الذين يفضلن النحيلات، ومع ذلك مازال الأولويات في بعض البلدان العربية لصالح تفضيل المرأة الممتلئة.
رغم أن الإشارة إلى هذه النقطة تحتوي على بعض التناقضات داخل العقل البشري، إلا أنه من الضروري مناقشة هذه الظاهرة من منظور علمي، لأن السمنة تزيد من خطر الإصابة بالسرطان في الرحم وعنق الرحم وبطانة الرحم والمبيض والثدي والقُولون والشرج والمريء والكبد والمرارة والبنكرياس والكلى والبروستاتا، هذا بخلاف مشكلات الهضم، واحتمالات الإصابة بحرقة المعدة واعتلال المرارة ومشكلات الكبد، وغيرها، وهذا يقودنا إلى ضرورة التوازن في السلوك الغذائي الذي يناسب كل حالة، حسب ما يبذله الفرد من طاقة، أو حسب طبيعة العمل، وحاجة الجسم من السعرات الحرارية.
الغناء وظلال الدراما: برزت العلاقة بين الفن وذهن الكاتبة، على أنها علاقة وطيدة، وذلك عندما استعرضت الذكريات العالقة بالعقل منذ مرحلة الطفولة، حيث أغاني فيروز الجميلة، وخاصة عندما تغني لتعبر عن الهوية اللبنانية، أو عند الغناء للمدن العربية، كالقدس، ومكة والشام والإسكندرية والأردن وبغداد، كذلك ألحان بليغ حمدي المتنوعة، وأغنية داليدا حلوة يا بلدي.
يمثل استقرار الأغاني الراقية بالذاكرة حتى اليوم، قوة الفن العربي بالماضي، لأن الأغنية التي تطرب الجمهور، إنما تنطلق من الرصيد الحضاري للأم، وهذا يجب أن يأخذنا على الفور لرفض الإفلاس الحالي في صناعة الغناء، الذي لا يعدو في مجمله سوى ثرثرة قبيحة.
كذلك السينما العربية بالماضي، حيث كان فيلم "اليوم السادس" على سبيل المثال من الأفلام الجميلة، أضف على ذلك الدراما التلفزيونية، كمسلسل "ليالي الحلمية"، ومن قبله الشهد والدموع، وغيرها.
ومن هنا سوف نكتشف أن الذاكرة الفنية لدى للكاتبة ما زالت تدور في رحى الماضي الجميل، وهذا يقودنا إلى الحديث أن المخرجات الدرامية بالحاضر في معظمهم هزيلة، وهذا يتناقض مع سنن التطور التي ترقي بمخرجات الفكر البشري. ومن الجدير بالذكر أن كتاب "ذاكرة الوصال" صادر عن دار عين بالقاهرة 2024.