
رحيل عبوسي.. فنان فكاهة العراقيين حمودي الحارثي
تلقت الأوساط الثقافية والفنية بألم بالغ وبأسى ولوعة خبر رحيل فنان الشعب القدير حمودي الحارثي الشهير باسمه المحبب للجميع "عبوسي" الذي بات (ماركة مسجلة) لأبرز ثنائي فني عراقي هو والفنان القدير سليم البصري "حجي راضي"، في "تحت موس الحلاق" المسلسل التلفزيوني الكوميدي الأنجح، الذي قدم مطلع ستينات القرن الماضي وما زال إلى اليوم راسخا في ذاكرة كل العراقيين، لما انطوى عليه من واقعية وتلقائية وعفوية وسلاسة في الأداء والشكل والمضمون تعاونا على صياغته مع المؤلف والمخرج وفريق كبير من نجوم الفن العراقي، الذين برحيل حمودي الحارثي قد اكتمل غيابهم عن الساحة الفنية وأفل عصر عمالقة الفن العراقي إلا القليل منهم أطال الله تعالى بأعمارهم.
يوم السبت السابع عشر من أغسطس/آب 2024، رحل محبوب الشعب حمودي الحارثي في هولندا وتحديدا في مدينة زوترمير، بعيدا عن أرض الوطن، رحل الذي رسم البسمة على شفاهنا وشفاه الكثيرين من محبيه ومعجبيه من أبناء الشعب العراقي، عن عمر ناهز الثمانية والثمانين عاما إثر مرض لم يمهله طويلاً..
وبرحيله تفقد الثقافة والفنون في العراق والوطن العربي أحد أبرز رموزها الأفذاذ، بعد أن قدم مسيرة حافلة بالعطاءات الكبيرة والمتنوعة في مختلف مجالات الإبداع في الإذاعة، والتلفزيون، والسينما، والمسرح منذ مطلع ستينات القرن الماضي، ليشكل رحيله خسارة فادحة لا يمكن تعويضها على الإطلاق.

ومن باب الوفاء والتكريم الذي يليق بمبدعي العراق ولأهميته ومكانته الإبداعية المميزة، وجه رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، بنقل جثمان الفنان حمودي الحارثي من هولندا ليُوارى الثرى في بلده العراق، الذي أكد دولته في بيان التعزية "برحيله الأليم، يكون الفنّ العراقي قد خسر قامة معطاءة، وشخصية ثقافية متميزة، لامست روح الشعب، وعبرت عن مكنوناته الفنية والإبداعية"، مقدما "تعازيه ومواساته إلى أهل الراحل ومحبيه وللأسرة الثقافية والفنية العراقية".
ولد الحارثي عام 1936 بباب السيف في جانب الكرخ من بغداد معشوقته الأثيرة، وفيها تعلم فنون صنعة فيها من الفن الكثير ميزته عن أقرانه من الأطفال، فمنذ نعومة أظافره تعلم النجارة وهو في السادسة من عمره على يد أخيه، الذي ورث المهنة عن أبيه الذي لقب بنجار الأئمة، حينها، لصنعه الكثير من الأبواب والشبابيك للأضرحة المقدسة في الكاظمية، وسامراء، وكربلاء، وفي جامع القادرية، وساهم في بناء ضريح النبي حزقيال في الحلة، وقام بعمل أثاث عائلة الاستربادي في الكاظمية، وبيت النواب، والشيخ خزعل شيخ المحمرة في البصرة آنذاك.
ولم يغادره هذا الشغف لهذه الصنعة المميزة وما يكتنفها من عوالم فنية بحتة التي باتت ديدنه حتى آخر لحظة من حياته، فأفضت به إلى دخول معهد الفنون الجميلة مع الراحلين الكبيرين الفنان جواد سليم، والفنان فائق حسن، لدراسة وصقل موهبته في النحت والرسم، وتفرغ للتمثيل والإخراج من عام 1958 ولغاية عام 1961 ومن ثم درس الفن والإخراج السينمائي لمدة عامين في فرنسا (1964-1965)، وبعدها درس الفن والتمثيل السينمائي من عام (1974-1981)، وله في ميدان السينما صولات إبداعية أبرزها "العربة والحصان" الذي قدم فيه ثانية مع سليم البصري رائعة سينمائية كوميدية جديدة، كتبها السيناريست العراقي الأمهر ثامر مهدي، وأخرجها الفنان السوري محمد منير فنري، وشارك في صناعتها نخبة من نجوم الفن العراقي.
المتتبع لسفره الإبداعي يجد ذلك التميز بأداء أدوار كوميدية حققت لهُ شهرة كبيرة في العراق، ومن أشهرها شخصية "عبوسي" في مسلسل "تحت موس الحلاق" للمخرج الراحل عمانوئيل رسام، ومشاركته في العديد من الأعمال المسرحية والمسلسلات والتمثيليات وأهمها: حياة العظماء، مع الخالدين، كاريكاتير، إلى من يهمه الأمر، وشارك في أكثر من 500 عمل إذاعي وتلفزيوني، وخاض عملية الإخراج لكثير من البرامج التلفزيونية ومنها: "العلم للجميع" للأستاذ كامل الدباغ و"الرياضة في أسبوع" للأستاذ مؤيد البدري، وقد كان بلمساته الإبداعية قد حقق ثنائية الإبداع في نجاح وشهرة هذين البرنامجين، اللذين لم يأت بعدهما ما يفوقهما شكلاً ومضمونا.
وبسبب النجاح الكبير لمسلسل "تحت موس الحلاق" وعند عودته من القاهرة عام 1981 أرسل إليه وزير الإعلام آنذاك طالبا منه أن تعاد كتابة المسلسل في جزء ثان وأن يشارك هو في العمل، لكن حمودي الحارثي اقترح أن يخرجه بنفسه دون المشاركة بالتمثيل، وبالفعل أعاد مع الفنان البصري كتابة النص والسيناريو، نجح العمل فنيا ولكن الجمهور لم يتقبله لعدم وجود شخصية "عبوسي" فيه، وقدم هذا العمل مسرحيا في أميركا في خمس ولايات أميركية عام 1978 مع الفنانة غزوة الخالدي والفنان طالب القره غولي.
وقد عانى، كما هو حال كثير من مبدعي العراقي، في ظل الدكتاتورية والاستبداد والحصار الجائر، فهاجر إلى الأردن عام 1995، ومنها إلى هولندا كلاجئ إنساني، فلم يغادره حبه الأول لفن النحت، فأقام خلالها أكثر من 15 معرضا للنحت داخل المدن الهولندية مع 15 لقاء جماهيري للعراقيين والعرب، وكذلك في السويد والدنمارك وألمانيا، ليؤكد موهبته نحاتا وفنانا تشكيليا لاسيما عبر أعماله الفنية الرائعة على الخشب ..

لقد كان الراحل الجليل والعراقي الجميل حد النخاع من النخب المثقفة والفرق الفنية التي صاغت متواليات الإبداع الرصينة وكل الجماليات الأصيلة، فكان فنانا كوميديا حقيقيا، تميّز بتلقائيته المباشرة في كل أعماله التمثيلية، وكما قال عنه المفكر العراقي سيار الجميل فلقد: "كان إنسانا حيويا نشيطا سريع البديهة، حاضر النكتة، يرسم الابتسامة على الوجوه، متواضعا سمحا يعتز بفنه وأصالته..".
عزاؤنا أنه سيظل خالدا بأعماله التي ظلت وستظل راسخة في ذاكرة الأجيال والفن العراقي، لأصالتها وصدقها وعمق تأثيرها..
رحم الله تعالى حمودي الحارثي الزميل والأخ والصديق والإنسان بكل معنى الكلمة .. ستبقى ذكراه عالقة في القلوب..