رحيل يحيى عبدالقهار صانع 'حكايا الخشب'
متوالية خسائر الثقافة والفنون العراقية لرموزها من المبدعين الذين حفروا وجودهم وعطاءاتهم في ذاكرتها الجمعية تتواصل يوما بعد آخر، وكان النحات العراقي الأصيل يحيى عبدالقهار واحدا منهم ، حيث رحل إلى الرفيق الأعلى في السادس عشر من يوليو/تموز 2024 رحل عن عمر ناهز التاسعة والستين عاما إثر مرض لم يمهله طويلاً...
لقد استطاع هذا الفنان النحات المولود في مدينة الرمادي في محافظة الأنبار في العام 1955 أن يحول منحوتاته التي كانت مادتها الأولى الطين القابلة للتكوين، ومن ثم مادة الخشب، إلى فن نابض بالحياة ناطق بالجمال والإنسانية واستنطاقها تجاه ذائقة المتلقي الذي ينجذب منذ النظرة الأولى إليها، مستغرقا في التفكير في ما وراء هذه المنحوتات من أسرار ودلالات فنية راقية، ورؤى فنية اتسمت بجمالياتها المفرطة في النعومة، وبوضوح الرمز في مغامرة بصرية إبداعية تتفاعل مع إنسانية العمل وعالميته، إذ حرص على أن تكون أيقوناتها ذات صلة بالواقع الذي يتبدى فيه الخيال والحس الرومانتيكي المتوهج، فمنحوتاته أشبه بكائنات حية دائمة الحركة، ولها القدرة على الحديث مع المتلقي لكنه حديث رمزي يفيض بالعاطفة، والحميمية، لإثارة قناعات وتوجهات وجماليات المتلقي ببعد تواصلي يهدف إلى تفعيل الشراكة والتأمل والتفكير، وإنتاج بنى عميقة الأثر من خلال مؤشرات جمالية ومعرفية وإصغاءات واعية لترميزات الإنسان الوجودية، التي برزت من قبل النحاتين الأوائل من أسلافنا الذين تركوا لنا آلاف الأعمال النحتية الأثرية المتنوعة من أقصى شمال بلاد الرافدين إلى جنوبها والمحملة بإبداعات حضارية تمظهرت في نتاجات رواد النحت العراقي المعاصر، بحكايا الوطن، والحب، والألم، والضمير، والغربة، والأمل، والموت، والخلود، والحروب، والانتهاكات، وغيرها الكثير.. مؤكدا حقيقة أن النحت العراقي المعاصر هو سليل النحت الرافديني الأصيل.
إذا.. فهذه التجارب والرؤى الإبداعية للنحات يحيى عبدالقهار لم تأت من فراغ فاكتنزها في مخياله وعطاءاته المتنوعة، ليصقل موهبته وشغفه بالنحت من خلال الدراسة في فرع النحت بأكاديمية الفنون الجميلة في جامعة بغداد عام 1973، حيث درس فن النحت على يد أساتذة كبار وتخرج عام 1977، وبعد عودته من لندن بعد دراسة قصيرة استلهم الفنون وطوّرها وكان مثالاً للفن الحديث المتطور، وقد عمل مدرسا ورئيسا لقسم الفنون في معهد إعداد المعلمين في محافظة الأنبار، وعمل رئيسا سابقا لفرع نقابة الفنانين في المحافظة ذاتها والتي كان من أبرز مؤسسيها، ليسهم في رفد تلاميذه وزملائه بخبراته ومعارفه في هذا المجال الحيوي والصعب المنال قياسا إلى بقية أنواع الفنون التشكيلية، فكان خير المربي والمدرب والأستاذ الباذل والباذخ دوما، كما كان يتسم به من أخلاق دمثة وروح سمحة جعلته محبوبا لدى الجميع، والمدافع بفنه ضد ظلامية وأجندة عصابات داعش الإرهابية، التي واجهها بسلاح الفن في أعمال استلهمت تحدي وصمود العراقيين ضدها، مجسدا فجائعها وجرائمها بحقهم، ومنها مجزرة سبايكر وغيرها.
فلقد كان النحت في أجندة عبدالقهار الإبداعية - كما يرى – "عالم خاص لكنه كان ابن عصره وواقعه، فهو يوثق الأحداث ويختصرها بانحناءة نصب، أو صرخة جسد، وشخوصه تتشح بالحزن" عندما تحل الأزمات والمآسي لكنها تتسم بالتحدي والإصرار المفعم بالأمل الذي يشير إلى المستقبل، و"يراهن على التجربة العراقية في النحت ويثق بأنها ترتدي رداء العالمية"، مستندا في ذلك إلى هذا الكم الهائل من عظمة ومكانة إبداعات فنانيه الكبار الذين استلهموا حضاراتنا الإنسانية الأولى التي علمت البشرية أبجدية العلم والنور والمعرفة من خلال مجسماتهم وشخوصهم المضمخة بالألوان، ليجسدوا من خلالها رؤاهم وقناعاتهم عما يمر به بلدهم من أحداث.
ليحلق يحيى عبدالقهار من جديد إلى العاصمة بغداد التي بات من أبرز فنانيها وفناني العراق، فأقام معرضه الشخصي الأول "حكايا الخشب" في قاعة حوار في بغداد عام 2018، الذي ضم 23 عملاً نحتيا تحمل معاني إنسانية متنوعة، موظفا "الخشب بطريقة حررتنا من البرونز الذي كنا نعتقد دائما أنه هو المقدس المحلي في النحت"، أما في معرضه الشخصي الثاني "شغف الأجساد"، فقد حلق به إلى الفضاء العربي وتحديدا في عمان بالأردن عام 2018، والذي أقيم في قاعة مجلس الأعمال العراقي، وتطرق فيه لموضوعة الإنسان رجلاً وامرأة والعلاقة بينهما، مؤكدا دورهما في كل المجتمعات الإنسانية، عبر أربعة وعشرين عملاً نحتيا من مادة الخشب مضافا إليها الحديد واستخدم ألوان زيّنت بعضها لتعزيز رؤاه وخطابه الجمالي. كما أقامت له دائرة الفنون العامة في وزارة الثقافة والسياحة والآثار معرضه الثالث "إلكتروني"، وشارك ضمن سلسلة معارضها المشتركة لفناني العراق، وتلك التي أقيمت في كل من: بغداد، القاهرة، عمان، تونس، البحرين، تركيا وغيرها.
لقد رحل الفنان والنحات الكبير يحيى عبدالقهار صانع "حكايا الخشب" وهو لما يزل في عنفوان عطائه وأحلامه الإبداعية والجمالية ليشكل هذا الرحيل خسارة فادحة لكنه بما قدمه من أعمال ضاجة بالإحساس والجمال والإبداع ستظل راسخة في سجل وتأريخ الفن العراقي.