"رسائل الحنين" تعزف تنويعات المحب على نزيف الوطن

الشاعر المصري في قصائده، مهموم بالوطن ومنغرس في قضاياه الحياتية والإنسانية حتى العظم، وتعد قصائده الصوت الأكثر صدقا ووطنية ووعيا تجاه الحقائق.

 بقلم: فرج مجاهد عبدالوهاب

لا يختلف اثنان على أن الحالة الشعرية التي تتلبس شاعرا ما ماهي إلا مقامٌ من مقامات الإبداع، ومقاربة من مقاربات الوجدان، يعزفها المبدع الصادق مع نفسه ومن حوله، تنويعات لها الحق في أن تأخذ الاتجاه الذي تُحسّه وتعيشه، رافضة، موافقة، ناقدة، عاشقة، صادقة أم كاذبة وكلها أحاسيس نابعة من المشاعر المتدفقة التي تجذب النفس وتناقشها حتى تأخذ أبعادها على مساحات الورق آراء ومشاعر وأحاسيس تنساب حرّة معبرة عن كل ما يختلج في أعماق النفس، ويعتمل في دواخلها ويُشعل ضميرها، لاسيما إن كان المبدع أكثر صلة بالأرض التي أنجبته، واقوى علاقة تبادلية مع الوطن الذي ينعم بخيراته ومن دوافع ذلك الحب المتدفق عطاءً ووعيا واتزانا من حقه أن يكون له موقف يتبناه حتى وان كان سلبيا، فلأن الإشارة إلى تلك السلبية والدلالة عليها فإنما تشكل قفزة في اتجاه الوعي الخاص والعام من اجل تجاوز ما يؤرقه من سلبيات تعيق تقدم الوطن الذي يعشق.

من البديهي في مثل هذا التناول أن تتسرب الخطابية والمباشرة العادية إلى عدد من القصائد وهذا لا يعيب الشعر أو الشاعر

من هذا المنطلق لا أخال الشاعر حسن حجازي في ديوانه "رسائل الحنين" إلا واحدا من الشعراء المهمومين بالوطن والمنغرس في قضاياه الحياتية والإنسانية حتى العظم، لتأتي قصائده ليست صوتا مختلفا لكل ما أفرزته ثورة يناير، وإنما الصوت الأكثر صدقا ووطنية ووعيا بحيث لم تأخذه الشعارات والهتافات إلى زمر المطبلين والمزمرين، إنما وضعته وجها لوجه أمام الحقائق التي غابت عن أعين كثيرٍ من الناس والمبدعين الذين أغوتهم الشعارات ومضوا خلفها من دون أن يحققوا أو يخفقوا بما أفرزته الثورة وما آلت إلىه الأمور في كثيرٍ من المسارب المفاجئة وغير المتوقعة أصلا ولذلك حملت قصائده الصوت الآخر واللغة المختلفة، الصوت الذي لم يغرد خارج السّرب وإنما في قلبه ولكنه تغريد بلغة النقد الذي يُنبه ويحذر من دون أن يفقد الأمل بقدوم فارس المحروسة الذي سينقلها إلى الغد مع تباشير صباح جديد يحمل الأمل والفرح.وحسن حجازي الذي قدم من قبل دواوين "في انتظار الفجر" و"حواء.. وأنا" و"همسات دافئة" و"التي في خاطري" و"25يناير.. وميلاد جديد" و"الربيع على ضفاف النيل" كما قدم إسهامات ومساهمات متميزة في مجال الترجمة من الانكليزية وإليها، يقدم لنا في هذا الديوان عشرين قصيدة كُتبت نصفها عام 2012 وكتب النصف الآخر عام 2013، وهذا يعني أن القصائد واكبت الحدث العظيم وعبرت عنه بأسلوب المحب وليس المداهن، بلغة الصادق وليس بلغو الحاذق المتحذلق بضمير من أحب مصر وعشقها وليس بصوت من ينادي علي مصالحه.

"رسائل الحنين" تعزف تنويعات المحب على نزيف الوطن
وطن يرنو الى الامام

ولذلك كان النقد صوتا مرتفعا في نبرة القصائد جميعها نقد لذلك الربيع الذي لم يفرز سوى خيبة آمال الشباب في يناير بعد أن أطبق العنكبوت شباكه عليها:
كلُّ أزهار الربيع
 التي أينعت
بعد فجر يناير
اختطفها البوم
 وسرقها الغربان!
كل ما تبقى هنا من سنابل الحرية:
بضع رايات، بضع كلمات 
وأضغاث أحلام!

إلا أن الشعب الذي أدرك أن هناك من سرق ثورته لم يسكت بل خرج إلى الميادين يُطالب بحقه المشروع ويرنو للأمام:
عندما أيقن الشعب بحلول الظلام
خرج من جديد
يطالب بحقه المشروع
ويرنو للأمام

فكل ما يُشير في الأفق يدل علي أن مصر في خطر تحاول أن تختصر المسافات، وتلملم الشتات ولذلك فإن القضية باتت محسومة نكون أو لا نكون:
مصر في خطر
نكون أو لا نكون
مادمنا نهون
من تجار الكلمات
 ممن لا يعرفون
معنى للوطن
فلتسقط الأقنعة
 ولتحيا الشعارات
ولننتظر الشفاعة
 ونُقدم فروض
السمع والطاعة
فلتجف المياه
 وتسودُ المجاعة
ولتذهب مصر
 لغياهب الجبِّ
للهشيم المحتضر 
أو للجحيم المنتظر

إنها لا تشكل إشارة إلى الإحباط والتشاؤم والخوف، بقدر ما تشكل صوت ناقوس قوي يُعنف النائمين ويدعوهم للنهوض من سباتهم ليدافعوا عن حياتهم بقوة الحقيقة لا بتخاذل الصلح من اجل إحياء المصالح:
أيها المصري
انهض من سباتك 
دافع ن حياتك
أيها المصري: 
"لا تصالح"
تبا للمصالح 
فللجحيم أبا لهب
لعن الله من خان
من باع ومن غدر
هل هذا هو الربيع المنتظر؟

وعلى ذكر ذلك الربيع الذي كان حاضرا في معظم قصائد الديوان إلا انه حضور سلبي وموضع تساؤل واستغراب.
عبثا تنتظرين الربيع
مادامت كل وريقة
تنبت لأطفالك 
يأكلها الغربان

فعبث انتظار الربيع المؤمل والمنتظر صار نوعا من العبث بسبب السمّ الذي دسّه تجار الدين وعبدة الأوثان في أغصان الربيع وأوراقه.
فيصرخ الشاعر متألما،غاضبا:
ليس هذا هو الربيع المُنتظر؟
نحن الآن 
في خطر
الأمة:
 في خطر!

أما السبب في هذا التشاؤم لم يكن مرده غير انتشار الفوضى الأمنية وتسليم رقاب البلاد والعباد لمن يحكمهم باسم الدين.
كلما اهتز ميزان العدالة
ورنت عيون الأرامل والثكالى
العطشى:
 لشربة ماء 
الجوعى:
في ليل الشتاء 
الغرقى:
بأمواج الغلاء 
رافعة الأكف 
للسماء
تتضرع بالدعاء 
يغلبها البكاء
علي وطن
 يتقدم لكن.. للوراء
يتجه بقوة 
نحو الشتاء
إن أدركت ..
فاعلم!
وإذا علمت ..
فالزم.!
فمصر
ربيعها يمضي
ويصبح هباءً 
 في هباء!

السبب في هذا التشاؤم لم يكن مرده غير انتشار الفوضى الأمنية وتسليم رقاب البلاد والعباد لمن يحكمهم باسم الدين

فهذه مصر التي أمسى نيلها يجري دموعا ليضيع ربيعها بين تجار المصالح والأهواء ص49، لذلك:
فلا جدوى من وطن
يعبث في مقاديره الحمقى
ويلعب بمصيره الجهلاء
ماذا ترتجين من ربيع؟
ظاهره الرحمة 
وباطنه الشقاء؟
فيه ضاع الأمن 
والتحف الفقراء
فيه السماء
مرحبا بخريف 
بصيف.. بشتاء
بفصل بلا معالم 
ولا أنواء
واذهبي بربيعك بعيدا
فقد خاب فيك 
يا مصر الرجاء! 

هذه المواقف المنددة بربيع حقيقي لم تكن إلا صرخة نقد واحتجاج صادرة من قلب متيم بحب مصر وأمله في غد أفضل وأجمل هذا القلب وقف أكثر من وقفة نقد وتحذير واحتجاج علي سد النهضة الذي كان له حضور بيّن في قصائد الديوان، وبلغة لا تنقصها السخرية يقول:
سد النهضة 
قارب علي الانتهاء
ولتنتظر مصر الفتات
فلتحيا المصالح والموائمات
فأبونا السقا كم مات
وتفرق دمه بين العباد
واختفت ملامحه 
في الربيع المنتظر

وفي خطابه لشجرة الصفصاف وهي تغرس جذورها في ضفاف النيل يطلب منها ألا تنسى بأنه: 
ربما يأتي علينا الغد
ننتظر "شربة" ماء 
(بلا جدوى)
فقد يتأخر الفيضان 
وتنقطع عنا الكهرباء
خلف سدّ النهضة العظيم
فيضل طريقه نحو القاهرة
ويستمر كيد الشيطان
فيجف الدمع في مقلتيك 
وأنتِ تنتظرين مثلنا
بلا جدوى: 
قطرة ماء!

وفي قصيدة "رسالة من ارض الحبشة" يتمرأى الأمل في حالةٍ من السخرية السوداء في أن تتجاوز مصر الحدود وتعيد أمجاد الجدود وتحقق ربيعها المأمول فيهدأ الطوفان: 
وتبدأ ملحمة 
سد "النهضة" العظيم
ولتهنأ مصر 
بربيعها المقيم
فيسود الجفاف 
وتبكي الضفاف
ويشتاق النيل 
لقطرة مطر
تروي السنين العجاف!

ومع كل الصور السوداوية المتشائمة، لم يقطع الأمل بتجاوز كل ما هو سلبي وتقضي مصر على أصحاب الأوسمة والنياشين وملوك التشريفات حيث باتت مصر بأمس الحاجة إلى:
لكن مصر الآن
 بحاجة لرجل
كثير الفعل 
قليل الكلام
يشهر سيفه 
ويطلق رمحه 
ويعرف دربه
ويتقى فينا الرحمن
فلربما نجد فيه غايتنا
ويتحقق علي يديه 
الأمن والأمان

وتتحقق النبوءة ويقود مركب مصر ربّان ماهر قومي وعروبي همه من هم شعب مصر، وأحلامه من أحلامهم وآماله من آمالهم، وفتح نوافذ مصر على ربيع حقيقي مزهر بالأمل مثمر بالعطاء الذي لا ينضب.
من هذا المستوى لم يكن الشاعر حسن حجازي يركب مركبة خالف تُعرف، وإنما كان صاحب الصوت المصري الأصيل بحبه لنيله النبيل وبحرصه على أن تكون مصر في مقدمة الأمم، صوت خاص يحمل لغة خاصة ووجهة نظر مختلفة حاول من خلالها أن يعبر عن رأيه بطريقته الخاصة، وأسلوبه المتسم بالحب والرّغبة لأن تكون مصر أفضل مما هي عليه، ومن البديهي في مثل هذا التناول أن تتسرب الخطابية والمباشرة العادية إلى عدد من القصائد وهذا لا يعيب الشعر أو الشاعر الذي أراد أن يخاطب العامة من الفقراء والحزانى والحالمين بالحرية والعيش المعجون بماء الكرامة ودقيق الوطن، ليتجلى من ذلك تجربة شعرية أهم صفة فيها الصدق في التناول والمصداقية في التعبير الحر والنبيل.