روايات على مائدة التجريب

صنع الله إبراهيم لم يغب عن ملتقى القاهرة الدولي السابع للإبداع الروائي العربي والذي رفض جائزته في الدورة الثانية عام 2003.
السيد نجم: التجريب هو رؤية فنية تحث على الاجتهاد والمغامرة، للتحليق خارج السرب
شريف حتيتة يتناول الاضطراب في خلق العالم الروائي عبر قراءة في نماذج تجريبية من الرواية المصرية
شعيب حليفي يتساءل كيف يستثمر التجريب الروائي عناصر وأدوات الحداثة المجتمعية من تكنولوجيا وغيرها؟
عبير درويش تتحدث عن ملامح التجريب في الرواية العربية الحديثة من خلال، أدب الديستوبيا

لم يغب الروائي المصري صنع الله إبراهيم عن ملتقى القاهرة الدولي السابع للإبداع الروائي العربي "الرواية في عصر المعلومات" والذي رفض جائزته في الدورة الثانية عام 2003. ولكنه كان حاضرا من خلال الأبحاث التي ناقشت أعماله الروائية وتردد اسمه داخل جلسات الملتقى الذي عقده المجلس الأعلى للثقافة خلال الفترة من 20 – 24 أبريل/نيسان 2019.
وفي الجلسة التي رأسها الكاتب السعودي د. نبيل المحيش تحدث الباحث إيهاب المقراني عن آليات التجريب في رواية التاريخ – قراءة في رواية "العمامة والقبعة" لصنع الله إبراهيم، وقال في البداية: إن التوظيف الروائي يمهد للحدث التاريخي في كثير من تجلياته إلى ارتياد آفاق التجريب في المغامرة الروائية، حيث ينتقل التاريخ بوقعائه وشخصياته على سبيل الإيهام المقصود من جانب المبدع، لتتحول الرواية بفعل التوثيق الحقيقي حينا، والمتوهّم أحيانا إلى الحدود الـ "ميتارواية". وفي روايته "العمامة والقبعة" يفجّر صنع الله إبراهيم الطاقات الشعرية الكامنة في التماهي التاريخي بين الماضي المتمثل في وقائع حملة نابليون على الشرق والحاضر المتمثل في النزعات الإمبريالية المستعرة والمستترة في آن، لكي يفتح بابا واسعا للتجريب الروائي الكامن في مراوغة المسافة بين الراوي والمؤرخ أو بين الحدث والوثيقة.
ويوضح المقراني أن النزعة التجريبية تتعمق من خلال تكريس المفارقة الزمنية التي لا تتموضع إلا من خلال التضاد بين طرفين، ويعمل المحتوى الرمزي عمله في صياغة وعي القارئ والقارئ الضمني على حد سواء للحدث الواقع تحت تأثير المضادة الرمزية، حيث يقيم القارئ بصدد النص الروائي التاريخي مواجهة بين العالم الداخلي عبر النص الذي يطلق عليه الدارسون، حسب بنيامين هارشو وثيلبا فرنانديت، الميدان الداخلي المرجعي، ومصادره التاريخية الخاصة خارج النص، وهكذا ينتقل الحدث الروائي في آفاقه التجريبية من واقع الإنتاج والإبداع إلى واقع القراءة والتلقي. 

Cairo forum for creative fiction
مراوغة المسافة بين الراوي والمؤرخ 

ويشير الباحث إيهاب المقراني إلى أن في روايته "القبعة والعمامة" يتجاوز صنع الله إبراهيم الواقع الحكائي المتخيل ليكتنه الواقع التاريخي ا لموثَّق، متكئا على رهان استشراف ما لا يجئ، ذلك ا لرهان الذي لا يكف المبدعون من اللعب عليه من قديم سعيا إلى الوصول إلى بيضة الديك.
وعن "التجريب والرقمية في مشهد الرواية العربية" تحدث الباحث السيد نجم، فقال إن التجريب هو: "رؤية فنية تحث على الاجتهاد والمغامرة، للتحليق خارج السرب". وقال عن معنى التقنية الرقمية إن شيوع الحواسيب المنزلية (الصغيرة) وتحقق شبكة الإنترنت، كانا عاملاً حاسمًا في دخول "التقنية" بفاعلية في رواج معرفي جديد. وعن التقنية في جوهر التجريب أوضح أن الكتابة بمرحلة الكتابة على الحجر والصخر، والألواح المسمارية، والشمع والطين، وغيرها. والآن أصبحت "الشاشة" معبرة عن معالم جديدة.
وقسم نجم بحثه إلى: التقنية الرقمية وعلاقتها بالإبداع السردي، حيث تناول مشكلة المصطلح: ما النص الرقمي؟ تعريف جوليا كريستينا: "النص الرقمي هو جهاز عبر لساني، يعيد توزيع نظام اللسان عن طريق رابطة بالكلام، بهدف الإخبار المباشر".
وقسم أنواع النص الرقمي إلى نوعين: النص الرقمي ذو النسق السلبي، والنص الرقمي ذو النسق الإيجابي.
كما تحدث عن أشكال النص الرقمي وخصائصه؛ والرواية ذات النسق السلبي، وهي تلك التي لم توظف التقنيات التي أتاحتها برامج الحواسيب، وظلت الشاشة بديلًا للورقة. أي رواية خطية. اما الروايات ذات النسق الإيجابي، فهي الأعمال الروائية التي استعانت بالإمكانيات المختلفة للحاسوب. 
كما تناول مفهوم البلاغة الرقمية، وتوقف عند أربعة مصطلحات: "البلاغة الرقمية. البلاغة الإلكترونية وتعني: فن الإقناع في وسائل الإعلام الإلكترونية، أو فن توجيه المحتوى في أنواع جديدة من الخطاب، كالبريد الإلكتروني، صفحات المواقع، ألعاب الفيديو، المدونات، الويكي، الخ.. ثم البلاغة المرئية، وبلاغة الإنترنت.
وعن ملامح البلاغة الرقمية قال إن بلاغة الإنترنت تقاس على جانبين: الاعتبارات الوظيفية، والجانب الآخر جمالي.
وعن الاضطراب في خلق العالم الروائي (قراءة في نماذج تجريبية من الرواية المصرية) تحدث الباحث شريف حتيتة الصافي، فأوضح أنه بحثه يحاول الكشف عن ظاهرة يمكن الوقوف عليها عند قراءة نصوص من الروایة المصرية لبعض الكتاب اليوم، هذه الظاهرة تتمثل في "العالم الروائي المضطرب" الذي أصبحت معه الرواية عصية على التصنيف الموضوعاتي؛ وهذا التأبي والتمرد قد يكون مقصودًا لذاته، وقد يعبر عن حالة من المعضلات الإبداعية التي تواجه روائيي اليوم في محاولتهم اكتشاف عوالم روائية جديدة ومختلفة تدخل في حيز التجريب والابتكار.

ويوضح أن الاضطراب المعني هنا لا يعني تداخل العوالم الروائية، وإنما يعني عدم وجود هوية موضوعاتية للعمل الروائي، وكأن خلق العالم الروائي أصبح معضلة فنية أمام الكاتب.
وقال: قد يبدو الحديث عن العالم الروائي، للوهلة الأولى، ضربًا من الرجعية النقدية؛ ولا سيما وقد أصبح النقد الروائي اليوم مشغولاً بالآليات والتقنيات الفنية التي تصنع أدبية النص الروائي، وذلك بسبب التهوين تارة من شأن العالم الروائي الذي تلعب فيه الشخصية الروائية الدور المنوط بها، وبسبب الخلط بين العالم الروائي والمضمون الروائي تارة أخرى، ومن ثم فقد صار من الضروري متابعة العوالم الروائية التي يبتكرها مبدعو اليوم، لتبين مدى القدرة التي يتمتع بها هؤلاء المبدعون على خلق عوالم روائية مغايرة تعكس خصوصية فنية واستفادة من المدونة الروائية العالمية، إذ تكمن أهمية العالم الروائي في أنه كاشف عن قدرة المبدع على التخيل وبناء متخيل سردي متميز.
ويؤكد شريف حتيتة أن ورقته تطمح إلى الكشف عن الظاهرة ومبرراتها الفنية من خلال التطبيق على نماذج من الرواية المصرية التي يكتبها بعض المبدعين اليوم، وقد تمثلت في أربعة أعمال روائية هي: "حذاء فلليني" لوحيد الطويلة، و"حارس الفيسبوك" لشريف صالح، و"سورة الأفعى" لمصطفى الشيمي، و"الكتاب الأعمى" لمحمود صلاح.
وتحدث الباحث المغربي شعيب حليفي عن "المعرفة والتخييل في الرواية العربية" فأوضح أن ورقته ترسم مسار مناقشة موضوع الرواية العربية وهي تخوض غمار التجريب باعتباره مغامرة لا تُخل بقواعد السرد الروائي، بحثًا عن معادلة الحفاظ على الرواية جنسًا قائمًا، راكم تاريخًا من التمثلات عن الذات والمجتمع والتاريخ.
وقال إن بحثه ينطلق من إشكالية مفادها: كيف يستثمر التجريب الروائي عناصر وأدوات الحداثة المجتمعية من تكنولوجيا وغيرها، غاية بناء معمار متجدد يكسر ميثاق الخطية والبناء التسلسلي، وتقويض الدلالات التقليدية. وأشار إلى أن مقاربة هذه الإشكالية تتحدد انطلاقًا من مفاتيح مفاهيمية يمكن اختصارها فيما يلي: التجريب، التخييل، المعرفة، الحداثة، المجتمع.
ومن المداخل الأساسية لورقة شعيب حليفي أن الرواية ارتبطت، دائمًا، بالتنظير الذي جعل منها شكلاً تواصليًّا وتفاعليًّا مع كل الأشكال التعبيرية، وجعلها مفتوحة على بنيات وأصوات أخرى، وأن التجريب بداخلها كان مطمح الروائيين من أجل كتابة نص مغاير برؤى جديدة تغير من قواعد اللعب، كما أن المعرفة بالنسبة إليها رأسمال ضروري يتحقق عبره وجود وقوة التخييل وخلق معجم يؤسس لعالم آخر يصارع الواقعي. يُبدع التخييل مجتمعًا محلومًا به انطلاقًا من توظيف ما هو كائن لإنتاج معرفة جديدة.
وأوضح أن الرواية، والسرد عمومًا، انطلق من تلك المساحة التي يمنحها له التخييل، في نموذج راسخ يريد أن يكون واقعيًّا بأردية مختلفة ومتنوعة، يستثمر علوم ومعارف عصره في بناء سرد حداثي؛ ونموذج آخر يسابق ويصارع الواقع، باعتماد اللامألوف والعجيب والخارق في الإنسان والطبيعة والأدوات. 
وفي الجانب التحليلي، لاختبار الفرضيات السابقة حول الرواية والمعرفة والتخييل والمجتمع، تتجه ورقة حليفي إلى تقديم قراءات في شكلين من المتن الروائي: رواية واقعية تشتغل على اليومي انطلاقًا من استثمار مكثف للتكنولوجيا بوصفها أداة للبناء السردي، شكلًا ودلالة (نموذج: في كل أسبوع يوم جمعة لإبراهيم عبدالمجيد)، ورواية من محكي الخيال العلمي، وأخرى من المحكي البوليسي يكون بناؤها أساسًا على المعرفة الحديثة والمتطورة. 

Cairo forum for creative fiction
التجريب كمذهب فني 

آخر المتحدثين في تلك الجلسة كانت الكاتبة عبير درويش وتحدثت عن "ملامح التجريب في الرواية العربية الحديثة، أدب الديستوبيا "حرب الكلبة الثانية"  و"عطارد" نموذجًا. وقالت: نرتئي في بحثنا هذا، إلقاء الضوء على ظاهرة التجريب وآلياتها وكيفية تجليها في النص، عبر معالجة لنصين روائيين: "حرب الكلب الثانية" للروائي "إبراهيم نصر الله"، و"عُطارد" للروائي "محمد ربيع".
وأوضحت أن اختيارها للروايتين ناتج عن التشابه بينهما في أوجه عديدة: صدور الروايتين في فترة زمنية متقاربة. أحدثت الروايتان تفوقًا ملحوظًا. تقارب البناء الشكلي والنسق السردي العام.
ثم تناولت آليات التجريب في كل منهما، وكيف ظهرت تلك الآليات؟ وهل وُفِّق الروائيان في مسارهما الروائي التجريبي؟ وهل أضافا تجديدًا لهذا المسار؟ عن هذه الأسئلة كانت الإجابات عبر المقارنة بين بنية الروايتين الأسلوبية والمضمونية في البحث بقسميه: القسم الأول: مقدمة بعنوان "رصد تجليات التجريب في النص الروائي العربي الجديد" مع تحديد ملامحه التشكيلية. والآليات والوسائل التي اشتغل عليها الروائي العربي في صياغة أفكاره المعرفية والأدبية لتشكيل مادة روائية والتأثيث لإيقاع سردي جديد وفق منظوره.
والقسم الثاني: آليات، وتقنيات، وسمات التجريب في الروايتين (العنوان – البداية - التقطيع السردي - النسق الزمني المتقاطع – المونتاج – اللغة - النهاية). ثم أوضحت كيف مارس الروائيان إبراهيم نصرالله ومحمد ربيع، التجريب كمذهب فني لا يتعارض مع الأنساق الاجتماعية والتاريخية المكونة لهوية السرد العربي.