رواية 'الأفغاني' تعري الوجه العنصري لإيران
تروي رواية "الأفغاني" للروائي الأفغاني عارف فارمان ما يقرب من عقد من حياة المهاجرين الأفغان في إيران، وذلك من خلال هجرة المواطن الأفغاني "علي"، وهو طالب الأدب الفارسي في جامعة كابول في عهد النظام الشيوعي، ومناضل سياسي ضد هذا النظام، أراد هو ورفاقه في الكلية إسقاط نظام بابراك كارمال (1979 ـ 1986) بين عشية وضحاها. وكانت النتيجة القبض على بعض رفاقه وهروب آخرين. يهرب "علي"، ويتم احتجاز والده في السجن لمدة شهر يتعرض خلاله للتعذيب. بعد إطلاق سراحه شجع ابنه على مغادرة أفغانستان لإنقاذ حياته مهاجرا إلى باكستان ومنها إلى إيران التي تشكل المحور الرئيسي من الرواية التي تصف فترة إقامته في إيران.
الرواية التي ترجمها عن الفارسية غسان حمدان، وصدر عن دار خطوط وظلال تكاد تكون بيانا لرغبة المهاجر الأفغاني في تحقيق العدالة في العالم. وذلك من خلال تناولها للتعذيب والإهانات في بلد له نفس اللغة والدين، حيث يتحدث مسؤولوه دائمًا عن الحضارة الإسلامية والثقافة الرفيعة، يقدم فارمان صورة واضحة ولكنها مخجلة للغاية للمضيف وكرم ضيافة ضيفه غير المدعو. فهو يننقد الضيافة الإيرانية كونها تعمد إلى رفض الآخر، الإذلال العنصري والإهانات، الجوع... يتضور الراوي "علي" جوعا عدة مرات، وبدافع الضرورة، يأخذ بقايا الطعام من سلة المهملات ويملأ معدته.
في إيران يتعرض "علي" للإهانة أينما ذهب ويُوصف بأنه أمي ومعتدٍ ومهرب ومدمن مخدرات. يطلق عليه الجميع في كل مكان لقب "الأفغاني". يشرح "علي" بصبر في كل مرة أن لديه اسما مثل كل الناس ويمكنهم مناداته باسمه. لكن الإهانة لا تنتهي عند هذا الحد، يتحدث "علي" عن البطالة. العمل الوحيد الذي يحق له القيام به هو إزالة الشعر بالشمع والبناء والعمل الزراعي. غير مسموح له بالعمل في الأماكن التي تقدم الطعام. لكنه يجد عملا سرا في مطعم للوجبات السريعة، حيث يغسل الأطباق ويقدم الطعام ويتقاضى راتبا صغيرا. التأمين غير مشمول. لا يوجد تدخل أمني. اليوم هناك عمل، لكن الغد غير معروف. وكثيرا ما يتم اعتقاله لارتكابه جرائم لم يرتكبها. حيث يتهم بالاعتداء على مريم ابنة مالكة المطعم التي كان في حالة حب معها ويتعرض في السجن للتعذيب النفسي والجسدي. لكن الجاني الرئيسي (المخطط) هو ابن عم مريم، وهو مجرم محترف. وعندما يدخل "علي" السجن بتهمة تزوير الوثائق، يكون ملفق التهمة ومزور الوثائق شابا إيرانيا.
كان "علي" يظن في البداية أنه وصل إلى أرض "ليس للإسلام فيها حدود"، ولكن أينما ذهب يواجه الحدود. يقول فرمان: "سبب تسمية كتابي بـ "الأفغاني" هو أن كلمة "أفغاني" في إيران تشير إلى الأشخاص الذين يأتون من أفغانستان. على الرغم من أن "الأفغاني" كان يشار إليه في أفغانستان بعملة هذا البلد، إلا أنني شخصيا اخترت هذا الاسم لأنه ليس منا، بل من أولئك الذين يربطوننا بهذه الكلمة، وأكثر من ذلك بسبب الازدراء والإهانة والترحيل".
ويؤكد "حاولت قدر استطاعتي أن أبني رواية 'الأفغاني' مستندا إلى الحقائق التي كانت تحدث في المجتمع الإيراني. 'الأفغاني' ليست خيالا، بل هي نافذة صغيرة جدا على واقع المجتمع الإيراني في تعامله مع المهاجرين الأفغان". ويضيف "بدأت مشاكل الشعب الأفغاني في فترتي نظام حكم كل من كارمال ونجيب الله، وخلال هذه الفترة بدأت هجرة طوفان الشعب الأفغاني إلى إيران وباكستان. وقد غادرت خلال هذه الفترة وحين وصلت إيران شعرت بالمشاكل الداخلية لمجتمعها وسلطتها القمعية مع المهاجرين الأفغان".
يصف الراوي الأحداث بطريقة تقريرية وموجهة نحو الحدث أكثر من الصور والأوصاف السردية. حيث تتناول وقائع هجرة الأفغان والاضطهاد الذي لا يحصى الذي واجهوه في البلدان المجاورة، وخاصة إيران،. ويعالج المشكلة الأساسية للدين، والتي تمنع في معظم الأحيان الفتيان والفتيات الأفغان من الاجتماع معًا في إيران حيث يتم القبض عليهم والتنكيل بهم.
يكشف فارمان الذي عاش لسنوات في إيران كمهاجر غير شرعي، أن فكرة الرواية ولدت عندما كان مسافراً من مطار مهر أباد الإيراني إلى الهند و"أعتقد أن ذلك بسبب سنوات من المعاناة والإذلال والشتائم والغربة ومعاداة الأفغانيين"، قد لعبت طريقة عنصرية النظام الإيراني دورا قويا وكاشفا في تشكيل الرواية. حتى لقد أدت هذه العنصرية التي واجهها الراوي "علي" إلى قتل قدرته على الابتكار".
مقتطف من الرواية
وانطلقت وأنا لا أرى أي شيء. هبطت الدرج. وهناك شعرت بأنهم يقتادونني إلى القبو لكي يقتلوني هناك. ودعت العالم والحياة والهواء وكل ما كنت متعلقاً به. تحركت بعدما دفعني أحدهم؛ ربما اصطدمت قدمي في وسط الحجرة بشيء ما. كان مقعدا فجلست. وعندئذ شرع المحقق في استجوابي:
ـ أين تعيش؟
ـ في طهران.
ـ أين في طهران؟
فأعطيته عنوان مزرعة الدجاج.
ـ ماذا تعمل؟ يا ابن الكلب!
ـ في مزرعة الدجاج
ـ منذ متى وأنت في إيران؟
ـ منذ ثلاث سنوات تقريبا..
ـ وماذا كنت تعمل في أفغانستان؟
ـ كنت أدرس
كنت أدرس الأدب الفارسي .. في الصف الثاني..
ـ يا سلام!.. بارك الله فيك.. إذن كنت تذهب إلى الجامعة أيضا...
ـ أجل
ـ وماذا كنت تفعل مع هاتين السيدة والفتاة؟
أمامنا أمر خير... إن شاء الله.
فسدد لكمة قوية إلى وجهي مباشرة، فوقعت عن المقعد.
أتعرفون ما هو الخير؟! أمر خير... هه... هل ستقول الصدق، أم أستخرجه منك بالقوة؟
لا يوجد أصدق مما قلته. لكن لو من المقرر أن تستخرج بالقوة، فبالتأكيد سيخرج الكذب.
أخذوني إلى حجرة أخرى. وهناك، كشفوا عيني.
مـا من أحد كان هناك. وكانت رائحة الدم تفوح من الجدران بحيث يخاف المرء من وجوده. وفي كل ناحية، كان ثمة علامة من شخص مجهول. كان أحدهم قد رسم خطوطاً على الجدار؛ كما لو أنه قد أحصى الأيام. ألهتني الخطوط والعلامات والذكريات المكتوبة على الجدران. لا أدري كم مر من الوقت حين عادوا مرة أخرى. وهذه المرة، أخذوني إلى حجرة أخرى. تصورت الآن أنه وقت الوداع حقــا، لكــن لا، مــا زال في حيــاتي بقيـة. أدخلـوني في حجـرة كانـت إضاءتهـا ضعيفـة، وتناهـى صـوت البوابـة إلى الأسماع ثقيلا، كـما لـو أنهـا بوابـة قلعـة.
وقفـت هادئـاً؛ وجـاءت اللكمـة الأولى مـن الناحيـة التـي لم أكنـ أتوقعهـا قـط. فسـقطت، وأنهضـوني. ثـم اللكمـة الأخـرى، وأخـرى تلتهـا وركلـوني وراحـوا يضربوننـي بحيـث تصـورت أنهـم يلقوننـي مــن الســماء إلى الأرض. ومهــما صرخــت: "لم أفعــل شــيئا"، كانــوا يســددون لي لكمــة أو ركلــة. انقضــت ســاعة علــى هــذا الأمــر. لم يكــن الأشــخاص الذيــن يعذبوننــي ينبســون ببنــت شــفة؛ كانت وظيفتهم التعذيب فقط. كانت الدماء تنزف من أنفي، وانكسرت بعض أسناني وأصبحت في وضع يجب عليّ أن أزحف كي أصل إلى مكان ما؛ كانت عظامي كلها تؤملني، ويلتهب قفصي الصدري بشدة. وبعد ضربة على رأسي لم أع بشيء آخر.
لا أدري بعد كم ساعة عدت إلى وعيي. وجدت أنني في الغرفة التي اقتادوني إليها في البداية شعرت بالبرودة قليلا، لكن الجو كان حارا. عندما لمست رأسي، رأيت أنه مبلل؛ كان واضحاً أنهم قد سكبوا عليّ الماء البارد. كان جسمي كله يؤملني، وتمنيت لو كانت هناك مرآة حتى أرى وجهي لمرة واحدة على الأقل. حاولت بيدي اليمنى أن ألمس وجهي؛ وجدت شفتي في مكانهإ أنهما كانتا متورمتين. وكان أنفي أيضاً في مكانه. وكانت إحدى عيني تؤلمني كثيرا، ومتورمة أيضا. عبثت بأذني قليلا ووجدت أنهما موجودتان أيضا. وحينما أفتح عيني وأغمضهما كانتا تؤلماني كلتاهما. وعندما أتثاءب، كان عنقي ورأسي يؤلماني. كنت نائما على لوح خشبي متهالك. حاولت أن أقف، لكنني وجدت أني لا أقوى على الحركة. لقد صار جسدي كله قطعة لحم متجمدة. لم أقدر على الحركة؛ كان بوسعي أن أتنفس وينبض قلبي فحسب. ربما ما زال هناك أمل في الحرية... وربما ما زالت مريم حية أيضا.
أحضروا لي قليلا من الطعام لم يكن قابلا للأكل وذكرني بالأيام التي كنت أجمع فيها الطعام من بين القمامة في زاهدان.
وبعد الاستراحة، جاءوا إليّ مرة أخرى. بادر المحقق: "أتريد أن تقول ما علاقاتك بهذه الأسرة، وماذا كنتم تتبادلون أم لا؟"
ـ انغمست في التفكر قليلا في أنهم ربما يشكون في مواد مخدرة، وليست المسألة من أجل الفتاة. ففي هذه الأيام يبحث الضباط كثيراً عن تجار المخدرات، ربما قد ظنوا أنني أحدهم أيضا. عندئذ، أجبت على السؤال بسؤال:
ـ ماذا تتصور؟ ما العلاقة التي بوسعي أن أعقدها مع هذه الأسرة؟
ـ واضح من هيئتك وملاسك.
ـ ما الواضح؟
ـ واضح أنه معك أموال وفيرة.
ـ كم أمتلك من أموال في رأيك؟
ـ أتعرف الثرثرة أيضا، أيها الأفغاني؟. وأضاف: "الآن، إما أن تقول الحقيقة، وإما سأستخرجها منك!
ـ إنني لم أكذب حتى الآن. بوسعك أن تسأل عني من رقم الهاتف هذا.
وأعطيته رقم صاحب المزرعة.. اسأل محل عملي هل أنا من أرباب تلك الأعمال أم لا؟
ـ ماذا تقصد تلك الأعمال، أي أعمال؟
ـ ما أدراني... أتتصور أنني قد حصلت عى المال عن طريق السرقة! أم المخدرات!
ورمقني بريبة تامة
وبعد ظهر ذلك اليوم، اقتادوني إلى غرفة التعذيب. "غرفة التعذيب" ما أسهل نطقها باللسان! لكن منذ لحظة الدخول، أدركت خلايا جسدي ماذا في انتظارها. ومع كل ضربة، كان أحد حاجبي يرتفع إلى أعلى والآخر ينخفض إلى أسفل، ويصيرا علامة استفهام. وازدردت "لماذا" تحت ضربات الركل والدهس. لقد اعتبرت كل شيء بسبب أنني أفغاني... منذ لحظة الدخول إلى غرفة التعذيب، كنت ألمس الأوجاع، وكانت خلايا جسمي تحس بالألم قبل نزول كل جلدة، وأحياناً كنت أنتفض. لقد تعب جسمي من الألم، ولم تعد روحي تمتلك القدرة على تحمل مزيد من التعذيب؛ إلا أنني كنت أعلم أن في هذا المكان ما من قانون وانضباط تحت التعذيب.
كانت الضربات تنهال على جسمي بخسة وبدون توقف. ومع كل ضربة، كنت أقفز من الأرض، ويحرق لهيب الألم جسمي كله وعندئذ كانت الضربات تتوالى على روحي. وعندما تعب معذبي، أدخلوا رأسي وقدمي في إطار شاحنة، وكان ظهري إلى الخارج وعندئذ ألهبـوا ظهري بالسوط كما شاؤوا. وأنا الذي لم أكن أستطيع أن أتحرك حتى، لم يخرج صوتي.
كان هذا شكلا جديدا من التعذيب. وعندما وجدوا أنه لم يعد يصدر مني صوت توقفوا وكنت في حالة ما بين شبه الوعي والإغماء حين سمعت صوت أحدهم يقول: "ما أن تمسك بأفغاني عليك أن تقع عليه بالضرب بدون توقف"! أخرجوني من الإطار. واصطدم شيء ما بكتفي بحيث ظننت أن يدي قطعت. ولم أعد أفهم ماذا حدث.