روجيه غارودي وتنزيه الأصول

كان من الحيف الذي لحق بهذا المثقف النقدي والفيلسوف الماركسي المسلم أن كتبه الأخيرة كان يطبعها على نفقته الشخصية بسبب التكاليف المرتفعة بعدد محدود جدا من النسخ وهي كذلك يطالها التضييق والحجب.

في عام 1982 أعلن المفكر الفرنسي روجيه أو رجاء غارودي (1913/2012) اعتناقه للإسلام وذلك بعد رحلة طويلة تنقل فيها بي  المسيحية البروتستانتية ثم الماركسية وأخيرا الإسلام دون إهمال التأمل والتأثر كثيرا بروحانية البوذية  وبتأملية لاوتسو وكونفوشيوس.

بداية التفكير في الإسلام بدأت يوم كان معتقلا في الصحراء الجزائرية من قبل سلطات فيشي المتعاونة مع النازية  فقد حاول مع رفاقه الهرب من المعتقل لكن الحارس المكلف بحراستهم رفض إطلاق النار عليهم وعلل ذلك بقدسية الروح وعدم جواز إهدارها مما أثار إعجاب غارودي به وقارن بين هذا الموقف من رجل بسيط متواضع الشأن والثقافة وبين سلوكيات الأنظمة الشمولية والديكتاتوريات وجنرالات الحرب ومنظري الحروب الذين يسترخصون الإنسان ويريقون دمه بكل برودة وما الحرب العالمية الأولى والثانية إلا شاهد على وحشية الإنسان ذلك الذي أشكل عليه الإنسان كما كتب أبو حيان التوحيدي ذات مرة.

فصل غارودي من الحزب الشيوعي بعد نقده وقوله إن الاتحاد السوفيتي لم يعد ماركسيا وذلك يعني انحرافا في تطبيق الماركسية مما يخرج بها عن السيادة الحقيقية للبروليتاريا كما نوه ماركس من قبل الذي كتب كذلك أن الفلسفة لم تعد تهتم بتفسير العالم بل تغييره أي إزالة الطبقات والاكتفاء بطبقة واحدة هي طبقة الكادحين والقضاء على استغلال الإنسان للإنسان فالواقع  الذي يوثر في الفكر ويصنعه  ظل طيلة التاريخ واقعا إقطاعيا  أو رأسماليا كرس الطبقية وصنع الإقطاعيون أولا والرأسماليون تاليا أخلاق العالم وفكره وفنه ووعيه مما دفع بالإنسان في غمرة هذا الوعي إلى الاعتقاد أن لا حقيقة إلا داخل هذه المنظومة الفكرية والأخلاقية التي صنعها الٌإقطاع أولا والرأسمالية ثانيا.

رأى غارودي في اشتراكية الاتحاد السوفيتي انحرافا خطيرا عن الماركسية مما دفعه إلى نقده وتسبب ذلك النقد في فصله من الحزب كما رأى في المسيحية انحرافا عن الأصل فتعاليم السيد المسيح تم تحريفها وتشويهها عبر تاريخ طويل ولعل بولس الرسول أول ضالع في الأمر مما جعل المسيحية تتحول بعد ذلك إلى إكليروس  وكهنوت ساند الطغيان للحفاظ على مكاسبه وتموقعه محاربا العقل والفكر العلمي ومكرسا أخلاقا ترضى بالواقع الطبقي وتزكيه ،تحصن الاستبداد بمباركة لاهوتية زادت في تزييف الوعي وأسر الإنسان في نطاق ظلامية العصور الوسطى.

ولم يستثن في نقده الديانة اليهودية فهي كالمسيحية تعرضت للتشويه والتحريف تحت يافطة شعب الله المختار الذي يباح له فعل كل شيء بتفويض إلهي من أجل سيادة العنصر اليهودي على ما عداه.

وحتى الإسلام الذي اعتنقه لم يسلم من نقده فهو مثل اليهودية والمسيحية تعرض للتحريف والتشويه وما هذا الإغراق في التفريعات الفقهية على حساب الجوهر كالشورى والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية المغيبة من قبل الأنظمة الاستبدادية  ملكية كانت أم أميرية أم جمهورية والاهتمام فقط  بالدين الشعائري على حساب الروحانيات والفكر والثقافة  إلا شكل من أشكال الانزياح في تفسير الإسلام وتطبيقه فالجوهر حين تمظهر غدا انحرافا عن العقيدة الإسلامية وما هذه الحروب الطائفية منذ حروب الردة ثم الفتنة الكبرى وحرب الجمل وصفين ثم  الاحتراب في العهد الأموي والعباسي إلى اليوم والاحتراب ين الفرق الدينية والمذاهب الفقهية إلا مظهر من مظاهر تشويه الإسلام وطمس توهجه أي التمسك برماده على حساب وهجه كما كتب الطيب تيزيني ذات مرة.

عاد غارودي بعد رحلته التأملية وسياحته الروحية إلى الجذر الإبراهيمي في نسخه الثلاث الموسوية والعيسوية والمحمدية  التي رآها أصولا واحدة شابها التحريف والتشويه وأن الحق يصدر من مشكاة واحدة،غير أن إسلامه لم ينل عند كثير من الطوائف الدينية وبعض المفكرين الإسلاميين الترحيب اللائق فقد رأت فيه التيارات المحافظة خطرا على الإسلام ذاته فقد ظل في مرمى نيران النقد كونه ينسف أسس الإسلام وكان غارودي لا ينفك ينتقد السلفية في نسختها الوهابية داعيا إلى تجاوزها لأنها شكل من أشكال التعلق بالشكل على حساب الجوهر وأنها  عقبة كأداء في سبيل ارتقاء المسلمين روحيا وفكريا وحضاريا وما هذه العقلية الفقهية إلا شكل من أشكال تسطيح الإسلام واختزاله إلى الشكل على حساب المضمون.

وفي الصف المقابل كردة فعل متحمسة كثيرا لاعتناق غارودي الإسلام هللت كثير من الأوساط لذلك بشكل مبالغ فيه وكأن الإسلام يحتاج إلى تزكية أو مباركة  من مفكر غربي ليكتسب مصداقيته فهو في قفص الاتهام وهي ظاهرة ملحوظة كلما اعتنق فنان أو رياضي أو مثقف الديانة الإسلامية حتى تكاد تصم الآذان من هذه الحماسة وتمتلئ الصحف والمحطات الفضائية بهذه القضية وليس من تفسير لذلك إلا حالة الخواء الفكري والهزيمة الحضارية  والفراغ الثقافي والإحباط النفسي  الذي جعلنا نعيش أزمة حضارية كبرى في حين إن المفكرين والرياضيين والفنانين في الغرب يعتنقون الديانة البوذية مثلا فلا يسمع بذلك أحد فهذا شأن شخصي ليس له من تأثير فكري أو عاطفي أو سياسي على المنظومة الفكرية الحضارية الغربية فقانون اللاتزامن  لابد أن يجعلنا نفكر في مشاكلنا وهمومنا الحضارية لأن الزمن بيننا وبين الغرب متباعد فقضاياه ليست قضايانا وإسلام بعض أفراده لا يحل مشاكلنا ولا يدفعنا خطوة إلى أمام.

وشبيه بذلك ما نراه في وسائل الإعلام ونطالعه في الصحافة حين يتوصل الغرب إلى كشف علمي غير مسبوق فكثيرا ما يسارع بعض الكتاب الإسلاميين والدعاة إلى إعلان سبق القرآن إلى ذلك الكشف مؤكدين أسبقيته مستصغرين إنجاز العقل والجهد الغربيين مع أن العقل اكتشف ما اكتشف في الطبيعة وليس في النص ولو اكتفى المرء بالنص لوحده ما اكتشف ذلك ناهيك عما في ذلك من مخاطرة حمل النص قسريا على متغيرات العلم ومستجداته فهو نسبي ومتغير ولا يثبت على حال.

ما يحسب لغارودي هو شجاعته والتزامه بقضايا الإنسان ونزاهته الفكرية في نقده الصارخ للعولمة وفي هيمنة الولايات المتحدة وفي سيطرة الشركات المتعددة الجنسيات وغسيل الدماغ بالصورة والخبر وتسطيح الوعي وتزييفه من أجل سيادة آلهة السوق وكأن الجماهير قطعان تأتمر بأوامر رأسمالييها  الكبار ولا غرابة في ذلك فماركس نفسه يرى أن البنية الفوقية تبع للبنية التحتية وأن الواقع هو الذي يصنع الوعي .

وهكذا فالإنسان الحديث لم يعرف إلا النكبات والهزات التي ألغت بعده الثالث الروحاني والإنساني وما هذه الأمراض الحضارية كالقلق والانتحار والإحساس بفقد المعنى والقصدية في الوجود وتفشي الجريمة والبطالة والمخدرات والعهر المربح إلا مظهر من مظاهر سيادة التقنية وهيمنة الربح المادي دون الاكتراث بقضايا الإنسان وبالروحانيات والإنسانيات وأميركا بإنجيلها المتعولم وأنبيائها الجدد هم صناع المأساة الحديثة.

ومع إسلام غارودي فإنه لم يتخل عن مسيحيته ولا عن ماركسيته لأن الأصول الثلاث الموسوية والعيسوية والمحمدية أي الديانات ذات الجذر النبوي ثم رأسمال ماركس هي أصول صحيحة  ليس بها من بأس وما شاب العالم من انحراف ديني أو سياسي ليس إلا خطأ في تطبيق هذه الأصول المنزهة فالدين بجذره النبوي والاشتراكية بحرفيتها الماركسية هي أصول صحيحة لانبثاق عهد جديد يسلم فيه المرء من التطرف الديني والانغلاق وهيمنة رأسمال والشركات المتعددة الجنسيات وما ينجم عن ذلك من الزيادة في غنى الشمال وفي فقر الجنوب وفي كثير من أشكال العنف المادي والرمزي والآفات الخطيرة الاجتماعية أي أزمة الإنسان المعاصر في الشرق والغرب على السواء.

يختلف مع غارودي من يختلف ويتفق معه من يتفق وما تركه من تركة فكرية ونضالية ومواقف إنسانية تبقى وجهة نظر شخصية وتأمل في الإنسان والعالم وفي أزمة الحضارة وهذا حقه الإنساني إلا أن الذي يشجب ما تعرض له من ظلم وتضييق وحصار وتهديد شخصي على حياته وحريته بعد إصدار كتابه المثير للجدل" الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" وتشكيكه في الأرقام المعلنة عن عدد ضحايا الهولوكوست وهذا الرقم المعلن حسب غاردي مبالغ فيه كثيرا بهدف مقصود لشرعنة اغتصاب الأراضي الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين وقتلهم بكل برودة بإضفاء طابع المسكنة والضحية على الشعب اليهودي لشرعنة اغتصابهم للأرض وقتل أصحابها.

والغريب أن تتم محاكمة غارودي في فرنسا بلد الأنوار والحريات وبلد فولتير الذي نص أنه قد لا يتفق معك حين تقول ولكنه سيقاتل من أجل حريتك في أن تقول وازدواجية المعايير الغربية، ففي الوقت الذي يعتبر النيل من الأديان والأنبياء حرية فكرية وحقا إنسانيا يحاكم ويدان من يشكك فقط في رقم ويدعو إلى التمحيص والتدقيق في النصوص والوثائق وهي حادثة تاريخية ولاشك أن الهولوكوست كان جريمة ضد الإنسانية وأن قتل اليهود بذلك الشكل البشع عمل بربري ولا إنساني ينافي الحق في الوجود ويمتهن كرامة الإنسان وهو عمل مدان في كل الظروف وفي كل الأمكنة والأزمنة إلا أن البحث العلمي والتحقيق في الوقائع هو حق إنساني كذلك من أجل الحقيقة ومن أجل العلم الذي كتب عنه طه حسين ذات مرة أن الله جعله مشاعا كهذا الماء والهواء.

ولم يقف مع غارودي أيام محنته ضد حملات الإعلام ورسائل التهديد والوعيد ومقالات النيل منه والتشهير به إلا قلة قليلة جدا من مثقفي فرنسا أمثال الأب بيير وأسلم إلى مصيره أعزل وحيدا.

وكان من الحيف الذي لحق بهذا المثقف النقدي والفيلسوف الماركسي المسلم أن كتبه الأخيرة كان يطبعها على نفقته الشخصية بسبب التكاليف المرتفعة بعدد محدود جدا من النسخ وهي كذلك يطالها التضييق والحجب  وفي السابق كان الناشرون يتهافتون على مؤلفاته والإعلام يخطب وده والصحافة تتهافت على مقالاته بأجر مرتفع.

والأدهى أنه حرم من دفن على الطريقة الإسلامية وهي ديانته المصرح بها فعقب نعي قصير  في إحدى الجرائد مدفوع الأجر من قبل عائلته تجاهلته الصحافة والإعلام تماما تم إحراق جثته لتتوالى الأحداث المأساوية في حياته وبعد مماته.