"ريحة الموت" من الهامش إلى المتن الشعري

"الموت" ثيمة أساسية مثمرة إبداعياً في ديوان الشاعر مجدي عبدالرحيم، فلم يكن الموت هو الشيء الرهيب الذي يخشاه الإنسان ويفر من ذكره.
الذات الشاعرة تتشظى على نفسها وتعقد حوارا تحاول فيها مواساة اغترابها 
الذات الشاعرة تعاني مشاعر الفقد بمعنى الإغتراب عن الواقع الفقير في تواصله الإنساني النبيل

بصيرة الشعر الحديد: 
حين يطالع القارئ عنوان ديوان "ريحة الموت" للشاعر مجدي عبدالرحيم تصيبه رجفة العنوان، قبل أن يدرك أن "الموت" ثيمة أساسية مثمرة إبداعياً، فلم يكن الموت هو الشيء الرهيب الذي يخشاه الإنسان ويفر من ذكره، بل يعقد الشاعر صلة الألفة بينه وبين القارئ حيث جعله في بؤرة حياة الشعر من خلال كتابه الإبداعي، إنها شجاعة المواجهة للبحث عن الكينونة. فالذات الشاعرة تتشظي علي نفسها وتعقد حوارا تحاول فيها مواساة اغترابها في قصيدة "صُورَهْ عَ الْحيِطَهْ مَاتِشْبِهْنِيشْ": "صُورهْ عَ الْحِيطَهْ ../ مَاتِعْرَفْنِيشْ / بِتْعَانِدْنِى / وَتْهَاجِمْنِى / وَتْقُولِى: / إنْتَ مِينْ؟". 
وفي قصيدة العنوان "ريحة الموت" نجد الكشف عن هذه الماهية واكتشاف محنة الذات الشاعرة في مواجهة الغير: "أَنَا الْقَبْر .. / اللِّى مَاشِى .. / وِسْطِ الْزِحَامْ / وِانْتُوا .. /  تُبْقُوا .. / مِينْ ؟". 
فالذات الشاعرة تعاني مشاعر الفقد بمعني الإغتراب عن الواقع الفقير في تواصله الإنساني النبيل، وبمعني ضياع البراءة والموت المعنوي، ومحنة قتل "شهد الحنان"، أو بمفردات الطفولة "مَرْر طَعْم الْعَسَلِيَهْ"، لذلك أتت قصيدة "اعتراف" طازجة ملخصة لقصدية الديوان في سرد تاريخ انكسار البراءة، فبعد سرد مبررات اعترافه قبل الموت: "أَنَا كُنْت عَبِيطْ  .. / سَاذِجْ وَاهْبِلْ / وِمِسِلِّمْ نَفْسِى .. / تَسْلِيمْ أَهْالِى بِالْمُفْتَاحْ / لأَىْ قَلْب مِعَدِى  .. / يُنْصُبْ عَليَّا .. / وِيخْدَعْنِى / مَاعْرِفْتِشْ يُومْ / أَمَيَّزْ بِينْ كَمِينْ الْحُزْن .. / وِالأَفْرَاحْ"، فالحقيقة أن الذات الشاعرة متوترة تتألم، وتقاسي اغترابها ووحدتها وتبحث عن الخلاص من خلال البوح الشعري، يقول: "لَوْ حَدْ مِنْكُمْ .. / كَانْ إِنْسَانْ / مَكُنْتِشْ .. / كَتَبْت .. / قَصْيدْتِى".
وتتغني القصائد بثيمة "الأمومة" ممطرة دموع المحبة المزهرة في رحاب الديوان، والخلاص بعزلة الذات الشاعرة، تنقب في ذاتها وتنقسم داخلها تبحث عن حقيقة الإنسان، لذلك كان الإهداء "الأم / القصيدة / الذات الصديقة" منجزات الخلاص من ريحة الموت الطابقة علي الضلوع: "وأَنْفَاسْ طَالْعَهْ .. / بِتْترَنِحْ / مِنْ رَيحِةْ الْمُوتْ / الْطَّابْقَهْ  .. / عَلَى ضْلُوعِى". 

من أسس التصنيف الإبداعي نجد اعتماد الشكل الفني ذاته أساساً للتصنيف، ليناظر أساس "الثيمة" الموضوعية

ورغم أن قرينة "الإغتراب" ومشاعر "الفقد" تكاد تكون ثيمة أساسية في العطاء الإبداعي المعاصر حتي قيل حول شيوع مفهوم "الإغتراب" في الثقافة المعاصرة: "لو وجه علماء اللغة أجهزتهم لرصد ما يكتبه الباحثون والنقاد والفلاسفة في عصرنا الحاضر، فمفردة "الاغتراب" سوف تحظي بالأولوية من حيث تردادها"، ورغم أن "الحزن" بعد رئيس -وليس نزعة - من أبعاد الرؤية الشعرية لدي أجيال من شعراء العصر، ورغم استشراف  الشاعر ذاته "ريحة الموت"، في علامة كتابه الشعري الآخر "حاجة تموت من الحزن"، لكن تظل إحدى أهم منجزات الديوان تلك الصداقة الوارفة للمعني "الحزن / الموت" بأفنان من الأداء الفني الموشى بمعجم شعري ينبئ عن معجم نفسي مصاحب رهيف، وضع معني "الموت" في بؤرة المتن الإبداعي بحيث يسري في ألفة للقارئ كى يعيد اكتشاف كينونته والبحث عن النجاة، يقول في لافتة شعرية: "الزِّيِفْ فَارِدْ غَشَاوْتُهْ نَهَاْر / والْعُيونْ بِتْشُوفْ  الْحَقِيقِةْ / وَقْتِ الاحْتضِارْ".
سرد التكوين الوجداني للذات الشاعرة: 
يزخر الديوان بسمات متعددة من سمات القصيدة الحديثة، منها فكرة "الطريق" الذى يقدم  شذرات من رحلة الحياة، يقول فى نص "شَوَارِعْ عُمْرِى": "وَانَا رَايِح .. / شُغْلِى الصُّبْح / بَفْتَحْ كُلْ شَوَارِعْ . / عُمْرِى / عَ الْمَيَادِينْ / وَاتْهَجَى الأًسْمَاءْ .. / وِالْعَنَاوِينْ / وِبَقَابِلْ نِسْمَهْ لَطِيفَهْ / بِتْطيِّبْ قَلْبِى .. / الْمِسْكِينْ / وَانَا رَاجِعْ .. / بِيتِى الْعَصْر / بَقْفِلْ كُلْ دِرَاجْ .. / الرُّوحْ / بِالْمُفْتَاحْ / وَبَكُونْ مِرْتَاحْ / لمَّا اطْمِّنْ / إَنِّى نِسِيتْ .. / الأَسْمَاءْ)، ومفتاح هذا النص المقابلة بين رحلة الذهاب: "الصبح / الميلاد"، "المعرفة / النسيم"، ورحلة الإياب: "العصر / النسيان"، "تسرب ريحة الموت" من حيطان العمر المعنوي البايشة بتعبير الديوان، بمعني فقد البراءة. 
كما يحضر مفهوم الطريق بمعني الوقوف على الأطلال، أو ذاكرة الأمكنة المعبأة بالذكريات، فنجد في تبويب كامل بالديوان معنون "مَيَّتْ مَاشِي عَ الْكُوبْرِي"، سرد التكوين الشعري الوجدانى للذات الشاعرة، وهي حلقة قائمة بذاتها تعتمد فكرة سرد النمو "التكوين"، حيث اعتمدت القصائد سردا ذاتيا، يبدأ من مشهد الغروب "لمَّا عَدَى الْ 60"، سرد يبدأ من النهاية ثم يرتد للبدايات في قصائد ممتعة متوالية، وهي سمة من نفي الخطية في السرد أو انزياح الزمن السردي، ليحقق القارئ متعته بإعادة ترتيب الزمن، فيبدأ الشاعر القسم الشعري بقصيدة "زهايمر" لكن بمعني إيجابي وهو نسيان الجحود رغم قوة ذاكرة الود والحنان والإنسانية: "ريحة الأيام الحلوة" في طريق الحياة، يقول في لافتة شعرية: "الْحَيَاهْ تَبَارِيحْ / وِالْقُلوبْ مَجَارِيحْ / وِالْحَنِينْ  خَطْوتِينْ / فعَكْسْ سِيرْ الْرِيحْ"، بما  يحقق مفهوم الرومانسية المثالية "المقاومة بالحنين". 
وفكرة الحكايات الشعرية سمة أسلوبية مستقرة في أداء الشاعر ومحببة للقارئ، ففي قصيدة عمدة بالديوان معنونة: "لَمَّا كَانِتْ اِيدْ أَبُويَا بِترْتِعِشْ"، ويمكن للقارئ أن يستحلب حلاوتها وفرادتها كاملة، حيث اتفاق المعني مع المبني باستعمال فجوات سردية في الحكاية الشعرية تم ردمها بتدوين السنوات، بما ينبئ عن تسارع الزمن وانفلات العمر، فهذا العمر مر في لمح البصر، والسنوات "1981 / 2013 / 2016" مفتاح القصيدة تمنحها الواقعية، تفاجئ القارئ، وتهبة الفكرة ودائرية الحكاية. والفن الرفيع يعنى القدرة علي إيجاد المفتاح الفني الذى يعبر عن الثيمة التي تلم شعث الواقع ينظمه الشاعر ليشرق ببصيرة شعرية حديدية. 

Poetry
مَاتْسَاوْمِنيِشْ وِالْحَبْل مَلْفُوفْ عَلَى رَقَبْتِى

مركزية المعني وبطولة القصائد:
من مظاهر قيمة الإتقان والعناية بالمنجز الثقافي للشاعر، تعدد أسس التصنيف في مجموعات من القصائد، باعتماد منهج يقوم علي فكرة "جماعية القصائد" والتي تمنح عطايا تتجاوز عطاء القصائد مفردة، فتتحقق قيم مضافة وثراء على مستوي الموضوع والشكل الفني معاً، فنجد الحشد في العناوين الجانبية، والقيم التعبيرية، والقصص الشعرية، ومجازات عناوين القصائد، والنتف الشعرية القصيرة علي أبواب هذه التبويبات، واعتماد أساس "الثيمة" الموضوعية في مجموعة منها، والشكل الفني في مجموعة أخرى، والأسلوب السردي الشعري اللاخطي في مجموعة ثالثة، وإذا كانت قصيدة عنوان الديوان "ريحة الموت" أتت في مجموعة "وحدي في العالم"، فإن لترتيب الشاعر ديوانه ومشهدية الكتاب الإبداعي وتنوعه، جعل لتلك القصيدة مركزية المعني دون أن تكون مركزية المبني، بمعني أنها لا تستأثر باهتمام القراء دون غيرها، وبما لا يحرم القارئ من إشراقات نصوص متآزرة أخرى في انتاج مشهد شعري كلي منير، ويشار لهذه الفكرة أحياناً بالحلقة أو المتوالية، فالقصائد جميعها تحمل دور البطولة في الكتاب الإبداعي، بل يشمل هذا الأسلوب الجزء كما يشمل الكل، فنجد التبويب المتعدد للقصيدة المفردة ذاتها باستعمال الأرقام، حينا والفجوات السردية حينا آخر. 
الحزن والإبيجراما في قصائد قصيرة: 
من أسس التصنيف الإبداعي نجد اعتماد الشكل الفني ذاته أساساً للتصنيف، ليناظر اساس "الثيمة" الموضوعية، فقد جاء عنوان المجموعة "قصائد قصيرة" يؤكد شكلها الفني، كنصوص شعرية قصيرة، أو ما ُيعرف بالإبيجراما، فنجد التماس مع عصير الحياة، وسوق الخلاصات الحكيمة، وبناء القياس العقلي بمنطق شعري، نموذجًا: "ِسَرَقُتُوا مِنِّى الشَّمْسْ ../ فِ عِزّ النّهَارْ / وِسَرَقْتُوا مِنِّى الْقَمَرْ / فِ قَلْب اللِّيلْ / وِبتْقُولُوا عَليَّا ..كَفِيفْ !"، لتشير لتناص ضمني للنص الشريف "بل مكر الليل والنهار"، والشكل الفني هنا مشارك في متنها الموضوعي، فالحكمة تعني العبارة القصيرة الملخصة الناجزة. والمفردة المركزية الساكنة في أوصال القصائد القصيرة "الحزن"، سواء في مجموعتها الخاصة أو أمثال لها تقطيع قصائد أخرى، أو نتف شعرية منثورة، مع تقديم سر هذا الحزن بفقدان البراءة مقدماً في الحياة، وخطورة ذلك في انسداد شريان المحبة، إضافة إلى بناء الصور الشعرية وتضفيرها في مجازات قائمة علي التشابه النفسي: يقول: "مَاشِى / خَايِفْ يِلْمَحْنِى / طَرِيقْ الْحُزْنْ / الْوَاقِفْ عَلَى نَاصِيْه ../ هَمِّى / يِجْرِى بِسُرْعَهْ / وِيشْطُبْ اسْمِى / مِنْ كَشْف الْمُوتْ / عَلَشَانْ .. / يِشُوفْنِى / يُومَاتِى / وَأَنَا بَتْعَذِبْ".  
وديمومة الصورة في "جلطة الحزن المتكررة الحتمية"، يقول: "بَمْضُغْ حُزْنِى ../ بِشْويشْ / عَلَشَانْ ../ يِجْرِى فِ دَمِّى / بِسْهُولَه ../ وِسْيُولَهْ / وِالْجَلْطَهْ / اللِّى بِتتْكَرَرْ يَوْمِيًّا / يِمْكِنْ / مَاتْجِيشْ"، ولقصيدة أخري ظل سياسي برواء رومانسي محبب، ويعبر فيها عن محنة السكوت، يقول: سُكُوتِكْ ../ وَقْت الْخَطَرْ .. / نَجَاه / وِكَلاَمِى .../ وَقْت الْخَطَرْ .. / حِكْمَه / فَارْجُوكِى ../ مَاتْسَاوْمِنيِشْ ../ وِالْحَبْل مَلْفُوفْ ../ عَلَى رَقَبْتِى"، ونجد التناص الجميل مع حكمة الشعر العربى: "وحسب المنايا أن تكون أمانيا"، "جلوا صارماً وتلوا باطلاً وقالوا صدقنا قلنا: نعم".