زكي سالم يحلل أحلام نجيب محفوظ

زكي سالم يرى أن ثمة تفاصيل جديرة بأن تسجل، وتحكي للأجيال القادمة عن نصوص قصيرة جدًّا من أجمل ما كُتب في الأدب العربي على طول تاريخه.
"أحلام فترة النقاهة" لـم تلق ما تستحقه من نقد
عملية معقدة ومركبة ودقيقة تقوم فيها اليد اليمنى بعمل خارق 

يرى د.زكـي سالم أن ثمة تفاصيل جديرة بأن تسجل، وتحكي للأجيال القادمة عن نصوص قصيرة جدًّا من أجمل ما كُتب في الأدب العربي على طول تاريخه، مقطوعات معجزة، تراوح بين النثر والشعر، ويحق للإنسانية أن تفخر بها ضمن أروع ما أبدعه عباقرة الأدب في الشرق والغرب. والمبدع هو كاتبنا الأكبر نجيب محفوظ، صاحب الأعمال الأدبية الخالدة، وقد كتب هذه النصوص المراوغة على نسق الأحلام بعدما خاض غمار تجارب إبداعية مدهشة، وبعدما حقق إنجازات لا مثيل لها في أدبنا كله، إذ ترجمت أعماله إلى أكثر من أربعين لغة، وعمت شهرته الآفاق، وحقق خلودًا لم يسعَ يومًا إليه، بل ولم يعترف بـه أصلًا!
ويقول في كتابه "خواطر وتأملات حول الأحلام الأخيرة لنجيب محفوظ" الصادر عن دار صفصافة، والذي حلل فيه رؤى وأفكار محفوظ في أحلامه، والتي أحصاها حيث تبلغ 497 حلما "ثمة ملمح مهم للغاية في إبداع محفوظ، وإدراكه يساعدنا على فهم النقلة الرائعة التي قادته إلى كتابة هذه الأحلام المبهرة، إذ إن "التجريب" عنصر جوهري في إبداعه المتميز، وكل عمل من أعماله له أسلوبه الخاص سواء من حيث اللغة أو التكنيك الفني، ومن ثم فكل رواية، أو حتى قصة قصيرة، هي مغامرة فنية لها تميزها الخاص، وتختلف عن غيرها من القصص والروايات. إذ دائمًا ما يسعى في إبداعه إلى التجديد والتطوير، فهو الذي شارك في تأسيس فن الرواية، ثم أرسى دعائمه، وهو – أيضًا - من طوّر في أساليب كتابة القصة القصيرة، وسما بفن الرواية إلى أعلى ذروته".

فيلسوف الرواية استطاع في سنوات حياته الأخيرة، تكثيف رؤيـته الـشاملة في "أحلام فترة النقاهة"

ويضيف سالم "لنـنظر إلى مجموعته القصصية "رأيت في ما يـرى النائـم"، ونرى كيفية اسـتخدامه لـ "تكنيك الحلم" بطريقة مختلفة تمامًا عن "أحلام فترة النقاهة"، ولننظر كذلك إلى عمله الفذ الذي سبق الأحلام مباشرة، أقصد "أصداء السيرة الذاتية"، ولنتأمل في روعة قفزات محفوظ الإبداعية، في كل عمل من أعماله، حتى وصل إلى الأصداء ثم إلى الأحلام، لكننا للأسف الشديد نعاني بشـدة في مجال النقد الأدبي، ومن ثـم لـم تلـق "أحلام فترة النقاهة" ما تستحقه من نقد، ولعل صدور الجزء الثاني من الأحلام، يتيح الفرصة للقراء والنقاد والباحثين للنظر برويـة في المجموعة كلها فهي جديرة بالبحث والدرس والتأمل".
يذكر سالم ما تعرض له أستاذنا العظيم، يوم الجمعة 14 أكتوبر/تشرين الأول 1994، من محاولة اغتيال آثمة، بيد أن المولى - عز وجل - كتب له النجاة من مخطط المجرمين الجهلاء، وهذا الحادث البشع لم يؤثر في روح محفوظ الخلاقة، لكنه أثر بـشدة على يده اليمنى التي خط بها أروع الأعمال الأدبية. فماذا يصنع كاتب يرى أن حياتـه الحقيقية في القراءة والكتابة، فإذا به يفقد تدريجيًّا القدرة على القراءة، ثم تُصاب يده اليمني في محاولة لقتله، ويفقد كذلك القدرة على الكتابة؟ فكيف واجه نجيب محفوظ هذه الحقيقة المؤلمة؟ وكيف تعامل مع يده اليمنى بعدما فقدت القدرة على الإمساك بالقلم؟".
ويوضح "حاول الأستاذ لفترة أن يدرب يده اليسرى على الكتابة، لكنه في النهاية فضل إعادة تدريب يده اليمنى، وقد تحدثنا معه كثيرًا بخصوص فكرة الإملاء، فمن اليسير أن يجلس أحد منا مع الأستاذ لكي يملي عليه كل ما يشاء أن يكتبه من قصص أو مقالات أو غيرهما، ولكنه معتاد على طقوس خاصة مرتبطة بعملية الكتابة، وقد استمر في ممارستها على مدى أكثر من سبعة عقود متصلة، فقد اعتاد على الجلوس وحده على مكتبه الخاص في بيته، ليتأمل طويلًا بهدوء وروية، ثم يخط بقلمه على الورق ما يخطر له من خواطر وأفكار ومعانٍ وتأملات، قد تعجبه بعد كتابتها، وقد لا تعجبه، قد يغير فيها أشياء قليلة أو كثيرة، وقد يطورها ويحورها، وقد يحتفظ بها كما هي، وقد يمزقها تمامًا! فقد كان الأستاذ يصف نفسه بأنه أكثر من يمزق الورق الذي يكتبـه! الأمر كله إذن يرتبط بعاداته الشخصية التي يقدسها، كما يرتبط بملابسات عملية الإبداع وطقوسها الداخلية والخارجية، فالإبداع عند كثـير من المبدعين عمل فردي خاص جدًّا، لا يصلح أن يُشرك فيه غيره معه، كما لا يصلح أن يعتمد فيه على طريقة مختلفة تمامًا عما اعتاد عليه عبر عقود طويلة. فثمة علاقة عضوية تشكلت عبر الأيام والشهور والسنوات والعقود، بين اليد اليمنى التي تكتب، وعملية التفكير في ما سـتخطه من كلمات، وأحداث، وشخصيات، وصراعات، ووقائع، وأفكار، وفلسفات. 
إنها عملية معقدة ومركبة ودقيقة تقوم فيها اليد اليمنى بعمل خارق إذ تنقل أدق خلجات المخ البشري، عبر عضلات اليد وأعصابها، كما تتجاوب بذكاء مع مختلف الإشارات والمشاعر والمعاني والأفكار الصادرة من العقل، والنابعـة من الوعي واللاوعي أيضًا. إنها واحدة من معجزات الوجود الإنساني، أو واحدة من تجليات عبقرية الإبداع الأدبي". 

nageeb
معاني الحياة والموت

وتساءل سالم: ماذا صنع الأستاذ نجيب لحل هذه المعضلة؟ يقول "لقد بدأ تعلم الكتابـة من جديد، من يصدق هذا؟! وهو في هذه السن المتقدمة، وهو غير قادر على رؤية ما يكتبه، أخذ يومًا بعد يوم يدرب يـده على الإمـساك بالقلـم، ثم يدربها على شيء أقرب "للشخبطة" منها للكتابة، ثم بعد جهد عظيم، ومثابرة رائعة، ودأب مدهش، وإصرار مبدع، استطاع نجيب محفوظ أن يتعلم كتابة الحروف مرة أخرى! وهنا أذكر لقاء جمع بين الأستاذ نجيب محفوظ، والفيلسوف الفرنسي رجاء جارودي، وحين سأل جارودي الأستاذ: ماذا تكتب الآن؟ رد عليه الأستاذ ببساطة قائلًا: "أكتب اسمي.. فأنا الآن أتعلم الكتابة". عندئذ ضحكنا جميعًا، بينما إجابة الأستاذ كانت حقيقية تمامًا!". 
ويشير إلى أن مرحلة كتابة الأحلام هذه هي آخر مراحل محفوظ الفنية، وأطولها عمرًا، فقد امتدت إلى أكثر من عقد كامل من الزمان. فهل لنا أن نتأمل مليًّا في الإجابة عن سؤال وجه إلى الأستاذ كثيرًا، وهو: لماذا لجأت إلى هذا الشكل الأدبي؟! ويمكن أن نلخص إجابته في ثلاث نقاط: ضعف الحواس التي كانت تمده بدقائق الواقع وتفاصيله. ساعات الوحدة الطويلة –لعدم القدرة على القراءة ونقص ساعات النوم- التي دفعته إلى التأمل أكثر من ذي قبل في عالمه الداخلي. ثراء عالم الأحلام كمادة طيعة لم يسبق له أن استخدمها بمثل هذه الطريقة في كل إبداعاته السابقة. بالإضافة إلى أن هذا الشكل الفني يمتاز بانفتاحـه على عوالم الداخل والخارج، الشخصي والعام، الذاتي والموضوعي، الواقعي والغرائبي، كما أنه يسر للمبدع طاقة سحرية تصله بعالم الأموات (الغيب) الذي يتأمل فيه كثيرًا، ولا يبعده - أيضًا- عن عالم الأحياء (الشهادة) الذي يفكر فيه طويلًا". 
ويلفت إلى أن ثمة تجارب روحية، وخبرات صوفية "ميتافيزيقية" تتخلق بداخله من سـنوات طويلة جـدًّا، ثم تتوهج وتتألق في ذروة عمر مبدع عبقري ذي وعي حاد وبصيرة ثاقبة، وهذه الرؤية المتجاوزة للواقع المألوف تبحث لنفسها عن وسـيلة أدبية مناسبة للخروج من أسر عالم مادي "فيزيقي" محدود! وهذا الشكل الفني المنفتح على المطلق يسمح للخيال الخصب بالانطلاق بلا حدود، بما يلائم طبيعة موهبته الخلاقة، والمتدفقة كشلال هادر حتى نهاية عمره المثمر. وقد أجاب الأسـتاذ عن سؤال من أحدهم: وماذا بعد الأحلام؟! بقوله: "لما تبقى تنتهي الأول!" فالأحلام تتوالى بلا توقف، ومعالجاته الفنية تهذبها وتحورها وتشكلها كما يـشاء، وأحيانًا يلقي بأحلامه سريعًا إذا لم تعجبه، ويبحث بدقة ومثابرة ووعي عن غيرها! وبعد أن وصلت الأحلام إلى عدة مئات، مما يستحيل تذكرها جميعًا، وبخاصة أن لها صفات الرؤيا في سرعة نـسيانها، سألته: ألا تخشى من تكرار كتابة حلم واحد أكثر من مرة؟! وقد فوجئت برده القاطع: لا! فالحـكمة لا تكرر ذاتها، وهذه النصوص الشعرية، ما هي ـ في ما أرى ـ إلا قطرات من الحكمة المصفاة بيد فنان عبقري ذاق فعرف، ثم أبدع فأوجز الحقيقة كلها في كلمات قليلة جدًّا!".
ويؤكد سالم أن "أحلام فترة النقاهة"، كانت هذه "الجواهر الثمينة" موضوعًا مهمًّا لحواري الدائم معه، فقد انبهرت شخصيًّا بهذه المقطوعات القصصية البديعة، والتي تعد كلماتها القليلة خلاصة مقطرة للتجربة الإبداعية المدهشة لهذا الفيلسـوف المتصوف، الذي اتخذ من الأدب وسيلة للتعبير عن رؤيته الفلسفية للخالق والإنسان والعالم. 
إن أكثر من خمسمائة نص من أعظم النصوص الأدبية في تاريخ الأدب العربي كله، "أي الجزء الأول، والجزء الثاني من أحلام فترة النقاهة"، إذ في كل واحد منها: حكمة بالغة، أو فكرة مدهشة، أو نظرة فلسفية، أو تأمل عميق، أو خبرة روحية، أو شعور إنساني، أو إحساس عام، أو طلة على الواقع، أو رجوع إلى أحداث التاريخ، أو تداخل مدهش بين عنصري الزمان والمكان، أو تعانق مثمر بين الموت والحياة، أو لمحة خاطفة من لمحات الحياة الإنسانية في هذا العصر، وفي كل العصور. 
وها هي هذه المقطوعات البديعة المسماة: "أحلام فترة النقاهة" تتنبأ بثورة يناير العظيمة، قبل حدوثها بسنوات، وتتأمل في وقائع حياتنا الحالية، كما نعاني منها جميعًا، وتفسر لنا كثيرًا من المواقف والأحداث، وتثير فينا دواعي التأمل في معاني الحياة والموت، والنظر في أحوال البشر، والتفكر في شؤون الوطن. صحيح هي نصوص قصيرة جدًّا، مكونة من بضعة أسـطر، أو حتى بضع كلمات، لكن من سينظر إليها جميعًا، ويجمع بين حبات اللؤلؤ والمرجان، سيتمكن، في النهاية، من استكشاف الجوانب المختلفة لفلسفة نجيب محفوظ الصوفية، فقد استطاع فيلسوف الرواية، في سنوات حياته الأخيرة، تكثيف رؤيـته الـشاملة في "أحلام فترة النقاهة".