ستون عاما من المساعدات والمنح الصينية الخارجية

الصين لم تقرن يومًا مساعداتها بأية أغراض سياسية أو استعمارية توسعية، ولم يكن صعبًا على المراقب والدارس أن يدرك الاختلاف الجوهري بين الصين وبين بقية الدول المانحة.
إجمالي المساعدات الصينية الخارجية طيلة ستين عامًا بلغ 256 مليارًا و290 مليون يوان صيني
نطاق المساعدات الصينية لأفريقيا اتسع وظهرت بعض السمات العصرية الجديدة

إن الصين لم تقرن يومًا مساعداتها بأية أغراض سياسية أو استعمارية توسعية، ولم يكن صعبًا على المراقب والدارس أن يدرك الاختلاف الجوهري بين الصين وبين بقية الدول المانحة في هذا الجانب، مما أكسبها سمعة دولية لا تضاهى، وكسبت به الصين قلوب وعقول الملايين من شعوب الدول المتلقية للمساعدات. 
هذه الرؤية للمساعدات الصينية هي ما سعى إليه كل من البروفيسور جوو خونغ رئيس قسم الدراسات الدولية بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية والبرفيسور شيونغ خوو نائب مدير مكتب الدراسات الاقتصادية التابع لمعهد الدراسات الأوروبية التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، وذلك في كتابهما الصادر مؤخرًا ضمن إصدارات سلسلة "قراءات صينية" عن دار صفصافة بعنوان "يد ممدودة.. ستون عاما من المساعدات الصينية الخارجية"، والذي ترجمه محمد عبدالحميد حسين، بإشراف ومراجعة د.حسانين فهمي حسين الأستاذ المساعد جامعة عين شمس والمشرف على السلسلة.
كشف الكتاب الأبيض المعنون باسم "المساعدات الصينية الخارجية"، والصادر عام 2011 أن إجمالي أموال المساعدات الصينية الخارجية طيلة ستين عامًا منذ بدايتها عام 1950 وحتى نهاية عام 2009 بلغ 256 مليارًا و290 مليون يوان صيني، منها 106 مليارات و200 مليون تم تقديمها باعتبارها مساعدات لا ترد، ومنها 76 مليارًا و540 مليونًا في صورة قروض دون فوائد، ومنها 73 مليارًا و550 مليونًا في صورة قروض تفضيلية. وبحلول القرن الواحد والعشرين ومع تطور الصين، لم تتوقف قدراتها فيما يخص المساعدات الخارجية عن النمو. وفي عام 2010 وصل حجم المساعدات الصينية الخارجية إلى 16 مليارًا و500 مليون يوان صيني.

المساعدات الصينية لأفريقيا مرت بعدة مراحل تاريخية مختلفة، منها مراحل ارتبطت ببعض الأحداث البارزة

يذكر المؤلفان أن غالبية الدول النامية المتلقية للمساعدات ترحب بشدة بالمساعدات الصينية، ويرجع ذلك لعدة أسباب، الأول أن الصين تقدم للدول النامية المساعدات التي تحتاجها تلك الدول في مجالات التنمية ومكافحة الفقر. فمثلا يعد نقص الأدوية والخدمات الطبية أمرًا شائعًا في الدول النامية، كما أن هناك 2.5 مليار نسمة يعيشون في مناطق موبوءة بالملاريا، وتتراوح حالات الإصابة سنويًّا بين 300 مليون و500 مليون نسمة، والملاحظ أن 90% من هؤلاء يعيشون في إفريقيا، ويبلغ عدد الوفيات قرابة ثلاثة ملايين نسمة سنويًّا، نصفهم أو يزيد من الأطفال تحت سن خمس سنوات. واستجابة لتلك الظروف أقامت الصين أكثر من 100 مستشفى ومركز للوقاية ومكافحة المرض، بالإضافة إلى إرسال فرق طبية بلغ إجمالي أفرادها 21 ألف طبيب إلى 69 دولة، كما عالجت 260 مليون مواطن من تلك الدول، وقدمت عقار أرتيماسينين الذي طورته الصين كعلاج للملاريا، وكان الهدف واضحًا للغاية، وهو الاستجابة للاحتياجات العاجلة للبقاء الإنساني. 
إن الصين قد ساعدت كذلك في بناء 221 مشروعًا زراعيًّا "بعضها تمثل في تأسيس المزارع، المراكز التقنية النموذجية، ومشروعات توفير المياه في الحقول، وكذلك تم تأسيس 422 مشروعًا يخص البنية التحتية الاقتصادية، ويضم الطرق العامة والجسور، وتم تأسيس 622 مشروعًا يخص المرافق الاجتماعية العامة ومنها المجمعات الرياضية، مراكز المؤتمرات، المدارس وغيرها، بالإضافة إلى حفر آبار الماء العذب، توفير الطاقة، حماية البيئة، ومشروعات التطوير الصناعي وغيرها من المشروعات، كل تلك المشروعات ساعدت الدول النامية بشكل مباشر في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والصعوبات المعيشية.
السبب الثاني لترحيب الدول النامية بالمساعدات الصينية يتمثل في "الاتساق في المواقف بين الصين وتلك الدول فيما يخص تحقيق التنمية والتقدم الاقتصادي"، فالمساعدات الصينية الخارجية متسقة تمامًا مع استراتيجيات وأولويات التنمية في الدول المتلقية للمساعدات، ويتمثل الأسلوب الأساسي في الاستعانة بالمميزات النسبية للصين للربط مع استراتيجيات الأولويات التنموية في تلك الدول، وتقديم أقصى مساعدات ممكنة. وفي مجال المساعدات الخارجية تتمسك الصين بمبدأ احترام السيادة الوطنية مع عدم فرض أي شروط سياسية، وكذلك عدم فرض متطلبات إنمائية غير واقعية على الدول المتلقية للمساعدات، وهو ما عبر عنه الرئيس التنزاني الأسبق جوليوس نيريري بقوله "إن الصين لم تحاول أن تؤثر في سياستنا ولم تحاول المساس بسيادتنا وكرامتنا الوطنية سواءً خلال المساعدات الاقتصادية والتقنية الهائلة التي حصلنا عليها منها أو خلال استغلال وجودنا في المؤتمرات الدولية".
السبب الثالث أن الصين لديها تجربتها الإنمائية الناجحة، والتي تجعل الدول النامية تتمنى أن تحاكيها. لقد انجذب العديد من قادة الدول النامية إلى النموذج الإنمائي الصيني، وكان انطباعهم تجاه التنمية الصينية عميقًا، وكان من الطبيعي أن تعقد المقارنات بين التطور السريع في الصين وأساليب التنمية الصينية وبين نظيرتها في الغرب. 
لقد عاين القادة بأنفسهم أن الصين منذ ثلاثين عامًا كانت فقيرة للغاية، ولكنها نجحت في أن تتحول إلى دولة كبرى تتخلص من الفقر وتسير في طريق التحديث من خلال قوتها الخاصة واعتمادًا على التجارب الأجنبية. ورأوا كذلك أن التجربة الصينية الناجحة تتمثل في "استيعاب السياسات الأجنبية بشكل اختياري وليس نسخها". ولذلك بدأ العديد من الدول في "النظر للشرق"، وتبني سياسة التعلم من الصين. وطرح وزير الصناعة والتجارة التنزاني خلال منتدى التعاون الصيني الإفريقي أن "على الشعوب الإفريقية جمعاء أن تتعلم من الصين، وأن تطور وتستغل الموارد الإفريقية كافة، وذلك للسعي خلف التخلص من الفقر وتحسين مستويات المعيشة". 
السبب الرابع أن الصين لا تقدم المساعدات الهادفة لمصالحها الخاصة. إن بعض الموظفين الأفارقة الذين شاركوا في الدورات التدريبية المقدمة من خلال المساعدات الصينية قالوا إن المساعدات الصينية لإفريقيا تتسم بقدر هائل من التضحية، كما أنها "ساعدت بصدق وبشكل حقيقي الدول المتلقية للمساعدات" في الخلاص من الفقر. إن الصين لا تقدم المساعدات فحسب، بل تنقل التقنيات اللازمة وتخدم المجتمع. إن الصين تطالب موظفيها العاملين في المساعدات بالعمل الجاد ومعاملة الجميع بحياد وسواسية. وفي الكثير من الأحوال يتلقى المهندسون والخبراء الصينيون معاملات أقل من نظرائهم في الدول المتلقية للمساعدات. كما أن الفرق الطبية الصينية تُرسل لرعاية وعلاج المرضى في أقصى بقاع العالم، حتى إن بعضهم يتوجب عليه أن يقوم بأكثر من عشر عمليات جراحية في اليوم الواحد. وفي مشروع السكك الحديدية في تنزانيا وحدها ضحت الصين بتسعة وستين خبيرًا ومهندسًا من خيرة أبنائها. 
يتمثل السبب الخامس في أن كفاءة المساعدات الصينية الخارجية واضحة للجميع. حتى إن المراقبين الغربيين لاحظوا أن الصين دائمًا ما تستطيع أن تقدم للدول المتلقية للمساعدات المشروعات والمواد الأكثر احتياجًا لها وبشكل عاجل.

ويلفت المؤلفان إلى أنه في الوقت الذي تلقى الصين تقدير الدول النامية باعتبارها نموذجًا للتعاون، ظهرت بوادر سوء الفهم تجاه الصين. فبعض الدوائر الإعلامية والدارسين وبعض المنظمات غير الحكومية في العالم الغربي بدأت تتهم المساعدات الصينية بشكل متكرر بتهم "انعدام الشفافية"، وأن الدافع الخفي للصين في تقديم المساعدات إنما يتمثل في "الحصول على الموارد"، وأن المساعدات الصينية "تهدد البيئة وتهدد حقوق الإنسان"، بل وصل الأمر إلى أن الصين "تلعب دورًا غير مسؤول في الشؤون الدولية"، وأنها تتحدى نموذج التنمية الموجود حاليًا"، ونادت تلك الأصوات الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي بتكوين تجمعات ديمقراطية للتقليل من تأثير الصين. وبعد الدراسات الدقيقة والمستفيضة لم يكن من الصعب اكتشاف أن تلك الشخصيات التي خرجت عنها تلك الأقاويل عن المساعدات الصينية الخارجية تفتقد للمعرفة الأساسية والفهم العميق تجاه المساعدات الصينية الخارجية.
ويشير المؤلفان إلى أن المساعدات الصينية الخارجية قد بدأت خلال الفترات الأولى من إنشاء الصين الجديدة. وعلى مر تلك السنوات لعبت المساعدات الصينية الخارجية دورًا تراكميًا خفيًا في مجال العلاقات الخارجية للصين، وكانت من الأدوات الدبلوماسية التي لا يمكن الاستغناء عنها. وقد واجهت الصين الجديدة في المراحل الأولى من تأسيسها عام 1949 ما مارسته عليها الدول الغربية من حصار وتضييق شديدين، وقد ساعدت سياسات "الانحياز" الدبلوماسية التي اتبعتها الصين في حصولها على مساعدات اقتصادية قدمها الاتحاد السوفيتي، ولم تستغل الصين هذه المساعدات في الدخول في طريق التصنيع السريع فحسب، بل بدأت من خلالها في تقديم مساعدات عسكرية واقتصادية لدول المعسكر الاشتراكي، ومنها كوريا الشمالية، فيتنام، منغوليا، وغيرها من الدول. 
وبعد ذلك، وفي سبيل الاستجابة لمتطلبات الاستقلال الوطني والتنمية الاقتصادية لدول آسيا، أفريقيا، وأميركا اللاتينية، بدأت الصين الجديدة كذلك في تقديم مساعدات اقتصادية وتقنية لتلك الدول. وبعد تطبيق سياسات الإصلاح والانفتاح اتسع نطاق المساعدات الصينية الخارجية بشكل تدريجي مستقر، وازداد تأثيرها بشكل مطرد، الأمر الذي استرعى انتباه العالم تدريجيًا. 
ويوضحان المؤلفان أن المساعدات الصينية المتعددة الأطراف تتطور بشكل مستمر مع تطور الدبلوماسية الصينية المتعددة الأطراف، كما اتسع نطاقها وتنوعت أساليبها بشكل مستمر ومتواصل خلال السنوات الأخيرة. وحتى اليوم تقدم الصين الأموال والخدمات للغالبية العظمى من المنظمات الإنمائية المتعددة الأطراف، ولا يبين هذا فقط زيادة وعي الصين بالمسؤولية الدولية ووفائها بالتزاماتها الدولية، ولكن هذه الإسهامات أصبحت في الوقت الراهن أداة مهمة في يد الصين لدفع التنمية العالمية وتحقيق الرخاء المشترك. ففي عام 1971 استعادت الصين مقعدها الشرعي في منظمة الأمم المتحدة، ونظرت حينها الصين إلى الأمم المتحدة باعتبارها قناة يمكن من خلالها دفع التعاون التقني والاقتصادي بين الدول، ودفع "الحوار بين الشمال والجنوب"، و"التعاون بين دول الجنوب"، كما أنها نظرت للأمم المتحدة كذلك باعتبارها منصة مهمة لتطوير العلاقات الاقتصادية الدولية الجديدة. واختارت الصين في البداية أن تدخل النظام الإنمائي للأمم المتحدة، وبذلك انضمت في عام 1972 إلى برنامج الأمم المتحدة للبيئة، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، منظمة الصحة العالمية، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية وغيرها، وبعد ذلك انضمت لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة عام 1973، واستمرت في تقديم المساعدات بعد اشتراكها في تلك الهيئات، وتوالى انضمامها لبقية الهيئات تباعًا. ولم يقف الأمر عند المنظمات الدولية، بل أبلت بلاءً حسنًا على مستوى الكيانات الإقليمية مثل بنك التنمية الأفريقي وبنك التنمية الأسيوي وغيرها. 
ويقولان إن المساعدات الصينية لأفريقيا مرت بعدة مراحل تاريخية مختلفة، منها مراحل ارتبطت ببعض الأحداث البارزة ومنها: مؤتمر باندونج عام 1955، زيارة رئيس الوزراء الصيني شواين لاي لبعض الدول الأفريقية عام 1964 وطرحه "المبادئ الثمانية" الحاكمة للمساعدات الصينية الخارجية، ضبط سياسات المساعدات الخارجية الصينية في منتصف وأواخر سبعينيات القرن العشرين وطرح "سياسة الكلمات السبعة عشر"، وكذلك "المبادرات الخمس الكبرى" الخاصة بالمساعدات الصينية الخارجية والتي طرحها الرئيس خو جين تاو عام 2005 أثناء قمة الأمم المتحدة رفيعة المستوى لتمويل التنمية، وأيضًا "التدابير السياسية الثمانية" الخاصة بالمساعدات الصينية لأفريقيا، والتي طرحت خلال قمة بكين للمنتدى الصيني الأفريقي عام 2006. وطبقًا لتلك الأحداث يمكن تقسيم المساعدات الصينية للدول الأفريقية لثلاث مراحل أساسية؛ حيث تمتد المرحلة الأولى من عام 1955 إلى عام 1975، حيث كان نطاق المساعدات الصينية لدول أفريقيا يزداد باستمرار، وكانت أساليب المساعدات تتأكد بشكل تدريجي، وكان الهدف الأساسي لها هو مساعدة الدول الأفريقية في تنمية وتطوير اقتصادها القومي وتمكنها من الحصول على الاستقلال الاقتصادي؛ وكانت المرحلة الثانية بين عامي 1975 و2005، وخلال تلك المرحلة ونظرًا لصغر نطاق المساعدات الخارجية بسبب سياسات الإصلاح والانفتاح الداخلية في الصين، ومع تطور اقتصاد السوق الاشتراكي في الصين، طفقت الصين تبحث عن أساليب ونماذج إدارية جديدة للمساعدات، وذلك بغرض رفع كفاءة المساعدات المقدمة لأفريقيا، ولكن السياسات الكلية للمساعدات لم يطرأ عليها تغيير أساسي؛ أما المرحلة الثالثة فبدأت عام 2005، حيث اتسع نطاق المساعدات الصينية لأفريقيا، وظهرت بعض السمات العصرية الجديدة.