سجالات نقديّة في فن القصة القصيرة جدًّا
بغداد - يَخْتارُ محمد حيّاوي، فِي كِتَابِه "طائرٌ يشبه السّمكة"، بقسميه سَعادَةُ الفَتى الجرئ ولا تخبروا أجلينا أنَّني ميتة، القِصَّة القَصِيرة جدًّا للتَّعْبيرِ عَمَّا خَفَى من مشهد الحيَاة العِراقيَّة، والانْشِغال بوقائِعِ العُنْفِ القاهِرَة، ليدْخُل في اخْتبَارٍ مُضَاعف، يتمَثَّل في مَحْدُوديَّة المَسَّاحة النصِّيَّة مقابل اتّساع الحَدث الوَاقعِيِّ وتَشابُك ظِلَاله، ففِي الوَقْت الَّذي يُفكَّرُ بآليَّات نَصِّه السردي يَسْتحْضر بَشَاعَة مَا مَرَّ بالموْصِل، المَدينَة والإِنْسان، ليتحَقّق مَشْهدًا بانوراميًا تُنْجِزه القِصَص القَصيرَة جدًّا تَمْثيلًا لمَّا مَرّ ويُمرُّ بالعِراق، وقَدْ اسْتحَال سَاحَةً مفْتُوحَةً للأَهْوَال.
إِنْ مُمْكِنَات التَّجْرِبَة الإِبْداعيَّة في مَجْمُوعَة محمد حيّاوي، تُؤَكّدُ، من جَدِيد، جَدَارَة التَّجْرِبَة السرديّة في العِرَاق، وقدْرَتُها على الخَلْقِ والابْتِكار، فمَا ضَاقَ من مساحَةِ النُّصُوص القَصِيرَة وجَد مُتَّسعَهُ في جِهَةِ الخيَال وهِيَ تَفْتَحُ أَمامَ النُّصوصِ، مهْمَا اقْتَربَتْ من مَرْجعيَّاتِها، سُبُلًا جَديدَةً للإِبْداعِ بِشَحْنتِها الاستعارية الَّتِي تقْتَرِبُ من حدُودِ الشِّعْرِ من أَجْلِ كِتَابَة وقَائِع المَوْتِ المَرِيرَة، في الوَقْت الَّذِي تَحْتَفي فِيه بالقِصَّة القَصِيرَة جدًّا شَكْلًا سرديًا غَيْر مَحْدُود.
إِنَّهُ (الشَّكْلُ الحَشَرِيُّ) حَسَب تَعْبِيرِ الكاتِبَة (لويسا فالينزويلا) الَّتِي تُقارِنُ الرِوايَة بِالثَّدْييات، سوَاء كانَتْ برِيَّةً كالنّمرِ أُم أَليفَةً كالبَقَرة، والقِصَّة القَصِيرَة بِالطَّائِر أَو السَّمَكَة، أَما القِصَّة القَصِيرَة جدًّا فغالِبًا ما تُقارنها بِالحَشرَةِ قَزَحِيَةَ الأَلْوَان، مُسْتمِرَّة التَّطوُّر، والمَجْمُوعَة، بأَلْوَانِها وثرَاء عالَمِها، مِثَال آخَر على رِفْعَة هَذا الفَنّ وجَمَالِه.
النصّ: سيلْفِي مع أَنجلِينا جوْلِي لـ محمد حيّاوي
أَيْقَظَت الْأُمّ ابْنَتها المُرَاهِقة المَهْوُوسَة في الأَفْلام بَعْدَ أن تَناهى إِلى سَمْعها صَوْت أَنجلِينا جوْلِي ونَشِيجهَا وسط أطْلال أَيْمُن الموْصِل، "أنهْضِي يا اِبْنَتي. أَنَّها أَنجلِينا جوْلِي تجوب الخرائِب فَوْقَنَا. أَنَّها فُرْصتكِ لتحْقِيق حُلْمكِ بالتَّصْوِير معها". مسَحَت الفَتاة عَيْنيهَا وعَدَّلَت شعْرها وراحَت تتَسلَّق الأَنْقاض. صادفَتها الكَثِير من الجثث في طَريقها إِلى الأعلى. وهُناك، وجدَت أَنجلِينا جوْلِي تَجْلِس باكيَة، وما أَن رأتها مُقْبِلة، حتَّى ابْتَسمَت لهَا وفرَّدت ذِراعيّها لتَحضّنها، فأخْرَجَت هاتِفها والتقطَت سيلفِي مَعَهَا وعادَت مُسْرِعَة إِلى الأَسْفَل لِتَرِي أُمّها الصُّورة، لكنَّها اِنْدهشَت حين لَمْ تر وجْههَا بجانِب وجْه أَنجلِينا المُبْتَسِم وسط دُموعها. لقد نَسِيَت أَنَّها مَيْتة مُنْذُ أَشْهر تحتَ الأَنْقاض.
التخييل المزدوج في "سيلفي مع انجلينا جولي" لـ عبد علي حسن
يلج القاص والروائي العراقي محمد حياوي بابا جديدة في منجزه الإبداعي وهو القصة القصيرة جدا التي لا يدرك صعوبتها وأهميتها الا من خبر السرد وأفانينه المستدعية المهارة والخبرة والمعرفة لتقديم قص قصير جدا يرقى في مستوى تحققه الى مستوى أي نوع سردي آخر متقدم، وبذا فقد تضاءلت الهوة بين المبدعين وبين أي شكل أدبي مهما قصر أو طالت مساحته وفق مقتضيات بنائه الداخلي، ففي النص الآنف ذكره تسهم فاعلية التخييل في تقديم نمطين من التخييل، فالأول تخييل واقعي ممكن الحدوث، مستثمرا واقعة زيارة الممثلة الأميركية انجلينا جولي الى مدينة الموصل بعد تحريرها من أيدي تنظيم (داعش) للإطلاع على حجم الخراب الذي تركته عملية التحرير بعدها سفيرة الأمم المتحدة للنوايا الحسنة، اذ تشكل الواقع الورقي المتخيل عبر اهتمام المراهقة وحبها للممثلة الأميركية ومعرفة الأم بذلك ودفعها الى اللقاء بها والتقاط صورة (سيلفي) معها، ويكشف النص عبر هذا النمط عن بشاعة مشهد الجثث التي تجاوزتها البنت والأنقاض التي غطتها لتصل إلى الممثلة التي اعتراها شعور طاغ بالمأساة التي يعيشها الناس في هذا الجزء الأيمن من المدينة (الأيمن) وبعد استقبالها للممثلة تلتقط الصورة معها، لقد أسهم هذا النمط التخيلي من تخليق الوظيفة المرجعية للنص، وهو ما يتطابق مع توقع أفق المتلقي وتصديق إمكانية حصول هذا الحدث تمثيلا للواقع القائم، ليظهر النمط التخيلي الثاني وهو تخيل للمتخيل الأول لتتشكل الوظيفة الشعرية للنص بكسر توقع أفق المتلقي وخلق المفارقة حين أسرعت البنت إلى أمها ونزلت إلى الأسفل لتريها الصورة التي خلت إلا من وجه الممثلة المبتسم وسط الدموع التي امتلكت دلالة الحزن على البنت ذاتها.

لقد أسهمت هذه المفارقة في كسر توقع أفق المتلقي بعد معرفته بأن الصورة كانت فقط للممثلة ولم يظهر وجه البنت على الرغم من التقاط البنت للصورة (السيلفي) مع الممثلة، وقد كان بالإمكان ان ينتهي النص عند جملة (لكنها اندهشت حين لم تر وجهها بجانب وجه انجلينا المبتسم وسط دموعها) وحذف الجملة الأخيرة (لقد نسيت أنها ميتة منذ أشهر تحت الأنقاض) لينفتح النص على قراءات متعددة للانتقال بنهاية النص من المستوى التفسيري الى المستوى الايحائي لتفعيل إمكانيات التأويل اقترانا بالقرائن الدلالية التي تضمنها النمط التخيلي الأول، لأن المفارقة التي خلقت الوظيفة الشعرية للنص قد تشكلت عند جملة (لكنها اندهشت.. وسط دموعها) وهي مفارقة تركيبية انتقلت من داخل القص (اندهاش البنت) إلى اندهاش المتلقي.
لقد حازت هذه القصة على ممكنات القصة القصيرة جدا على مستوى بنائها الداخلي والخارجي مضيفة إلى المقدرة التي يتمتع بها القاص محمد حياوي في إدارته للسرد أيا كان شكله ونوعه خبرة سردية متنوعة.
القصة مؤثرة فعلاً، وهي تمتلك كل أدوات بنيان وأسانيد هذا الجنس، من اختزال ولغة وثيمة وحدث استثنائي واقعي/ تخيلي/ ميتافيزيقي، وأتفق مع الناقد عبد علي حسن في ملاحظته بخصوص حذف الجملة الأخيرة، لأنّها في تقديري المتواضع كانت مثل بلاطة سنمار في هذا النص المدهش المؤسس الباذخ في جماله.
الكاتب والروائي هيثم بهنام بردى
على العكس، أجده من النصوص القصير والمكثفة والموحية التي تبتكر رمزيتها، إنّ جملة (لقد نسيت أنها ميتة منذ أشهر تحت الأنقاض) أجدها جميلة وضرورية كخاتمة.
الفنان المصري ماهر جرجيس
نعم بالفعل، القصة ممتعة ومؤثرة اعتمدت السرد المكثّف الذي يحيل القارئ الى الدلالة التي يريد، لقد أجاد الكاتب في الفكرة والبناء، وهذا ما تعوده القارئ منه في الحقيقة.
أمجد نجم الزيدي
يمثل جنس القصة القصيرة جدا أحد الأجناس التي لازالت تلفها الكثير من الاشكاليات، وإحدى هذه الاشكاليات هي كيفية تحديدها أو تمييزها عن بعض الأجناس الكتابية التي تشترك معها في بعض المواصفات الفنية، وربما يكون التكثيف والاقتصاد باللغة أحدها، لذلك يجب ان يكون الكاتب او القاص حذرا في كيفية استخدامه للغة، ويتجنب قدر المستطاع الجمل التفسيرية المغلقة، ويحاول ان يستخدم الجمل المفتوحة، لأنها تمد النص بفضاءات جديدة، من خلال تعدد القراءة والتأويل، الذي يؤدي بالنص الى تجاوز لغته المبتسرة.
وبقراءتي لنص "سيلْفِي مع أَنجلِينا جوْلِي" للكاتب محمد حياوي، والمقالة التي كتبها عنه الاستاذ عبد علي حسن، وكذلك بعض التعليقات عن النص في صفحة الفيس بوك الخاصة بالكاتب؛ والتي اعتبرت أن أحد جمل النص، وبالتحديد الجملة الاخيرة منه (لقد نَسِيَت أَنَّها مَيْتة مُنْذُ أَشْهر تحتَ الأَنْقاض) زائدة ومفسرة لثيمة النص، مما يغلق باب التأويل وتعدد القراءة، ولكني هنا ربما أحمل وجهة نظر مخالفة ومختلفة عن هذه الآراء، لأني أرى ان هذه الجملة تدخل بعلاقات إنشائية وبنائية مع جمل النص الأخرى، لتنشئ دلالة النص، فقد ربط من اعترض على هذه الجملة بين عدم رؤية الفتاة لوجهها بجانب انجلينا جولي في صورة السيلفي وانها (نَسِيَت أَنَّها مَيْتة مُنْذُ أَشْهر تحتَ الأَنْقاض)، والتي اعتقدوا انها تفسر وتغلق النص، بينما لو اعدنا قراءته مجددا لرأينا ان غياب الوجه قد مهد له منذ البداية بصورة غير مباشرة من خلال (أَنَّها أَنجلِينا جوْلِي تجوب الخرائِب فَوْقَنَا)، وأيضا (صادفَتها الكَثِير من الجثث في طَريقها إِلى الأعلى)، والتي هيأت أذهاننا لتلقي تلك النهاية.
إذن لم تكن تلك المفارقة وهي اختفاء وجه الفتاة من صورة السيلفي، والتي اعتبرت هي (الضربة) او ما تسمى (punch line)، والتي هي برأي بعضهم انها شرط لازم لأي نص قصير! هي العلاقة التي بنت دلالة النص، وانما العلاقة بين الفعلين الرئيسيين للنص، وهما (ايقظت) الأم، و(نسيت) الفتاة، وهما الفعلان اللذان يحققان ويبنيان الثيمة المكثفة للنص، حيث إن هناك ترابطا دلاليا بين فعل الايقاظ والنسيان، وذلك من خلال أن النص يقدمهما بوصفهما فعلي حياة، بأن أعيدت الفتاة للحياة بفعل الايقاظ بعد ان كانت نائمة أو ميتة قبل ذلك، أي قبل مجيء انجلينا جولي، والنسيان أي انها نسيت ذلك الموت، أي ان زيارة انجلينا جولي أعادت إحياء هؤلاء الموتى، حتى نسوا انهم قد ماتوا، بينما دلالة غياب وجهة الفتاة من صورة السيلفي دليل إحباط، وأيضا سيقودنا إلى وجهة أخرى أقل أهمية من الدلالة السابقة.
ردّ الناقد عبد علي حسن على مقالة الناقد أمجد نجم الزيدي
الصديق الناقد امجد نجم الزيدي.. لقد اطلعت على قراءتك لنص (سيلفي...) وقطعا هي وجهة نظر ولدتها حيوية النص وجداليته وهو أمر يحسب للنص وكاتبه القاص محمد حياوي، كما تضمنت وجهة نظرك موقفا مغايرا أو مخالفا لما طرحته في مقاربتي للنص، خاصة فيما يتعلق بخاتمته التي اقترحنا رفعها بعدها جملة تفسيرية تغلق النص على وجهة نظر الكاتب، الأمر الذي ستكون فيه أية قراءة محتكمة الى وجهة النظر هذه وبمعنى آخر غلق باب التأويل وتعدد القراءة، اذ وجدنا هذه الجملة ذات وظيفة إبلاغية أو إخبارية لها في القسم الأول من النص جملة من القرائن الدلالية تؤدي ذات الوظيفة وهي (الخرائب فوقنا/ راحت تتسلق الانقاض/ صادفت الكثير من الجثث في طريقها الى الأعلى/ وعادت مسرعة الى الأسفل) فكل هذه القرائن تشير إلى موت الأم والبنت وبقائهم تحت الانقاض، فماذا أرادت الجملة التي اعتبرت فائضة قوله غير ذلك التي اخبرت به تلك القرائن؟ لقد اغلقت هذه الجملة عند حدود هذا الإخبار حتى مع مفردة (نسيت) التي وجدناها تتحرك في ذات الدائرة التي تحركت فيها معاني تلك القرائن التي حرص النص على بثها، لذا وجدنا جملة (اندهشت حين لم تر وجهها بجانب وجه انجلينا المبتسم وسط دموعها) أكثر قدرة على تحقيق المفارقة بعدها اقلاب حال متقاطع مع سير السرد في القسم الأول، فضلا عن قدرة هذه الجملة للانفتاح وتمد النص بفضاءات جديدة من خلال تعدد القراءة والتأويل على حد قولك في صدر تعليقك، كما انها (الجملة) تتماهى كليا مع القدرة التخيلية التي تمتع بها النص ليبث خطابه الدلالي النهائي بموت الأحلام والأماني البسيط منها والكبيرة، مع وافر التقدير لقراءتك الماتعة.