سر الاهتمام الخليجي بالقرن الأفريقي

ثمة تفاؤل بترتيب شؤون وقضايا القرن الأفريقي، واحد من أهم المناطق الحيوية في العالم.

المنطقة التي كانت منسية وتعاني من ويلات الحروب والصراعات، أصبحت الآن محط اهتمام كثير من الدول الإقليمية، ما يؤكد أن هناك حسابات جديدة جعلت من القرن الأفريقي منطقة حيوية وعنصر جذب من قبل دول خارج محيطها الجغرافي التقليدي، مثل إيران وتركيا وقطر، ثم الإمارات والسعودية.

القمم التي عقدت في كل من أبوظبي والرياض، ضمت قيادات دول إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي مؤخرا، وتشير إلى رغبة كبيرة لوضع نواة لقواعد تعاون بدلا من الخلافات، والقفز على الأزمات التي كبدت هذه الدول خسائر كبيرة، أملا في الوصول إلى تشكيل أطر تنموية تعود بالنفع على الجميع، ولها مردودات سياسية وأمنية تحقق لكل طرف ما يصبو إليه من أغراض.

ركلة البداية جاءت عبر تسوية الأزمة الحدودية الممتدة بين إثيوبيا وإريتريا، ثم تلتها ركلات أخرى ضمت جيبوتي والصومال، وبذلت جهود حثيثة لتجاوز العقبات التي تحول دون تحجيم الفرص أمام مشروعات طموحة تقودها كل من الإمارات والسعودية في المنطقة.

المشروعات التنموية التي تتبناها الدول وتأتي من فوائض رؤوس الأموال التي تمتلكها، تحتاج تثبيت مفاصل الأمن الداخلي، وتصفية الأزمات الخارجية الملتهبة، والتوصل إلى حلول مقنعة للصراعات المتجذرة، وتنحية القوى المنافسة التي تتعايش على انتشار النزاعات الإقليمية وليس إخمادها، وهذا من أهم أسرار التركيز الخليجي في القرن الأفريقي.

المؤشرات الراهنة تقول أن أبوظبي والرياض حصلتا على مزايا نوعية في المنطقة، من خلال تدشين قواعد عسكرية، والاستفادة من موانئ بحرية، والاستعداد لضخ أموال كبيرة للمساهمة في نهضة اقتصاديات هذه الدول، وبالتالي جني مكاسب استثمارية واعدة.

الاهتمام الخليجي بدول هذه المنطقة قديم، وثمة وشائج تعاون تاريخية بين الجانبين. ومع نشأة الدولة بمفهومها الحديث في منطقة الخليج تغيرت الأوضاع، وتبدلت الأولويات، وقادت النزاعات التي سادت القرن الأفريقي إلى التباعد نسبيا، وتحولت بعض الدول إلى أشباه دول، تغلبت فيها العناصر القبلية على الوطنية، وتكالبت عليها دول من خارج المنطقة، للاستفادة من السيولة الأمنية في تحقيق أغراضها الإستراتيجية.

تركيا حشرت أقدامها العسكرية والاقتصادية في بعض مناطق الصومال. وقطر فتحت أذرعها لجماعات وتنظيمات متطرفة في عدد من دول المنطقة، وقدمت مساعدات لحكومات ومعارضين أيضا، لتكريس حضورها المادي والمعنوي وتوظيفه في خصوماتها مع الدول التي تستهدفها.

إيران سبقتهما، ومددت نفوذها العسكري مبكرا في بعض الدول، واجتهدت في توسيع وجودها السياسي وطموحها الثقافي، وهو ما لقي قبولا لدى بعض القيادات، واستنفارا لاحقا من جانب آخرين، لكنها تمكنت من مد بصرها ناحية الضفة المقابلة. فتحت قنوات تواصل عابرة للقارات مع الحوثيين في اليمن، ساعدتهم على تقوية شوكتهم العسكرية، وحالت دون النيل من عزيمتهم السياسية.

الحرب التي يقودها التحالف العربي في اليمن، بقيادة السعودية ومعها الإمارات، حققت جزءا من أهدافها، لكنها لم تسقط الحوثيين أو تتمكن من فرض عودة الشرعية إلى صنعاء حتى الآن، كما أن تقويض نفوذ إيران في الخاصرة الجنوبية لمنطقة الخليج لا يزال يواجه عثرات متعددة، ويحتاج المزيد من الوقت.

التفكير الذي تتبناه أبوظبي والرياض حاليا يضم تكتيكات مختلفة. عملية عسكرية متواصلة في اليمن. عملية سياسية (متعثرة) في جنيف. محاولات دءوبة لتطويق اليمن من الخارج، لمنع توصيل إمدادات طهران للحوثيين.

لتحقيق هذا الهدف من الضروري سد الثغرة الأفريقية المقابلة، بتوطيد علاقات التعاون مع الدول التي فتحت أراضيها لإيران. كما أن الدوحة لم تعد تصوراتها مؤتمنة بعد التمادي في رعاية ودعم عناصر إرهابية، ومن المهم قطع أياديها المعنوية، وإبعاد دول القرن الأفريقي عنها، وتقديم مساعدات وتبني مشروعات تجعل من قطر رقما ضعيفا في المعادلة الإقليمية المقبلة.

علاوة على أن أنقرة أصبحت، في نظر الرياض وأبوظبي، صديقا غير موثوق به، وحضورها بكثافة في الصومال والسودان أو غيرهما، يهدد أمن البحر الأحمر، الذي يمثل عنصرا مركزيا في تحالف مصر والسعودية والإمارات والبحرين.

التوجه الداعم لأسس السلام وظهرت معالمه مع كل إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي وجنوب السودان، يتسق مع الخطاب المصري الذي يعلي من قيمة التسويات السياسية للأزمات الإقليمية، ويطالب دوما بمنع التدخلات الخارجية الملتحفة بأجندات مشبوهة في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، ويغلب الإطار التعاوني لتحقيق مصالح جميع الأطراف.

الأزمات الاقتصادية التي تمر بها دول القرن الأفريقي، باتت مدخلا لتعظيم الدور الخليجي السلمي، وأعلنت كل من الإمارات والسعودية تقديم حزمة مساعدات لدول في المنطقة، وإنشاء مجموعة من المشروعات بما يتسق مع المفهوم التنموي الذي يجد صدى كبيرا في سياسات البعض ومن خلاله يمكن الحفاظ على المصالح الإستراتيجية للدول الممولة والصديقة لها.

تطور العلاقات بين الإمارات والسعودية مع دول القرن الأفريقي، يمثل إضافة للدور المصري الرائد في هذه المنطقة، الذي بدأ يستعيد زخمه بعد فترة خمول واجهها السنوات الماضية، وانكفاء على كثير من المشاكل الداخلية، ويمكن أن تساهم أبوظبي والرياض في تسهيل مهمة الحلول التوافقية بين القاهرة وأديس أبابا بشأن سد النهضة، خاصة أن معالم جيدة تشي بإمكانية التفاهم حول النقاط الخلافية.

الصيغة الجماعية للتعاون الاقتصادي والأمن الإقليمي، واحدة من الإبداعات التي تحقق مصالح الدول المنخرطة فيها بالتفاهم على قواسم مشتركة. هذه الصيغة اختبرت في مناطق كثيرة وأثبتت جدواها. ربما لم تصل إلى النتيجة ذاتها في القرن الأفريقي، بحكم شيوع الصراعات، لذلك يعد إطفاؤها المحطة الأولى لبناء المشروعات التنموية.

التفاؤل الذي يصاحب هذا الطريق له ما يدعمه على الأرض، الأمر الذي أكدته القمم التي عقدت في كل من أبوظبي والرياض، وزيارات المسؤولين لعديد من دول القرن الأفريقي، والتراجعات التي تطارد إيران وتركيا وقطر، ولفظ أو تحفظ قيادات دول المنطقة على الأفكار الخادعة التي راودتهم لإيجاد مصالح سياسية واقتصادية وأمنية مع عواصم الدول الثلاث.

التحديات التي تقف أمام نجاح التوجهات الخليجية كبيرة، والنتائج التي تحققت لن تلغي الحديث عن وجود أزمات داخلية وإقليمية خطيرة، وأن هناك دولا ليس من مصلحتها التأسيس لروابط تعاونية بين دول خليجية وأفريقية. العزاء أو الغطاء الذي يدعم الفكرة التنموية وجود قوى إقليمية ودولية تريد الاستثمار فيها سياسيا وأمنيا.